الإصلاح والتجديد في الفكر الاقتصادي الإسلامي:
كان عصر العلامة الغزالي من أشد العصور مؤامرة وكيداً من قبل الأعداء على الإسلام، فقد أسقطوا رمز وحدته من خلال إسقاط الخلافة العثمانية، وبذلوا كل جهودهم لإبعاد الإسلام عن الحياة ولا سيما عن الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية ليبقى الإسلام مجرد علاقة روحية، وليسجن في زاوية أو مكان لا مانع لديهم من أن يكون أكبر من مساحة الفاتيكان.
فالحروب العسكرية والفكرية والثقافية والسياسية والإعلامية كانت موجهة كلها نحو النيل من شمولية الإسلام، وذلك بجعله (عضيناً) مجزأً ليس له قوة، ومجرداً عن كل أنظمته، ولذلك وجهوا كل جيوشهم لتحقيق هذا الهدف منها وهو إنشاء الأحزاب الإلحادية والشيوعية والقومية العلمانية وجعل القومية محل الأيدلوجية الدينية، وبذل كل الجهود لنشر الأفكار العلمانية وكل ما يمس عقيدة الإسلام وشموليته وكماله، فأنشأوا القاديانية في شبه القارة الهندية والبهائية والبابية في غيرها، التي هي مسخ للإسلام، ولا تؤمن بخاتمية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبالقرآن العظيم، وبالجهاد، وبالحكم السياسي.
وفي مجال الفكر الاقتصادي حلّت الرأسمالية محل النظام الإسلامي في معظم البلاد الإسلامية، وحينما جاء العسكر بانقلاباتهم في سوريا، ومصر، والعراق، والجزائر وليبيا ونحوها أحلوا الاشتراكية الشيوعية محل النظام الإسلامي.
بل كانت الجهود من جميع أعداء الإسلام في الداخل والخارج وحتى من بعض المسلمين المتأثرين بهم أنه لا يوجد شيء اسمه الاقتصاد الإسلامي.
هنا تصدى لهم الشيخ الغزالي رحمه الله فبدأ باكورة تأليفه في هذا المجال حيث ألّف كتابه (الإسلام والأوضاع الاقتصادية) عام 1947م فأثبت فيه أن الإسلام نظام شامل للحياة وأنه يحمل من الفكر الاقتصادي ما تتحقق به الثروة والنماء والتكافل الاجتماعي بين الطبقات، ثم أتبعه بكتاب آخر سماه (الإسلام والمناهج الاشتراكية) وهو في حقيقته مكمل لكتابه الأول في ميدان الإصلاح الاقتصادي، موضحاً فيه المراد بالتأمين الاجتماعي وتوزيع الملكيات، وبيان مسؤولية الدولة، والفرد عن تحقيق هذا التكافل.
ثم استكمل حلقات هذا الإصلاح الاقتصادي من خلال رده القوي على الرأسماليين والشيوعيين الذين افتروا على الإسلام في نطاق الاقتصاد والملكية، والتكافل الاجتماعي، وذلك من خلال كتابه (الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين).
هذه الكتب الثلاثة ستكون محل دراستنا – في القسم الثاني من هذا البحث – حول مشروع الإصلاح الاقتصادي والنهوض به في عالمنا الإسلامي.
عناصر الإصلاح الاقتصادي الإسلامي:
يتكون الإصلاح الاقتصادي الإسلامي من أربعة عناصر أساسية، هي:
العنصر الأول: ربط الاقتصاد الإسلامي بقيم العقيدة، وتفعيل آثاره على السلوك الاقتصادي:
فقيم العقيدة تعني الإيمان بأن المال مال الله تعالى، وأنه في حقيقته وخَلْقه وعطائه، لله تعالى، قال تعالى: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) وأن الإنسان وكيل فيه، فقال تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).
ويترتب على هذا الإيمان – لو تحقق فعلاً – أن صاحب المال لا يكسبه، ولا ينفقه، ولا يتداوله، ولا يوزعه إلا وفق ما رسمه له الموكل وهو الله تعالى، أو على الأقل لا يخالف ولا يتصرف فيه تصرفاً يتعارض مع تشريعاته.
كما أن ذلك يجعل المالك يسعى بكل جهده إلى إرضاء الموكل الخالق المعطي الواهب، وهذا ما ذكره القرآن الكريم في وصف هؤلاء فقال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً)، في حين ذكر الذي لا يؤمن بالله هذا الإيمان أنه ينفق ماله لليتامى والمساكين، ولا يتعاون بالمال مع جيرانه فقال تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ). ثم إن العقيدة الحقّة تصنع لصاحبها التقوى ومراقبة الله تعلى في جميع تصرفاته من الاكتساب والتجارة حتى الانفاق والاستهلاك. ثم يأتي بعد ذلك دور الإيمان بالله تعالى وصفاته، وبقية أركانه، ولا سيما الإيمان باليوم الآخر الذي هو يوم الجزاء والثواب والعقاب، فهذا يدفع المسلم لمزيد من البذل والعطاء إلى أن يصل إلى الإيثار: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وحينئذ يساهم الفرد المسلم مساهمة فعّالة في تحقيق التكافل الاقتصادي والضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى دور المجتمع والدولة. وقد ركز شيخنا الغزالي رحمه الله على هذه الميزة في كل كتبه الاقتصادية كما سيأتي توضيحه في القسم الثاني.;