الدوحة – الشرق
الحلقة :التاسعة والعشرون
الأمة الإسلامية اليوم هي أحوج ما تكون إلى البحث عن المشتركات فيما بينها ، وهي كثيرة جداً ، فجميع المذاهب والطوائف الإسلامية تشترك في أصول العقيدة من الإيمان وأركانه الأساسية من “الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى”، والأركان الخمسة للإسلام من (الشهادتين ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج) وفي التوجه إلى قبلة واحدة ، وإلى اعتماد مصحف واحد دون الخلاف عليه ، وفي العدو المشترك والمصالح المشتركة ، حيث إنهم جميعاً يتفقون على أن الصهيونية والصليبية والعلمانية والإلحاد والتحلل الجنسي أشد أعدائهم ، وأنهم يعتبرون قضايا الأمة الرئيسية (كفلسطين والقدس) القضية التي هم جميعاً مستعدون للتضحية في سبيلها ، وأنهم جميعاً يعرفون حق المعرفة أن أعداءهم لا يفرقون فيما بينهم ، وهذا هو التقرير الأخير الصادر من معهد راند الاستراتيجي الذي له دور كبير في صياغة القرار الأمريكي ، ينص على أن جميع المسلمين (التقليديين ، والأصوليين ، والليبراليين ، والصوفية ، والشيعة والسنة….) لا يعتمد عليهم ، ولا ينبغي للسياسة الأمريكية أن تتحالف معهم إلاّ تكتيكاً للقضاء من خلالهم على جماعة أخطر ، فقد جعلهم كلهم في سلة واحدة ، ثم اقترح إسلاماً جديداً سماه الإسلام الديمقراطي المدني الذي يقبل بجميع القيم الغربية وضرب المثل لهذا الإسلام الجديد بأفكار مصطفى كمال اتاتورك الذي فرض العلمانية الإلحادية ، وحارب الإسلام ، ومنع الأذان باللغة العربية ، وأعدم كثيراً من الدعاة أو حاكمهم . هذا هو الإسلام الذي يقبله المشروع الصهيوني ، واليمين الأمريكي المتصهين .
أو ما تكفي كل هذه المشتركات بين المسلمين جميعاً ؟ او ما تجمعهم الشدائد والمخاطر والأعداء الكثيرون الذين تداعوا على هذه الأمة كما تداعت الأكلة على قصعتها ؟ .
علاج الأمة في الالتفاف حول الثوابت وقبول الاجتهادات المخالفة في المتغيرات :
فقد جاءت نصوص الشريعة مركزة في نصوصها القطعية على الأسس والأركان التي يبنى عليها هذا الدين ، وتوضيح العقيدة الصحيحة ، والقيم والأخلاق الراقية ، وأسس المعاملات والتعامل مع الناس جميعاً تاركة التفاصيل في معظم الأشياء للأدلة الظنية ، أو للاجتهادات الإنسانية في ظل المبادئ العامة والقواعد الكلية .
وبذلك جمعت الشريعة بين الثوابت التي لا تقبل التغير (أي بمثابة الهيكل العظمي للإنسان ) ، والمتغيرات التي تشبه أحوال الإنسان العادية القابلة للتغير وبذلك انسجمت الشريعة التي أرسلها للإنسان مع الإنسان الذي نزلت عليه : ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ).
فالإنسان ثابت في حقيقته وجوهره وأصل عقله وروحه ونفسه ومكوناته وضرورياته وحاجاته العامة إلى المأكل والملبس والمشرب ( وإن كانت النوعيات مختلفة لكن الأصل العام لم يتغير منذ خلق الإنسان إلى يومنا هذا ) ، ولكن الإنسان متغير في معارفه ، وفي إمكاناته للتسخير وعلومه ، وفي أنواع ملابسه ومشاربه ومآكله ومساكنه. وبهذه الصفة العظيمة الجامعة بين الاستفادة من النقل والعقل ، وبين الثوابت والمتغيرات يجتمع في الإنسان خير الدنيا والآخرة ، ويتحقق له التآلف والمحبة والتقارب الحقيقي ، لأننا حينئذٍ نتعاون ونتحد فيما أجمعنا عليه من الثوابت ، ويعذر بعضنا البعض فيما اختلفنا فيه ، لأنه من المتغيرات الاجتهادية التي تقبل أكثر من رأي .
فالمقصود بالثوابت هنا الأحكام الإسلامية التي ثبتت بأدلة قطعية الدلالة والثبوت أو بالإجماع الصحيح الثابت الذي مضت عليه الأمة في قرونها الثلاثة الأُوَل .
وعلى ضوء ذلك فالثوابت تشمل أركان الإيمان الستة ( الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره من الله تعالى ) ، وأركان الإسلام الخمسة ( الشهادة والصلوات الخمس ، والزكاة والصوم والحج لمن استطاع إليه سبيلا ) ، وتشمل كذلك القيم والأخلاق الثابتة ، والأحكام الأسس العامة لأحكام الأسرة في الإسلام ، والأحكام والمبادئ العامة للمعاملات والجهاد ، والعلاقات الدولية ، والقضاء ونحو ذلك ، والخلاصة أن كل حكم من أحكام الإسلام في جميع مجالات الحياة إذا ثبت بدليل قطعي الثبوت والدلالة أو بإجماع الأمة إجماعاً صحيحاً قائماً على الدليل وليس العُرف فهو من الثوابت التي يجب الالتزام بها ، وعدم التهاون في حقها ، إلا ما هو من قبيل الضرورات التي تبيح المحظورات .
وأما المتغيرات فالمقصود بها هنا هي الأحكام التي تثبت بدليل ظني ( سواء أكانت الظنية في دلالة النص وثبوته ، أم في أحدهما ) أو باجتهاد قائم على القياس أو المصالح المرسلة ، أو العرف ، أو مقاصد الشريعة أو نحو ذلك .
فنطاق المتغيرات في الفتاوى والأحكام الفقهية الظنية واسع جداً وهو يشمل كل الاجتهادات الفقهية السابقة، إضافة إلى منطقة العفو التي تقبل التغييرات بشكل واضح حسب الاجتهادات الفقهية . يقول إمام الحرمين : (إن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ، ولا تفي النصوص بعشر معشارها).
وذلك لأن الاجتهادات الفقهية السابقة لفقهائنا الكرام ـ ما دامت ليست محل إجماع ـ تقبل إعادة النظر، بل ينبغي إعادة النظر فيها وغربلتها بكل تقدير واحترام من خلال الاجتهاد الانتقائي، والترجيح فيما بينها للوصول إلى ما هو الراجح، ثم تنزيله على قضايا العصر بكل دقة ووضوح .
بل يمكن إعادة النظر في فهم هذه النصوص الظنية مرة أخرى على ضوء قواعد اللغة العربية وأصول الفقه ، والسياق واللحاق وحينئذٍ يمكن الوصول إلى معان جديدة وأحكام جديدة لم ينتبه إليها السابقون ، أو لم يخترها الجمهور ، بل ذكرها قلة قليلة من السابقين .
وأما منطقة العفو فيكون الاجتهاد فيها اجتهاداً انشائياً لابد من توافر شروط الاجتهاد وضوابط من يتصدى له .
الثبات والتغير أو التطور عند السلف وأثر ذلك على الوحدة :
المقصود بالسلف هم أهل القرون الثلاثة الأولى من عمر هذه الأمة الإسلامية ؛ اعتماداً على حديث عبدالله بن مسعود في الصحيحين : (خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم….) وقد بيّن العلماء أن الخيرية تعود إلى القرب من ينبوع النبوة وتربية الرسول صلى الله عليه وسلم ، والصفاء والنقاء ، فالسلف ليس مذهباً معيناً ، ولا حكراً على فئة معينة ، وإنما أهل السلف هم أهل المذاهب والآراء المعتمدة في إطار الكتاب والسنة.
وشاء الله تعالى أن تتكامل أصول الفقه للمذاهب الفقهية ، وللفكر في هذه القرون وأن يكون أئمة الفقه في هذه العصور الثلاثة ، وأن تتقدم الأمة ، وتتحقق الحضارة العظيمة لهم خلال هذه القرون الثلاثة ، فأصبحت الأمة خلال القرون الثلاثة الأولى أمة قوية البنيان مرعوبة الجانب ، متقدمة في العلوم والثقافة والفنون حققت أعظم حضارة في وقت قصير ، وغدت رائدة العالم وقائدته ، وتطور السلف خلال القرون الثلاثة أكثر مما تطور الخلف في عصورهم الطويلة ، وتطور الفقه الإسلامي النظري والعملي تطوراً عظيماً حيث استطاع أن يستوعب كل الحضارات والأفكار من خلال صياغتها بما يتفق ومبادئ الإسلام وقواعده وأحكامه ، فلم يعجز عن إيجاد أي حل فقهي لأية مسألة أو نازلة أيا كانت درجة حداثتها وتعقيدها ، كما استطاع الفكر الإسلامي أن يبقى صامداً بثوابته ، وأن يتطور من خلال البناء والرد على كل الأفكار المخالفة والزندقة ، والسفسطة ، مستعيناً بالنقل الصحيح والعقل السليم للوصول إلى القناعة الكاملة والاطمئنان التام ، والأخذ بعنق النصوص وليها في سبيل دعم رأي معين .