الحلقة : الخامسة
من أهم الاستنباطات في فقه الاقليات عدم الظلم لأهل البلد حتى لو وقع من بعضهم أومن حكامهم ودولهم ظلم للمهاجر أو الأقلية، أو للدول الاسلامية بالاستعمار، فالظلم لا يقابل بظلم محض قال يوسف بعد محاولة زوجة العزيز معه (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) .
وفي ذلك رد قوي على بعض المسلمين المهاجرين الذي يبررون الاعتداء على أموال الدول الأوروبية أو الأمريكية بأنها كانت دولاً استعمارية أخذت أموال المسلمين ، وبالتالي فما يأخذونه هو جزاء ما فعلته ، فهذا فهم سقيم مخالف للشرع لذلك فالرد أن هذا ظلم لأدلة كثيرة منها ما ذكرناه ، ومنها قوله تعالى : (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ومنها أن هؤلاء المهاجرين لا يمثلون المسلمين المظلومين بالاستعمار .
4- التوطين ، وحب الوطن الذي عاش فيه ، فالملاحظ أن سيدنا يوسف عليه السلام لما ضيق عليه الخناق من هؤلاء النسوة لم يقل : الهجرة ، أو الخروج أحب إليّ مما يدعونني إليه ، بل قال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وهذا دليل على أنه استوطن مصر ، وأحبها وآثر السجن فيها على الخروج منها ، وأكثر من ذلك طالب أن يجعله الملك على خزائن الأرض ليخدم شعب مصر ، بل أتى بوالديه واخوانه جميعاً إلى مصر ليستوطنوا فيها مع أنها لم تكن تدين بدين إبراهيم(عليه السلام) .
5- القيام بواجب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، فلم يترك سيدنا يوسف عليه السلام واجب الدعوة إلى الله على الرغم من ظروف صعبة أحاطت به ، من حيث كونه قد اشترى ـ ظلماً ـ فأصبح عبدا وبالتالي ضعفه الاجتماعي في البداية ، كما لم يترك دعوته حتى في السجن ، بل استثمر وجوده في السجن فنجح نجاحاً كبيراً ، إذا دخل معه السجن فتيان رأيا رؤيا ، فقبل أن يفسر لهما رؤياهما ذكرهما بالآيات التي أكرمه الله تعالى من معرفة أشياء لا تأتي إلاّ من قبل الله تعالى ، ثم بين لهما دين إبراهيم القائم على توحيد الله تعالى ، وعدم الاشراك به وعلى الحنيفية السمحة ، كما بين لهما اخطورة الشرك ، وان هؤلاء الشركاء المعبودين ـ من دون الله تعالى لا قيمة لهم ، ولا سلطان ، وان الأمر والحكم كله لله تعالى ، ثم فسّر لهما رؤياهما.
وهكذا الأمر بالنسبة للأقلية المسلمة فيجب عليها أن تدعو إلى الله تعالى وتعرّف بالإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ، لأن الدعوة إلى الله تعالى واجبة على الجميع ، كل حسب علمه وقدرته ، ولو كان بتبليغ آية ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( بلغوا عني ولو آية ) بل إن الله تعالى حصر الفلاح فيمن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقال تعالى : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).
6- غير المسلمين (الكفار) ليسوا سواء ، فمنهم العادل الطيب الصالح في التعامل الدنيوي ، ومنهم من يقبل المسلم ليحكم في بلده ، فيقلده الوظائف المؤثرة ، ومنهم دون ذلك ، ولذلك لا يجوز أن يكون الحكم فيهم سواء.
فعزيز مصر كانت لديه الطيبة في التعامل والعدل فقال لامرأته منذ البداية : (لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) وانه لما رأى يوسف وزوجته يستبقان الباب ، وشهد شاهد من أهله قال : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) وقال لزوجته : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ) فلم يصدق زوجته عندما قالت : (مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) بل إنه وبخها وسمى عملها كيداً ، كما قص القرآن الكريم : (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) .
والحق أن هذا الموقف لو تكرر اليوم أمام أحد الجبابرة والظلمة من الحكام لجعل من يوسف ضحية لانقاذ شرفه ، والحكم عليه بالاعدام ، أو العذاب الأليم ، ويصدق زوجته أمام شخص غريب ، في حين أن عزيز مصر لم تأخذه العزة بالاثم ، ولم يصدق زوجته الحسناء ، بل استمع إلى الشاهد ، وصدقه ، وبنى عليه وحكم على زوجته بأنها من الخاطئين ، ووصف عملها بالمكيدة العظيمة ، واعتذرليوسف ونصحه فقال : (أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) .
وكذلك كان الملك صافي الذهن والبصيرة صالحاً في دنياه ، وفضل مصلحة شعبه ، ولم ينس فضل العلم والعلماء ، فمع أن يوسف عليه السلام فسّر رؤياه ، وأعطى صديقه ( مندوب الملك ) كل تفاصيل رؤيا الملك فقال له : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ) لكنه أبى إلاّ أن يطلبه لمقابلته ، فلو كان ذلك في عصرنا لربما أسنده الملك إلى نفسه ، ولم يسند الفضل الى هذا الغريب المتهم المسجون إذ كيف يتنازل لعبد غريب فيسند إليه الفضل ، فكم نرى اليوم أفكاراً عظيمة يأخذها الوزير من أحد مستشاريه من الخلف فيسنده إلى نفسه .