بسم الله الرحمن الرحيم
” الصيرفة الإسلامية “
نموذج جديد للعمل المصرفي في سلطنة عُمان
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبع هداه إلى يوم الدين .
وبعد
فإن الصيرفة الإسلامية تختلف عن الصيرفة التقليدية من حيث الأهداف والوسائل والعقود ، فقد عرّف علماء الاقتصاد البنوك التقليدية بأنها : مؤسسات للإقراض والاقتراض بفائدة ، وخلق الائتمان ، وتقديم خدمات التحويل والضمان والاعتماد المستندي ونحوها من الخدمات المصرفية ، أو هي مؤسسة للتجارة في النقود عن طرق الإقراض والاقتراض بفائدة ، في حين أن المصرف الإسلامي : مؤسسة للادخار والاستثمار والتمويل وتقديم الخدمات المصرفية ، بالإضافة إلى الأهداف المستهدفة من كلا المصرفين.
ويترتب على ذلك أن العقود التي تُنظم العلاقة بين البك التقليدي والعميل في حالة الأخذ هي عقد القرض بدون فائدة في الحساب الجاري ، وعقد القرض بفائدة في التوفير والودائع ، والبنك ملزم قانونياً بإقراضه بفائدة ، ولا يجوز له الاستثمار به ، وأما في حالة دفع المال للعملاء فيتم من خلال عقد القرض بالفائدة ، ومن هنا فإن العقد الوحيد الذي ينظم العلاقات بين البنك والعملاء هو : العقد القرض بفائدة ، وهو عقد ليس للاستثمار ، ولا للمشاركة ، ولا للبناء والتصنيع والتجارة ، والزراعة ، وإنما العميل يأخذ القرض فله الحق في استعماله فيما يريد ، دون النظر إلاّ إلى ملاءة العميل وضماناته ، في حين أن المصرف الإسلامي يأخذ المبالغ في حسابات التوفير ، والودائع على أساس عقد المضاربة الشرعية القائمة على الاستثمار الحقيقي والمشاركة في الغُنم والغرم ، وأما العقود التي تنظم علاقة المصرف الإسلامي بعملائه في حالة دفع الأموال لهم فتتم من خلال مجموعة من العقود مثل : المرابحة ، والمساومة ، والسلم ، والاستصناع ، والمشاركة بجميع أنواعها الدائمة ، والمتناقصة ، والمضاربة ، والمزارعة ، والمساقاة ، والمصادقة ، والإجارة على الأعيان ، أو الخدمات والمنافع سواء كانت إجارة تشغيلية أم منتهية بالتمليك .
ومن المعلوم أن هذه العقود هي عقود ترد على الأعيان والمنافع وتحرك الدورة الاقتصادية ، وتحقق المشاركة الحقيقية ، وكل ذلك يساعد على توفير فُرص العمالة والوظائف ، وقد سمعت بنفسي من بعض المسؤولين في دبي أنه لولا إصرار بنك دبي الإسلامي على عقد الاستصناع ، والمرابحة ، والمشاركة المنتهية بالتمليك ، والإجارة المنتهية بالتمليك لما بُنيت معظم هذه الأبراج والمصانع …
فالمصرف الإسلامي عليه شرعاً أن ينظر أولاً إلى الجدوى الاقتصادية للمشروع ، أو المنافع التي تحصل من خلال شراء الأعيان أو الخدمات ثم ينظر إلى ملاءة العميل وضماناته .
فالمصرف الإسلامي هو في حقيقتته بنك شامل لشركات استثمارية ، وادخارية ، وشركات للتمويل والبناء ، والتأجير والتشغيل بالإضافة إلى الخدمات المصرفية ، في حين أن البنك التقليدي لا يسمح له بحكم القانون في جميع العالم أن يقوم بالاستثمار في أموال المودعين ، ويُحظر من ممارسة البيع والشراء إلاّ بنسبة قليلة في أموال المساهمين فقط دون المودعين .
فهذه الفلسفة في غاية من الأهمية لمعرفة دور الصيرفة الإسلامية في صنع فرص كثيرة على مستوى الدولة من خلال حشد الموارد وتعبئة المدخرات كلها لتشغيلها ، فقد كانت هناك عدة مليارات من الدولارات في عُمان لم تُشغل في الاستثمار والتعمير والبناء بسبب عقيدة أصحابها التي تمنع التعامل بالربا ، وبالتالي فقد كان التعطيل يشمل تطوير أعمال ومصانع وشركات عدد كبير من رجال الأعمال بسبب امتناعهم عن القروض الربوية لأنها محرمة في نظرهم .
وبالإضافة إلى ذلك فإن الصيرفة الإسلامية تقوم بتوظيف الموارد المتاحة ، وتنميتها في مجالات العمل والتصنيع والتجارة والسياحة ، والزراعة والحرف ، والتنمية المستدامة ، ولذلك أقترح في هذا المجال أن تقوم المصارف الإسلامية والفروع الإسلامية في عُمان بإنشاء صناديق استثمارية ومحافظ متنوعة توجه للتنمية الشاملة والمستدامة ، حيث إنها أكثر جرأة من الاستثمار بأموال الودائع .
بالإضافة إلى ما سبق فأقترح الاهتمام الأكبر بترتيب الصكوك الاستثمارية للمشاريع التنموية العملاقة مثل بناء المساكن ، واستكمال البنية التحتية ، كما أقترح أن تقوم المصارف الإسلامية بتحقيق التنمية الاجتماعية من خلال تخفيض نسبة من الأرباح للقروض الاجتماعية كما هو الحال في بنك دبي الإسلامي بالإضافة إلى جمع الصدقات والزكوات لتوجيهها إلى القضاء على الفقر من خلال تمليك أدوات الإنتاج ونحوها ، ولدينا أفكار طيبة في هذا المجال .
ومن هنا فما دمنا نتحدث عن هذا الجانب فإنني أقترح أن تقوم الفروع والمصارف الإسلامية بعمان بتشكيل لجنة عليا للتنسيق والتخطيط في مجال إنشاء فرص العمل للمواطنين وغيرهم ، وللتنمية الشاملة ، وللتعاون البناء للولوج في المشاريع الكبرى.
وأنصح في هذا المجال أن تبتعد بقدر الإمكان من الحيل والمخارج والفقهية مثل التورق المنظم ، والمرابحة العكسية ، والتعامل في سوق المعادن والسلع حيث هو تعامل في الأوراق فقط ، وليس تعاملاً في الأسواق ، فهذه الأمور لا يُحقّق أي تنمية بل تكلف العميل أكثر من التمويل التقليدي بالفائدة ، فلتبدأ بداية صحيحة ولو بتدرج وحكمة ، ولتستفيد من أخطاء الآخرين ، ولتعط الصورة الحقيقية للاقتصاد الإسلامي القائم على الأعيان والمنافع والحقوق وليس على الائتمان والقروض .
فالبنوك والفروع الإسلامية تستطيع تمويل المشاريع الكبرى من خلال مجموعة من العقود الجيدة مثل المرابحة في حالة التمويل الكامل ، والمشاركة الدائمة ، أو المتناقصة من خلال وجود جزء من المال لدى العميل ، والإجارة التشغيلية ، والمنتهية بالتمليك ، وهي من أفضل صيغ التمويل لأنها يمكن تجديد العقد ، والأجرة ونسبة الربح في كل عام.
ونستطيع تمويل رأس المال العامل من خلال المضاربة والمشاركة بجميع أنواعها ، كما أنها تستطيع الدخول في الاستثمار المباشر ، بالإضافة إلى تحقيق السيولة من خلال السلم ، والتورق المنضبط .
وبالإضافة إلى ذلك فلنبدأ في عمان بترتيب صكوك استثمارية إسلامية صحيحة تتوافر فيها الشروط الأساسية التي وضعها المعيار الشرعي ، وبيان المجلس الشرعي ، وذلك بأن تقدم الدولة مثلاً أرضاً كبيرة تقام عليها عشرة آلاف وحدة سكنية أو أكر أو أقل من خلال هذه الصكوك .
وكذلك المشاريع المتعلقة بمشاريع البنية التحتية ، والتنموية والصناعية ، فالبنوك والفروع الإسلامية قادرة على تلبية كل متطلبات المشاريع والشركات والدولة والأفراد من خلال عقودها البالغة إلى حوالي 50 عقداً ، ومجموعة من الصكوك المتنوعة المتلونة التي تعطي كلّ حاجيات المجتمع .
وأخيراً فإننا مع حاجتنا الشديدة إلى التنمية المادية فنحن أكثر حاجة إلى التنمية البشرية من خلال التعليم والمشاريع التعليمية الضخمة ، وإلى التدريب والتأهيل .
ومن هنا أقترح أن تخصص البنوك والفروع الإسلامية بل وجميع البنوك والشركات نسبة من الربح ولو 0.05% لصالح التعليم والتدريب والتأهيل ومراكز البحث والدراسات الجادة ، ولتطوير المنتجات والأدوات والآليات الاقتصادية .
وفي الختام أستطيع القول بكل قناعة بأن الصيرفة الإسلامية ستقدم الكثير والكثير من فرص العمل والتنمية الشاملة إلى سلطنة عمان بشرط واحد ، وهو أن تُحسن التصرف والتعامل وتطبق فعلاً أهداف الاقتصاد الإسلامي بصورة حقيقية وتبتعد عن الشبهات وتلتلزم فعلاً بأحكام الشريعة ومقاصدها ، وبالاجتهادات الجديدة البناءة .
والله الموفق وهو أعلم بالصواب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د. علي محيى الدين القره داغي