الدوحة – الشرق
الحلقة : الثامنة
إن الحرية الدينية هي أهم أنواع الحريات في الحقيقة، وهي يقصد بها أمران، هما:
حرية العقيدة التي تتيح للفرد اعتناق أي دين
حرية العبادة، وممارسة الشعائر التعبدية.
وقد دلت الآيات القرآنية المكية والمدنية على هذه الحرية بنوعيها من حيث المبدأ والإجمال، وفصلتها السنة النبوية الشريفة، فقال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وقال تعالى للكفار: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) مع أن دين الكفار كان الشرك وعبادة الأصنام، وقال تعالى: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) وقال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ).
الجانب العملي والتطبيقي للحرية الدينية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم:
لا أتحدث عن الفترة المكية حتى لا يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن له سلطة ولا قدرة ولا دولة، وإنما أتحدث عن العصر المدني الذي كان صلى الله عليه وسلم هو القائد والحاكم الفعلي للمدينة، ثم للجزيرة كلها، ومع ذلك حينما دخل المدينة وآخى بين المهاجرين والأنصار قام بوضع أول دستور عادل شهدته الإنسانية على مرّ التأريخ، وهو ما يسمى بالوثيقة التي تتضمن سبعاً وأربعين مادة، تتحدث أربعة وعشرون مادة منها عن العلاقة بين المسلمين واليهود، يستنتج منها بكل وضوح احترام الحرية الدينية، وإعطاء ما يسمى في عصرنا الحاضر (حقوق المواطنة) إلى اليهود في المدينة، وأن عليهم الواجبات من الالتزام بنفقات الحرب الدفاعية، بل والمساهمة القتالية للدفاع عن المدينة.
بل إن الإسلام جعل أحد أسباب الجهاد هو الدفاع عن أماكن العبادة لكل الأديان السماوية فقال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) وأكثر من ذلك أن الشريعة الإسلامية تحمي ممتلكات غير المسلمين حتى ولو كانت محرمة في نظرها، مثل الخنازير والخمور، وتحظر على المسلمين الاعتداء عليهما ما دامتا في إطار المجتمع المسيحي، أو اليهودي.
علاقة البرّ والإحسان لكل من يعيش في ظل الإسلام
وتجسيداً لكرامة الإنسان، وتطبيقاً لاحترام حرية الأديان نظم الإسلام العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين الذين يعيشون في ظل دولة الإسلام على أساس البرّ والإحسان، وعلى أساس حب الخير لهم، ما داموا ملتزمين بقواعد المواطنة، أما إذا خرجوا عنها فإن الإسلام مع ذلك يتعامل معهم بالعدل.
فقد نظمت الآيات الثلاث من سورة الممتحنة هذه العلاقات فقال تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، وفي حالة الجدال والحوار فإن المسلمين مأمورون بالجدال بالتي هي أحسن، ولا يكتفي في ذلك بالجدال الحسن، فقال تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). ولم يسجل التأريخ في ظل الخلافة الراشدة (حتى في ظل الدول الإسلامية الأخرى) أنه أجبر أحدا على الإسلام، أو أكره على ترك دينه ما دام ملتزماً بقواعد المواطنة،
وذلك لأن القرآن الكريم منع ذلك فقال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) وحدد موقف الرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ). وقد شهد بذلك غير المسلمين فقال جوستاف لوبون: (إن القوة في الإسلام لم تكن عاملاً لنشر القرآن) ويقول الشيخ محمد الغزالي: (إن الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لأهل الأرض لم يعرف لها نظير في القارات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار مثل ما صنع الإسلام…. والقارئ اللبيب يرى أن الكتاب العزيز قد تناول المعارضين له والكافرين به بأساليب شتى، ليس من بينها قط إرغام أحد على قبول الإسلام، وهو عنه صاد، فكلمة ” لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” وكلمة ” وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ…. “هذه الكلمات وأمثالها مما تردد في صدر الإسلام هي التي ظلت تتردد في أواخر العهد المدني…. ).