أما التأمين كفكرة ونظرية:
فـلا شـك أنه مقبول لأنه كما يقول الأستاذ السنهوري: «ليس إلا تعاونًا منظمًا بين مجموعـة من الناس لدفع الأخطار وتفتيتها بحيث إذا تعرض بعضهم لخطرٍ تعاون الجميع في مواجهته بتضحية قليلة يبذلها كل منهم يتلافون بها أضرارًا جسيمة تحيق بمن نزل الخطر به م لولا هذا التعاون»[1].
يقول الأستاذ الجليل مصطفى الزرقا: «إن المفهوم الماثل في أذهان علماء القانون لنظام التأمين أنه نظام تعاوني تضامني يؤدي إلى تفتيت أجزاء المخـاطـر والمصائب وتوزيعـهـا على مجموع المستأمنين عن طريق التعويض الذي يدفع للمصاب مـن المـال المجموع من حصيلة أقساطهم بدلاً من أن يبقى الضرر على عاتق المصاب وحـده ويقـولـون: إن الإِسلام في جميع تشريعاته المتعلقة بتنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية يهـدف
إلى إقامة مجتمع على أساس التعاون والتكافل المطلق في الحقوق والواجبات[2].
وعلى هذا الأساس: فهذه فكرة لا شك أنها مقبولة شرعًا ومتفقة مع مقاصد الشريعة في التعاون على البر والإِحسان والتقوى، ولا خلاف في مشروعية ذلك، بل إنه مطلب إسلامي تقوم عليه معظم أحكام الشريعة؛ حيث دعت إلى التعاون والتكافل الاجتماعي والتضامني والأُخوة والإِيثار، بل إن الإِسلام لم يقف عند حد الدعوة الخلقية، والحث والتشجيع وإنما فرض عدة فرائض تنصب على هذا المصب التعاوني، التكافلي، مثل نظام الزكاة، وجعل الفقراء والغارمين وابن السبيل ضمن مصارف الزكاة، ومثل نظام النفقة للأقارب ونظام الصدقة الزائدة على الزكاة عند الضرورة والحاجة، ومثل نظام العواقل، إضافة إلى واجب الدولة في توفير الحياة الكريمة للأفراد وتحمل خزينتها (بيت المال) لدفع الديون إذا مات صاحبها ولم يترك لأدائها مالاً، وتحملها تحقيق التكافل الاجتماعي.
التأمين من حيث تنظيمه في العقود الحالية:
فالخلاف في التأمين كعقود نظمتها القوانين الوضعية، وقد عرضنا في بحثنا السابق (الذي نوقش في الندوة الفقهية الثالثة) آراء المجيزين والمانعين والمتوسطين بإيجاز فلا داعي لتكرارها، وقد انتهينا إلى ترجيح المانعين
للعقود الحالية وإجازة التأمين بكل صوره إذا كان قائمًا على التعاون؛ وذلك لأن أساس الفكرة حتى بخصوص التأمين على الحياة مشروع.
والخـلاصـة:
إن نظام التأمين يتضمن جانبين: أحدهما نظري يعتبر أساسًا له والثاني الجانب التطبيقي المتمثل في العقود التي نظمتها القوانين الوضعية وطبقت في العالم الغربـي بل في عالمنا الإِسلامي.
فالجانب الأول يقوم على عدة أسس فنية وهي:
( أ ) التعاون: حيث لا يستطيع الإِنسان أن يواجه بمفرده الكوارث والمصائب والخسائر الكبيرة فينضم إلى مجموعة يشتركون في تحمل نتائجها فتتوزع نتائج تلك الأخطار عليهم، وبذلك يذوب أثرها على المصاب.
ولهذا التعاون في التأمين صورتان:
1 ــ التعاون الشخصي الذي يتم بين أشخاص.
2 ــ التعاون المادي الذي لا يكون أساسًا بين الأشخاص وإنما بين مخاطر متعددة، وهذا ما تقوم به الشركات الكبرى التي تقوم بنشاط معقد كشركات النقل والبترول والمناجم.
(ب) المقاصة بين المخاطر من خلال توزيع دقيق لعبء المخاطر على مجموع المؤمن لهم عن طريق دفع كل منهم قسطًا معينًا؛ حيث تجري المقاصة بين ما تحقق من المخاطر وما لم يتحقق حين يوزع نتائجها على المؤمن لهم جميعًا، ولذلك لا بد من وجود قدر من التشابه بين تلك المخاطر من حيث طبيعة المخاطر كالحريق مثلاً فلا يضم إليه الوفاة بل يقسم ــ حتى أخطار التأمين على الحياة ــ على أقسام فرعية منضبطة كالتأمين
لحال الحياة، والتأمين على الوفاة، ومن حيث موضوع المخاطر ومحلها، ومن حيث قيمة المخاطر ومدة التأمين.
( ج) عوامل الإِحصاء للاحتمالات من خلال الاعتماد على قانون الأعداد الكبيرة الذي يؤدي إلى نتيجة متقاربة للواقع وكذلك الاعتماد على صفات الخطر المؤمن ضده من حيث الزمن المختلف وانتشار الخطر واتساعه[3].
فهذه الأسس الفنية كلها مقبولة شرعًا، بل هي من مقاصد الشريعة الغراء، وكذلك الأمر لو نظرنا إلى فوائد التأمين ومنافعه التي تتحقق:
* للأفراد:
حيث يجلب لهم الأمان للفرد، حيث يطمئن على أن الأخطار التي يقع عليه في المستقبل لن يتحملها وحده وإنما تتفتت من خلال الشركة، وحينئذ يقدم على المشروعات الاقتصادية المفيدة بشيء من الجرأة والثقة والاطمئنان.
* للمجتمع:
فإن التأمين يؤدي إلى ازدهار المجتمع اقتصاديًّا واجتماعيًّا:
1 ــ حيث لا يصبح الفرد عالة على المجتمع في حالة إصابته وإنما يجد في مبلغ التأمين الذي يعطى له (في التأمين على الأشخاص) موردًا لرزقه.
2 ــ وكذلك لا تفلس الشركة إن أصابت تجارتها أو أعمالها أو مبانيها بجوائح بل تكون في مأمن من حيث الحفاظ على رؤوس أموالها وأصولها[4].
وهذه المنافع أيضًا مشروعة في الإِسلام، بل هو يدعو إلى تحقيقها بكل الوسائل المشروعة، فهو: رحمة كله، خير كله، مصلحة كله، منفعة جميعه.
الجانب الثاني: عقود التأمين:
وإنما الإِشكال في صياغة عقود التأمين على ضوء ما صاغها الفكر الرأسمالي اليهودي حيث لم ينظر فيه بالتأكيد، إلى الضوابط الشرعية بل ولا إلى الضوابط الدينية بصورة عامة، وإنما كان هم الشركات التي تبنت هذه الفكرة هي تحقيق الربح بأية وسيلة ممكنة. وهذا يدفعنا إلى قبول الفكرة وتغيير تلك العقود والوسائل إلى العقود التي تنعدم فيها المخالفات الشرعية، وهذا ما تتجه إليه شركات التأمين الإِسلامية.
مبادىء التأمين الإِسلامي وضوابطه وعناصره الأساسية
يمكن تلخيص هذه المبادىء الأساسية في التأمين الإِسلامي والعناصر الأساسية المطلوب توافرها في عقود التأمين الإِسلامي على الحياة في المبادىء والعناصر الاتية:
أولاً ــ عدم مخالفة أحكام الشريعة الإِسلامية:
أي عدم مخالفة الشركة في عقودها وتصرفاتها لأحكام الشريعة الإِسلامية بأن لا تتضمن شروطًا مخالفة لنص من الكتاب والسنة الصحيحة أو لا تدع أموالها في البنوك الربوية، ولا تتصرف تصرفات مخالفة لها.
ونعني بما سبق:
أن العقود الجديدة لا يشترط فيها أن تكون موافقة لعقد سابق من العقود المقررة في الفقه الإِسلامي، ولا أن تكون شروطها موجودة في الكتاب والسنة وإنما يكتفى في باب المعاملات أن لا تكون مخالفة لأحكام الشريعة الغراء، وذلك لأن الأصل في العقود والشروط
الإِباحة إلا ما دل دليل على حرمتها وهذا ما يعبر عنه بالحرية التعاقدية، وهذا الأصل مدعم بكثير من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة منها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}[5]، وقوله تعالى أيضًا: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}[6].
وأما الأحاديث الدالة على حرمة مخالفة الوعد والعهد فكثيرة، إضافة إلى الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن عمرو بن عوف المزني عن النبـي صلى الله عليه وسلّم قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا»[7] رواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم بلفظ «المسلمون عند شروطهم» أي دون الاستثناء.
وكذلك يتفق هذا الأصل مع مقاصد الشريعة في التيسير على الناس ورفع الحرج وعدم التضييق عليهم كما أنه مدعم بالقاعدة الأصولية: في أن الأصل في الأشياء الإِباحة أو أن الأصل في غير الشعائر (العبادات) الإِباحة[8].
وهذا ما عليه الكثيرون من الفقهاء المتقدمين مثل أحمد، بل إن نـصوص بقية الأمة تدل أيضًا على أن الأصل في العقود والشروط الإِباحة[9].
وقد دافع شيخ الإِسلام «ابن تيمية» عن هذا الأصل دفاعًا رائعًا[10].
كما استنبط بعض المفسرين استنباطات رائعة للاستدلال على هذا الأصل حيث يقول الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}[11]: هذه الاية الكريمة دالة على أن كل عقد وقع التراضي عليه بين الخصمين فإنه انعقد وصح وثبت؛ لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفسادًا بعد الإِصلاح، والنص دال على أنه لا يجوز، وإذا ثبت هذا القول فإن مدلول هذه الاية من هذا الوجه متأكد بعموم قوله تعالى: {…أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ …}[12]، وتحت قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[13].
وتحت سائر العمومات الواردة في وجوب الوفاء بالعهود والعقود، إذا ثبت هذا فنقول: إن وجدنا نصًّا دالاًّ على أن بعض العقود التي وقع التراضي به من الجانبين غير صحيح قضينا فيه بالبطلان تقديمًا للخاص على العام وإلا حكمنا فيه بالصحة رعاية لمدلول هذه العمومات[14].
ثانيًا ــ التبـرُّع:
لا بد حتى تكون عقود التأمين مشروعة أن تكون قائمة (من حيث المبدأ) على التبرع، وذلك لأن عقود المعاوضات المحضة تؤثر فيها الجهالة الفاحشة والغرر بينما لا يؤثران في التبرعات حيث تتحملهما، وذلك لأن لكل عقد في الفقه الإِسلامي ميزانه الخاص، فميزان عقود المعاوضات الصرفة غير ميزان عقود التبرعات المحضة، فميزان النوع الأول قائم على وضوح الرؤية والعلم بالمعقود عليه لأن كلاًّ من العاقدين يدفع شيئًا في مقابل ما يدفعه الاخر، فإذا لم يكن عالمًا به لم يتحقق رضاه المشروع في التجارات كما يقول الله سبحانه وتعالى: {…لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً …}[15].
ولذلك يؤثر فيه الجهالة والغرر لأنه مع وجودهما لم يتحقق الرضا، والعلم، والعدالة التي تقوم عليها الشريعة الإِسلامية الغراء، بينما يقوم ميزان النوع الثاني (التبرعات) على الإِحسان والبر والطمع في الأجر والثواب، وحينئذ لا تؤثر فيه الجهالة.
والأصل في ذلك يعود إلى أن العقود الشرعية في الإِسلام يجب أن لا تؤدي إلى خلق النزاع والمشاكل بين الأفراد، ومن هنا فإذا وجدت جهالة فاحشة أو غرر في عقد قائم على المعاوضة فإنه بالتأكيد يؤدي إلى النزاع، ولذلك تحكم عليه الشريعة من بدايته بالبطلان أو الفساد حتى لا يقدم على مثله المسلم، أما إذا كان العقد في باب التبرعات فلا تؤدي الجهالة أو الغرر إلى النزاع، فلو قال: أهب إليك شاة، ثم بعد ذلك سلم للموهوب له أية شاة فلا نزاع ولا إشكال إذ ليس على المحسنين من سبيل، لكنه لو قال: بعت لك شاة بعشرين دينارًا وقبله الاخر فإنه يؤدي إلى النزاع لأن المشتري يتصور في نفسه شاة بمواصفات خاصة بينما البائع ينظر إلى مصلحته وهكذا، لذلك قطع الشرع هذه الذرائع المؤدية إلى الفساد.
وهذا ما أكده الإِمام القرافي حيث قال: «الفرق… بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر وقاعدة ما لا يؤثر فيه ذلك من التصرفات» ثم قال: «وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان وواسطة، فالطرفان أحدهما
معاوضة صرفة فيجتنب فيها ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة، كما تقدم أن الجهالة ثلاثة أقسام فكذلك الغرر والمشقة. وثانيهما ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة والإِبراء فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال، بل إن كانت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه، فإنه لم يبذل شيئًا بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته، فاقتضت حكمة الشرع الإِحسان الصرف فلا ضرر فيه فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإِحسان التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعًا وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله»[16].
وقد قرر مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بالإِجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم (51) بتاريخ 4/4/1397هـ من جواز التأمين التعاوني بدلاً من التأمين التجاري المحرم للأدلة التالية:
الأول: إن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية لتعويض من يصيبه الضرر فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحًا من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر.
الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النساء، فليس عقود المساهمين ربوية، ولا يستعملون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.
الثالث:أنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع، لأنهم متبرعون، فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة، بخلاف التأمين التجاري، فإنه عقد معاوضة مالية تجارية.
الرابع:قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشيء هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعًا أو مقابل أجر معين.
ورأى المجلس أن يكون التأمين التعاوني على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة للأمور الاتية: