الدوحة – الشرق
الحلقة : الأولى
شغلت قضية العلاقة بين الراعي والرعية في ظل الحكم الرشيد ، الفكر الإسلامي طويلا، ماذا يريد الإسلام أن تكون عليه هذه العلاقة؟ وما هي كيفيتها، وما الذي يحدد أطرها؟ الإسلام يريد أن تكون هذه العلاقة قائمة على أساس المحبة المتبادلة، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهذه المحبة تنبثق من الإيمان والاخوة الإيمانية، وتترتب عليها حقوق وواجبات، وأما أساس العلاقة فهو العقد الذي بموجبه يعطي الشعب أو ممثلوه البيعة للحاكم، حيث قد يكون هذا العقد مشافهة ـ كما كان في السابق ـ أو مكتوباً من خلال الدستور الذي اختاره الشعب أو ممثلوه الحقيقيون، والذي يُحدد الحقوق والواجبات، أو من خلال عقد مكتوب ..
حول هذه القضايا ومشكلات تلك العلاقة بين الراعي والرعية وما يجب أن تكون عليه وعن الأسس والمبادئ التي تنظم هذه العلاقة في ظل الحكم الرشيد في ضوء الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة وفقه الميزان، والمآلات، وتحقيق المناط ورعاية الواحب والواقع، والمتوقع، يدور أحدث أبحاث فضيلة الشيخ في رمضان المبارك التي خص بها دوحة الصائم.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيّبين وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد
فإن أهم إشكالية نالت من الفكر والمنهج على مرّ التاريخ هي إشكالية التوازن بين حقوق الراعي (الدولة) والرعية (الشعب) حيث كانت الفلسفات السائدة تدور حول ترجيح متطلبات الدولة وحقوقها وهيبتها وسيادتها على حقوق الرعية والشعب، وبذلك يُرتكب الظلم والظلمات ومختلف الجرائم بحق الحرية والإنسانية تحت ذلك الغطاء.
وبالمقابل فإن بعض الفلسفات الأخرى لا تولي العناية المطلوبة لهيبة الدولة وسيادتها، وبالتالي تصبح ضعيفة هزيلة، وتسود الفوضى الهدامة، وحينئذٍ فلا الشعب ساد وقوي وتقدم وتحضر، ولا الدولة قامت بواجبها.
ولكن الإسلام استطاع بمنهجه الوسطي أن يقيم هذه العلاقة على ميزان دقيق، ويحقق الايجابية لكلا الطرفين ليصبحا جسداً واحداً يكون لكل عضو دوره، ويُحسّ بآلام وآمال الآخر، ويسعى لتحقيق الخير ودرء الشرور ويتحقق الخير للجميع.
ونحن في هذا البحث نتحدث عن الأسس والمبادئ التي تنظم هذه العلاقة في ظل الحكم الرشيد في ضوء الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة وفقه الميزان، والمآلات، وتحقيق المناط ورعاية الواجب والواقع ، والمتوقع .
والله أسأل أن يكتب لنا التوفيق والسداد وأن يكسو أعمالنا كلها ثوب الإخلاص ولباس التقوى وأن يعصمنا من الخطأ والزلل في القول والعمل ويتقبّلها منّى قبولاً حسناً إنه مولاي فنعم المولى ونعم النصير والمجيب.
العلاقة بين الراعي والرعية (الحاكم والمحكومين)
إذا نظرنا في النصوص الشرعية من الكتاب الكريم والسنة النبوية المشرفة لتوصلنا بسهولة إلى أن هذه العلاقة تنظمها ثلاثة أمور أساسية، هي النظام العام، والعقد، والقيم الأخلاقية.
الأمر الأول: النظام العام المأخوذ من الأدلة القطعية والاستقراء الكلي ، الذي يتمثل في مجموعة من المبادئ الأساسية والقواعد الكلية العامة في هذا المجال، مثل مبدأ العدل وغيره مما سنذكره.
فهذا النظام العام الإسلامي يمثل خلاصة الأدلة الشرعية الكثيرة المتضافرة في هذا المجال، بل بقايا الشرائع السماوية، والفطر السليمة التي استقرت في نفوس الشعوب والتي تتطلع إليها وإن لم تصل إليها، وقد عبر الإمام الشاطبي عنها بقوله: (إنها كلية أبدية، وضعت عليها الدنيا، وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بيّن ذلك الاستقراء، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضاً، فذلك الحكم الكليّ باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها).
هذا النظام العام يقوم على مجموعة من القواعد الكلية، والمبادئ الأساسية، والمقاصد العامة لهذه الشريعة، وقد أشار إلى الالتزام بهذا النظام العام الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه، بل ربط بين الالتزام وبين وجوب الطاعة، فقال رضي الله عنه في أول خطبة له بعد انعقاد الخلافة له: “أيها الناس إني قد وُليّت عليكم ولست بخيركم، إنْ أحسنتُ فأعينوني، وإنْ أسأتُ فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويّ عندي حتى آخذ الحق له، والقويّ فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه ـ إن شاء الله ـ لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلاّ ضربهم بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلاّ عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”.
حيث أوضح الخليفة برنامج عمله الذي يقوم على مجموعة من المبادئ والحقوق المتبادلة من أهمها:
1 ـ إن صحة خلافته، أو حكمه مرتطبة بالالتزام بالنظام الإسلامي، وهو (أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).
2 ـ أن الأمة هي مصدر المراقبة والمحاسبة، والتقييم والتقويم، وهي القادرة على الخلع كما كانت قادرة على العقد.
3 ـ إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وإن حق السلطة لأحد ليس حقاً خالداً، وإنما هو حق مقيد بمدى التزامه بـ:
أ ـ الإحسان والاتقان وتحقيق الغايات المنشودة والأهداف المقصودة من الخلافة، أو الحكم، وهي: السعي الدائب، واستفراغ الجهد، وبذل المستطاع لتحقيق سعادة الدارين، وتعمير الأرض في ضوء منهج الله تعالى، وتحقيق التنمية الشاملة للإنسان، ولذلك طلب من الأمة مساعدته على تحقيق ذلك، مع نُصحه، وإرشاده، ومحاسبته بل تقويمه، وإعادته إلى جادة الصواب، وأنه إذا لم ينفع النصح والإرشاد، فيكون السبيل هو الخلع والإبعاد.
ب ـ قدرته على تحقيق العدل بين الناس والابتعاد عن الظلم والاعتساف.
حماية الأمة وأمنها السياسي والاجتماعي من المتربصين بها في الداخل والخارج.
4- إن العلاقة تكون قائمة على الصدق والشفافية والبيان والابتعاد عن الكذب، والغش والتغرير والتدليس والخيانة.