مرّ التأمين التعاوني في مرحلته الأولى بصورة مبسطة متواضعة تتمثل في مجموعة ، أو جمعية تعاونية تتكون من مجموعة من الأفراد ذوي حرفة أو تجارة محددة لتفادي الأضرار الناجمة عن الخطر الذي يهددهم ، او يهدد مهنتهم ، مثل أن يتفق مجموعة من التجار أو أصحاب مهنة واحدة على التعاون بينهم من خلال وضع كل واحد منهم مبلغاً من المال يودع عند احدهم فيصرف منه عند وقوع خسارة أو حريق ، أو نحو ذلك أصاب أحدهم .

 وقد عرف الفقيه الأستاذ مصطفى الزرقا هذا النوع بقوله : (وهو تعاون مجموعة من الأشخاص ممن يتعرضون لنوع من المخاطر على تعويض الخسارة التي قد تصيب أحدهم ، عن طريق اكتتابهم بمبالغ نقدية ليؤدى منها التعويض لأي مكتتب منهم عندما يقع الخطر المؤمن منه)[1] .

 وهذا النوع يكاد يكون موجوداً في كل الحضارات والتجمعات البشرية بصورة أو بأخرى ، حيث ذكرت الدراسات الاجتماعية والاقتصادية أنه صدر نظام يتعلق بالخسارة العامة في رودس عام 916 قبل الميلاد ،حيث قضى بتوزيع الضرر الناشئ عن القاء جزء من شحنة السفينة في البحر لتخفيف حمولتها على أصحاب البضائع المشحونة في تلك السفينة ، كما تشير الدراسات إلى وجود هذا التأمين التعاوني البسيط في روما القديمة ، ولدى الفينقيين ، وفي الصين منذ خمسة آلاف سنة ، ولدى الجاهليين العرب حيث ذكر ابن خلدون أن العرب عرفوا ما يفهم منه مثل هذا التأمين البسيط حيث كان تجارهم يتفقون في رحلة الشتاء والصيف على تعويض الجمل الذي يهلك أو يموت من أرباح التجارة الناتجة من الرحلة ، كل واحد منهم حسب نسبة رأس ماله،وكذلك تعويض من بارت تجارته (أي كسدت أو هلكت)[2] .

حكم  التأمين البسيط :

 وهذا النوع من التأمين البسيط مشروع بل هو داخل في المأمور به من التعاون على البر والتقوى ، يقول الأستاذ أبو زهرة : (فأما  الطريقة الأولى (التأمين التعاوني) فهي جائزة شرعاً بلا شبهة مهما كان نوع الخطر المؤمن منه) وهكذا قال الآخرون ، بل صدر قرار بجوازها من مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة عام 1385هـ ـ 1965م ، ومن مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي عام 1392هـ ـ 1972 .

التأمين التعاوني المركب المتمثل في شركة متخصصة خاصة بأعمال التأمين التعاوني ، ويكون جميع المستأمنين (حملة الوثائق) مساهمين في هذه الشركة ، ويتكون منهم الجمعية العمومية ، ثم مجلس الإدارة[3] .

 وهذا النوع من التأمين موجود في بلاد الغرب ، وبالأخص في الدول الاسكندنافية ، حيث توجد شركات التأمين التعاوني وتزاول نشاطها في التأمين التعاوني ، ولكن هذه الشركات تتعامل مع البنوك الربوية ولا تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية ، ولذلك لا يجوز الحكم عليها حكماً عاماً ، ومن هنا تختلف شركات التأمين التعاوني الموجودة في العالم غير الإسلامي عن شركات التأمين الإسلامي في أن الأخيرة لا تلتزم بالتعاون فحسب ، بل تلتزم بجميع أحكام الشريعة الإسلامية ، كما أنها تنفصل فيها الشركة عن حساب التأمين نفسه ، في حين أن شركات التأمين التعاوني الغربية هي نفسها شركات بل هي جمعيات تعاونية قائمة على أساس التعاون واعتبار كل مشارك مساهماً ، وتسمى أيضاً التأمين التبادلي ، لأن فيه معنى تقابل وتبادل التأمين بالنسبة لأعضاء الهيئة التأمينية.

 وقد ثار خلاف بين الباحثين في بداية جمعيات التأمين التبادلي حيث ذهب بعضهم إلى أنها نشأت فيما بين القرن الخامس عشر أو السادس عشر في ألمانيا ، في حين ذهب الآخرون إلى أن بدايتها كانت في أوائل القرن الثامن عشر حيث أنشئت في روتنبرج بألمانيا أول جمعية تأمين تبادلي حرة ومستقلة عام 1726م،ثم أعيد تشكيلها كهيئة تأمين تبادلي اقليمية عام 1754م،في حين يرى فريق ثالث أنها بدأت في لندن وباريس حوالي أعوام 1530م ـ 1545م .

 وأياً كان فإن جمعيات التأمين التبادلي (التعاوني) انتشرت في فرنسا وسويسرا،وبلجيكا، وهولندا،وبريطانيا،وايطاليا،وألمانيا،ونشأت لها فروع كثيرة ، وحظيت بدعم من الحكومات ، وبالأخص في الاتحاد السوفيتي السابق الذي نشطت فيه هذه الجمعيات وأدت دوراً جيداً.

وهذه الجمعيات التعاونية التبادلية تأخذ معظمها بنظام اسهام كل عضو من أعضائها بمبلغ معين متفق عليه مسبقاً وذلك بالنسبة للتأمين من المرض والبطالة ، وحالة الوفاة وأية كارثة أخرى ، وتصدر وثائق التأمين عادة بمبالغ متساوية أو شبه متساوية .

 ومن هؤلاء الأعضاء تتكون الجمعية العمومية ، حيث يكون لكل عضو صوت واحد ، ثم يختارون مجلس إدارة يتولى مسؤولية إدارة اعمالها دون أية مكافأة مالية سوى السكرتير الذي يتفرغ للمجلس فتمنح له مكافأة مناسبة ، وتنبثق من المجلس أو بأمر منه لجنة لتقدير قيمة التعويض المستحق عنها [4].    

 وكانت أقساط التأمين غير ثابتة في البداية،حيث كانت قابلة للزيادة عند الحاجة إليها،ولكن الآن تطورت هذه الجمعيات من خلال الدراسات والاحصائيات بحيث تكون الأقساط المدفوعة مناسبة للتعويضات،وإذا زادت او فاضت فإن جزءاً من الفائض يرد على حملة الوثائق. 

 ومن المميزات ان لا يوجد رأس مال للتأمين التعاوني التبادلي ، كما أنه ليس جمعية تسعى لتحقيق ربح ، وإنما تسعى لتحقيق التعاون والهدف المنشود ، ولذلك فإن الفائض المرجع على حملة المستأمنين ليس ربحاً ، وإنما هو الباقي مما دفعوه بعد المصروفات والتعويضات والاحتياطات المطلوبة [5].

حكم التأمين التعاوني :

 اتفق المعاصرون والمجامع الفقهية على جواز التأمين التعاوني بنوعيه من حيث المبدأ إلا إذا تعاملت شركته أو إدارته بالمحرمات مثل الربا ونحوه [6].

 فقد نص قرار مجمع الفقه الدولي رقم 9(9/2)  على : ( أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون ، وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني)[7] .

 وصدر قرار مفصل من المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي نذكره بنصه لأهميته : (…… كما قرر مجلس المجمع بالاجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في الممكلة العربية السعودية رقم 51 وتأريخ 4/4/1397هـ . من جواز التأمين التعاوني بدلاً عن التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفاً للأدلة الآتية :

الأول : أن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر ، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحاً من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر .

الثاني : خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسأ ، فليس عقود المساهمين ربوية ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية .

الثالث : إنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضة مالية تجارية .

الرابع : قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم استثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئ هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعاً أو مقابل أجر معين ، ورأي المجلس أن يكون التأمين التعاوني على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة للأمور الآتية :

أولاً : الالتزام بالفكر الاقتصادي الإسلامي الذي يترك للأفراد مسؤولية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية ، ولا يأتي دور الدولة إلاّ كعنصر مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به ، وكدور موجه ورقيب لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها .

ثانياً : الالتزام بالفكر التعاوني التأميني الذي بمقتضاه يستقل المتعاونون بالمشروع كله من حيث تشغيله ومن حيث الجهاز التنفيذي ومسؤولية إدارة المشروع .

ثالثاً : تدريب الأهالي على مباشرة التأمين التعاوني وإيجاد المبادرات الفردية والاستفادة من البواعث الشخصية ، فلا شك أن مشاركة الأهالي في الإدارة تجعلهم أكثر حرصاً ويقظة على تجنب وقوع المخاطر التي يدفعون مجتمعين تكلفة تعويضها مما يحقق بالتالي مصلحة لهم في إنجاح التأمين التعاوني ، إذ أن تجنب المخاطر يعود عليهم بأقساط أقل في المستقبل ، كما أن وقوعها قد يحملهم أقساطاً أكبر في المستقبل .

رابعاً : إن صورة الشركة المختلطة لا يجعل التأمين لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه ، بل بمشاركة منها معهم فقط لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية ، وهذا موقف أكثر إيجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسؤولية .

 ويرى المجلس أن يراعى في وضع المواد  التفصيلية للعمل بالتأمين التعاوني الأسس الآتية :

الأول : أن يكون لمنظمة التأمين التعاوني مركز له فروع في كافة المدن ، وأن يكون بالمنظمة أقسام تتوزع بحسب الأخطار المراد تغطيتها وبحسب مختلف فئات ومهن المتعاونين ، كأن يكون هناك قسم للتأمين الصحي وثان للتأمين ضد العجز والشيخوخة……إلخ .

 أو يكون هناك قسم لتأمين الباعة المتجولين وآخر للتجار وثالث للطلبة ورابع لأصحاب المهن الحرة كالمهندسين والأطباء والمحامين ……إلخ .

الثاني : أن تكون منظمة التأمين التعاوني على درجة كبيرة من المرونة والبعد عن الأساليب المعقدة .

الثالث : أن يكون للمنظمة مجلس أعلى يقرر خطط العمل ويقترح ما يلزمها من لوائح وقرارات تكون نافذة إذا اتفقت مع قواعد الشريعة .

الرابع : يمثل الحكومة في هذا المجلس من تختاره من الأعضاء ، ويمثل المساهمين من يختارونه ليساعد ذلك على إشراف الحكومة عليها واطمئنانها على سلامة سيرها وحفظها من التلاعب والفشل .

الخامس : إذا تجاوزت المخاطر موارد الصندوق بما قد يستلزم زيادة الأقساط فتقوم الدولة والمشتركون بتحمل هذه الزيادة .  

 ويؤيد مجلس المجمع الفقهي ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في قراره المذكور بأن يتولى وضع المواد التفصيلية لهذه الشركة التعاونية جماعة من الخبراء المختصين في هذا الشأن .

 والله ولي التوفيق ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه)[8]. انتهى قرار المجمع.

اعلى الصفحة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) يراجع : الأستاذ الزرقا : نظام التأمين ط. مؤسسة الرسالة بعمان ، ص 42 – 43 ود. احمد سالم ملحم : التأمين التعاوني الإسلامي وتطبيقاته في شركة التأمين الإسلامية ، الأردن ط 1420هـ ص 95  ، والمراجع السابقة

([2]) المقدمة لابن خلدون ط. دار الشعب  ص 355 ، ويراجع المصادر السابقة

([3]) د. غريب الجمال : المرجع السابق ص 270

([4]) د. غريب الجمال : المرجع السابق ص 278 ، والمراجع السابقة

([5]) المراجع السابقة

([6]) من ذلك قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي المشار إليه سابقاً ، وقرار مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني 1965 ، وقرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 9(9/2) وجاء في فتوى هيئة الفتوى للراجحي الفتوى رقم 40 أن الهيئة لا تعلم ان أحداً من الطرفين يخالف في جوازه بين علماء العصر .

([7]) يراجع : مجلة المجمع : ع2ج2 ص 545

([8]) يراجع : قرار مجمع الفقه الإسلامي ص 37 ـ 39