أكّد ضرورة إنشاء دار للإفتاء.. د. القره داغي لـ الراية:
تمتع دار الإفتاء بالاستقلالية يمنحها الحرية في إصدار الفتاوى
ضرورة أن تضم الدار متخصصين في الفقه والسياسة والاقتصاد والأسرة
لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف لا تغني عن وجود دار للإفتاء
حوار – رشا عرفة – جريدة الراية :
أكّد الشيخ الدكتور علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسـلمين نائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث أن هناك حاجة حقيقية وملحة لوجود دار للإفتاء لدولة قطر تكون مرجعاً دينياً رسمياً للدولة ولشؤون قطر حكومة وشعباً، على أن تكون مؤسسة مستقلة تضم عدداً من المتخصصين ذوي الأفكار الوسطية المعتدلة، وهم يختارون رئيساً لهم أو أميناً عاماً للإفتاء.
وأكّد القره داغي، في حوار مع الراية أن مراعاة التخصص في الإفتاء مطلوبة، لا سيما في عصرنا الحاضر الذي يحكمه التخصص .. مبينًا أن الله تعالى اشترط للإفتاء أن يكون الشخص قادراً على الاستنباط والتحليل، وهذا يقتضي العلم والفقه والمعلومات والتخصص. وشدد على أن تكون دار الإفتاء – حال إنشائها – مؤسسة مستقلة، حيث إن منحها الاستقلالية سيكون ميزة أخرى تضاف إلى تميز قطر في منح الحرية الكاملة لمثل هذه المؤسسات.. وإلى تفاصيل الحوار:
> فضيلة الشيخ .. من وجهة نظركم، ما مدى الحاجة لوجود “مفتي”؟.
– في نظري هناك حاجة حقيقية وملحة لوجود دار للإفتاء لدولة قطر تكون مرجعاً دينياً رسمياً للدولة ولشؤون قطر حكومة وشعباً .. وقلت “دار الإفتاء” ولم أقل “المفتي”، وأقصد بذلك أن تكون هناك مؤسسة مستقلة محترمة للإفتاء تضم عدداً من المتخصصين في شؤون الفقه والسياسة والاقتصاد والأسرة، وهم يختارون رئيساً لهم أو أميناً عاماً للإفتاء.
وأقترح أن تكون هذه المؤسسة أو الهيئة مستقلة في قراراتها وفتاواها .. وأعتقد أن دولة قطر متميزة والحمد لله في مؤسساتها، فإذا أصدرت قراراً بإنشاء هيئة أو دار مستقلة للإفتاء، وتضم عدداً من المتخصصين ذوي الأفكار الوسطية المعتدلة ويتم اختيار الرئيس أو الأمين العام لها بالانتخاب ، أو التوافق فيما بينهم ، فهذه ميزة أخرى تضاف إلى تميز قطر في منح الحرية الكاملة لمثل هذه المؤسسات، كما شهدنا ذلك في مؤسسة قطر، والجزيرة.
وتكون لهذه الهيئة مجموعة من الإدارات الهامة مثل : إدارة البحوث والتأصيل وإدارة جمع الفتاوى المجمعية والفردية على مستوى قطر والعالم الإسلامي أجمع، ويلحق بالهيئة مركز خاص بالبحوث والتأصيل، وتنفتح الهيئة تماماً على المراكز المتخصصة في مجال الشريعة والفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة بجامعة قطر وكلية الشريعة بها وكلية الدراسات الإسلامية والمراكز البحثية العالمية.
> إذن أنتم تؤيدون أن يكون هناك هيئة علماء مساندة للمفتي، تساعده في الإفتاء على غرار ما هو جارٍ في بعض الدول؟.
– نعم كما قلت .. ينبغي أن تكون هناك مؤسسة للإفتاء، وفيها هيئة من العلماء المتخصصين تكون سنداً للمفتي في فتاواه، بل ينبغي له ألا يصدر فتوى في الأمور العامة أو الهامة للأمة إلاّ بعد استشارة أهل العلم والاختصاص والخبرة، فالفتوى لها خطورتها، وهي توقيع عن رب العالمين، فيجب عليه الحذر والخوف الشديد، هكذا كان السلف .. وخطورة الفتوى عظيمة في السنة وهيبتها كبيرة عند السلف رضي الله عنهم، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً شديداً من الإفتاء بدون علم وتقوى فقال : ( أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار ) وروى الدارمي في كتاب العلم جملة من الأحاديث والآثار تدل على ذلك منها ما رواه بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من أفتى بفتيا من غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه)، وروى أيضاً عن ابن عباس أنه قال : ( من أحدث رأياً ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عزّ وجل).
وروى أيضاً عن عطاء بن السائب قال : سمعت عبدالرحمن بن أبي ليلى يقول : ( لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار، وما منهم من أحد يحدث بحديث إلاّ ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلاّ ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا)، وروى أيضاً عن ابن عمر قال لجابر بن زيد : ( يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلاّ بقرآن ناطق، أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت) وكان منهج الصحابة والتابعين في الفتاوى هو التشاور فيما بينهم لا سيما في الأمور المستحدثة، فكان أبو بكر إذا عرضت عليه حادثة ينظر في كتاب الله فإن وجد حكمها فيه قضى به، وإلاّ فينظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وجدها فيها قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين. وقال : أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك القضاء فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله فيه قضاءً، فيقول أبوبكر الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به وهكذا كان منهج عمر وغيره من كبار الصحابة رضي الله عنهم.
> برأيكم هل وجود لجنة للفتوى تتبع وزارة الأوقاف في الوقت الحالي يغني عن وجود “مفتي” أو دار للإفتاء؟.
– لا أعتقد أنها تغني .. فهذه اللجنة فرعية للأمور اليومية المتكررة، حيث وزارة الأوقاف مشكورة على هذا الجهد الطيب المبارك النافع.
> إذن .. ما هي الشروط الواجب توافرها في من يشغل منصب المفتي أو من يتصدى للإفتاء؟.
– يشترط في كل من يتصدى للإفتاء أن تتوافر فيه عدة شروط، أذكرها بإيجاز شديد .. هي:
— الشرط الأول : العلم بما يأتي علماً إجمالياً إن لم يكن تفصيلياً، وذلك بأن يكون لديه نوع من الإلمام بما يأتي:
1 ـ العلم بالكتاب وعلومه وما يتعلق به من خاص وعام ومطلق ومقيد ونحوه، وبأسباب النزول وغير ذلك بشكل إجمالي.
2 ـ العلم بالسنة رواية ودراية بقدر الإمكان بحيث يرجع عند بحثه إلى الأحاديث الواردة في الموضوع ويعرف قوتها من ضعفها ودرجاتها، وما يمكن أن ينهض حجة أو لا، وما يتعلق بالنصوص من حيث كونها صدرت باعتبارها للتبليغ، وما صدرت بحكم كونها صادرة من الإمام، أو القاضي.
3 ـ أن يكون عالماً بأسباب نزول الآية، وورود الحديث، وذلك لأن هذا العلم يساعده على فهم النص أو الواقعة وظروفهما وملابساتهما التي قد تجعل النص خاصاً، والواقعة خاصة مع أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، حيث إن هذه القاعدة الأصولية ليست على عمومها، بل فيها تفصيل وتأصيل.
4 ـ العلم بالمجمع عليه، خاصة إجماع الصحابة، وكذلك يكون لديه القدرة في العودة إلى أقوال الصحابة رضي الله عنهم وإلى آراء الفقهاء في مظانها، وذلك حتى لا تكون فتواه تصطدم مع إجماع المتقدمين.
5 ـ العلم بالأدلة الشرعية الأخرى كالقياس والاستحسان، وشرع من قبلنا، والاستصحاب، وقول الصحابي وإجماع أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، ومقاصد الشريعة ومبادئها وكلياتها وقواعدها العامة، وكيفية الجمع والترجيح عند تعارض الأدلة، أي بعبارة أخرى لديه إلمام بعلم الأصول والقواعد والمقاصد.
6 ـ العلم علماً إجمالياً بعلوم اللغة والعلوم المساعدة في كل موضوع.
7 ـ فقه الضروريات والحاجيات ومراعاتهما في فتاواه.
8 ـ فقه الاستحسان وتطبيقاته ومراعاته في فتاواه.
— الشرط الثاني : أن يكون لديه فقه بالمبادئ الكلية والقواعد العامة لهذه الشريعة كمبادئ العدالة والشورى والحرية وكرامة الإنسان والمساواة ونحوها حتى لا يتجاوزها في اجتهاده وفتاواه، ولا يقدم عليها ما ليس في قوتها من الأدلة الضعيفة الواهية، وإذا تعارضت معها نصوص جزئية فعليه بالجمع والتوفيق أو الترجيح لهذه المبادئ، وذلك لأن هذه المبادئ قطعية تضافرت عليها مجموعة من الأدلة الشرعية فلا يجوز إهمالها أو تقديم ما هو ليس في قوتها عليها.
— الشرط الثالث : أن يكون لديه فقه المقاصد الشرعية بما فيها فقه المصالح والمفاسد وفقه الموازنة بينهما في حالة تعارضهما، وفقه سد الذرائع وفقه المآلات.
— الشرط الرابع : أن يكون لديه فقه الميزان أو الموازين بحيث يعرف ميزان كل باب من أبواب الفقه، فميزان العبادات التي تبنى على التوقف غير ميزان العبادات التي تبنى على العلل والحكم، وميزان السياسة الشرعية غير ميزان الدعوة، وميزان الحرب غير ميزان السلم، وهكذا، وهذا الفقه عظيم القدر جليل الأثر كبير الفائدة له أهمية قصوى لصون المفتي أو الفقيه من الوقوع في الأخطاء والعثرات، حيث إن معظم أخطاء المفتين تعود إلى الجهل بهذه الموازين، حيث يفتون في باب السياسة الشرعية حسب ميزان الدعوة، أو في باب السلم والعهد حسب ميزان الحرب.
— الشرط الخامس : شروط داخلية من العدالة والتقوى والورع وعدم الازدواجية بين قوله وفعله والهيبة .. قال عمر بن عبدالعزيز : (القاضي لا ينبغي أن يكون قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال : عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يبالي بملامة الناس) والمفتي كالقاضي في هذه الصفات.
— الشرط السادس : فقه التنزيل أي تنزيل النصّ، أو العلة على الواقعة أو النازلة وذلك بأن يكون لدى المفتي القدرة العلمية على تنزيل الدليل على الواقعة التي وقعت، والنازلة التي جدت، وذلك لأن عملية الفتوى تتكون من ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى : معرفة الدليل من النصّ أو العلة أو نحو ذلك، والتعرف من خلال الاجتهاد على الدليل المطلوب الذي ذكرناه في الشرط الأول.
المرحلة الثانية : فقه الواقعة والعلم بها علماً يحقق الغرض المنشود، ويؤدي إلى تصورها تصوراً دقيقاً.
المرحلة الثالثة : الربط بين الدليل والواقعة، وتنزيله عليها وبعبارة أخرى تنزيلها عليه.
— الشرط السابع : أن يكون لديه فقه الواقع، والأعراف والأزمان والأشخاص ومعرفة الناس.
وهذا الشرط هو شرط مكمل في حقيقته للشرط السادس، فالمقصود بفقه الواقع أن يكون لديه فهم دقيق للواقع الذي يعيشه البلد أو الأمة أو الجماعة أو الفرد والتغيرات التي حدثت في عصره والتي لها تأثير كبير على فقه التنزيل.
> فضيلة الشيخ .. هناك من يلجأ في الفتاوى الاقتصادية إلى شخصية بعينها كالدكتور علي القره داغي، وهناك من يلجأ في فتاوى الأمة للدكتور يوسف القرضاوي .. برأيكم هل هناك حاجة للتخصص في الإفتاء؟.
– مراعاة التخصص مطلوبة لا سيما في عصرنا الحاضر الذي يمتاز بعصر التخصصات، بل عصر التخصصات الدقيقة، بل عصر التخصص داخل التخصص، وهذا ما أمر الله تعالى به فقال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) سورة النحل /الآية 43 ، وقال تعالى : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) سورة النساء / الآية 83 ..فقد اشترط الله تعالى للإفتاء بأن يكون الشخص قادراً على الاستنباط والتحليل، وهذا يقتضي العلم والفقه والمعلومات والتخصص.
ومن هنا فالرجوع في الفتوى الاقتصادية إلى عالم متخصص أو فقيه متخصص في الاقتصاد هو الصحيح، وأن الرجوع في الفتاوى التي لها صَبغة سياسية إلى عالم أو فقيه سياسي هو الصحيح، وهكذا.. ففعلاً الرجوع إلى فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي ، حفظه الله ، في فتاوى الأمة في محلّه، لا سيما فهو يرأس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يضم خيار علماء الأمة.
< على صعيد آخر .. هل كل فقيه مؤهل أن يفتي في شؤون المسلمين العامة؟.
– أبداً ليس كل عالم في الإسلام أو داعية مؤهل أن يفتي في شؤون المسلمين حتى الخاصة، وإنما المؤهل هو الفقيه البصير العالم القادر على الاستنباط والترجيح، والمتعمق في فقه الكتاب والسنة وفقه الخلاف والإجماع والمقاصد والقواعد الكلية وفقه التنزيل، كما قال ابن القيم رحمه الله : (الجامع بين فقه الواجب ، وفقه الواقع ).. وأما الشؤون العامة للأمة فيجب أن تكون الفتوى من المجامع الفقهية أو الهيئات المتخصصة.
>على ذكر الشؤون العامة للأمة.. ما هو الفرق بين فتاوى الأفراد وفتاوى الأمة؟.
– نعم هناك اختلاف بين فتاوى الأفراد التي يستطيع الفقيه البصير المتوافر فيه الشروط السابقة أن يفتي فيها، وأما فتاوى الأمة فهي تخص المجامع الفقهية أو الهيئات المتخصصة، أو أن تصدر من مؤتمر أو ندوة متخصصة للموضوع المطلوب، وذلك لخطورة أمر الأمة، ولأن فقيهاً واحداً – مهما بلغ – لا يمكنه الإحاطة بمصالح الأمة، كما أنه ليس الناطق باسم الأمة حتى يعبّر عن مصالحها، أو يورطها في مشاكل لا تخص فرداً أو جماعة، بل تخص الأمة، ولذلك قال علماؤنا : إن إعلان الجهاد العام – أي في غير رد المحتلين – لا يجوز أن يصدر إلاّ من الأمة أو مَنْ يمثلونها.