الدوحة – بوابة الشرق
نواصل قراءة كتاب “فقه التعامل عند الإساءة إلى المقدسات الإسلامية”.. (دراسة شرعية تأصيلية وقانونية في ضوء فقه المواطنة مزودة ببرنامج شرعي للأقليات الإسلامية في بلاد الغرب وعامة المسلمين) للدكتور علي محيي الدين القرة داغي.
ونسرد المواقف المستفادة من قصة يوسف، كان الملك صافي الذهن والبصيرة صالحاً في دنياه، وفضل مصلحة شعبه، ولم ينس فضل العلم والعلماء، فمع أن يوسف عليه السلام فسّر رؤياه، وأعطى صديقه (مندوب الملك) كل تفاصيل رؤيا الملك فقال له: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ) لكنه أبى إلاّ أن يطلبه لمقابلته، فلو كان ذلك في عصرنا لربما أسنده الملك إلى نفسه، ولم يسند الفضل إلى هذا الغريب المتهم المسجون إذ كيف يتنازل لعبد غريب فيسند إليه الفضل، فكم نرى اليوم أفكاراً عظيمة يأخذها الوزير من أحد مستشاريه من الخلف فيسنده إلى نفسه؟.
ولما رفض يوسف طلب الملك بالذهاب إليه إلاّ بعد التحقيق مع هؤلاء النسوة اللاتي تسببن في إدخاله السجن، لم تأخذ الملك عزة بالإثم فاستجاب له، وقام بالتحقيق، وظهرت براءة يوسف تماماً.
ثم طلبه الملك بعد ذلك ليعطيه منصباً استشارياً كبيراً فقال: (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) ولكن عندما كلّمه تبيّن له أن يوسف عليه السلام على مقدرة عالية في التنظير والتحليل والتنفيذ، فلذلك قال له بعدما كلمه: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي أن لك حق التمكين في أي وظيفة سيادية تنفيذية، بما لك من العلم والأمانة، وحينئذ بيّن يوسف بنفسه الوظيفة المناسبة له فقال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) وهي في الحقيقة وظيفة أربع وزارات اليوم: وزارة المالية، وزارة الزراعة، وزارة الاقتصاد والتجارة، ووزارة الشؤون الاجتماعية والتموين.
ومن جانب آخر فإن ذكر الله تعالى رؤيا الملك ـ وهو كافر ـ وأنها كانت رؤيا حق يدل على أن الكافر قد تجد لديه الصفاء والنقاء، فيرى رؤيا قد تكون صادقة.
7- الأقلية لها الحق أن تتقلد الوظائف العليا، والوزارات، والمشاركات السياسية ونحوها ـ كما سبق ـ آنفاً.
8- المسلم مكلف بصناعة الحياة في كل مكان، وليس صناعة الموت والدمار، فقد قام سيدنا يوسف فعلا بصناعة حياة عظيمة لشعب لم يكن مسلماً وأنقذهم من المجاعة والموت المحدق بهم، حيث قدم لهم أعظم أفكاره، بل أعطاهم من بركات الوحي والإلهام والنبوءة ما أنقذهم بها حقا بفضل الله تعالى. فالأقلية المسلمة عليهم واجب أمام أوطانهم، في تقديم جميع الابتكارات والعلوم، والخدمات لإنقاذه وتطويره، وهذا ما فعله يوسف عليه السلام حيث أنقذ مصر وما حولها من كارثة ومجاعة ربما كانت تقضي على معظمها، وتدمرها، من خلال تقديم علومه وابتكاراته وتخطيطه وقيامه فعلاً بتنفيذ هذه المهمة العظيمة .
9- عدم نسيان الوطن الأم، وإبقاء الحب والعاطفة له مع تقديم الخدمات إلى أهله أيضاً، بقدر الإمكان وهذا ما فعله يوسف عليه السلام حيث ساعد إخوانه وأحسن إليهم بالعطاء والمواد الغذائية ثم طلب من أبويه وإخوانه أن يدخلوا مصر مكرمين معززين آمنين: (وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ).
10- نسيان إساءات أهل بلده إن حدثت، والعيش بعيداً عن دائرة الثأر والماضي.
فعلى المسلم المهاجر أن ينسى إساءات بلده (حكاماً أو محكومين) إن وجدت بعدما وفقه الله تعالى في وطنه الثاني، فلا يعيش بعقلية الثأر والانتقام، ولا يحمل معه سلبيات وطنه، فقد تغير وطنه، إذن عليه أن يغير نفسه نحو الأحسن، وهذا ما فعله يوسف مع إخوانه الذين أرادوا قتله، ثم دبروا حادثة البئر، التي أدت إلى استرقاقه وبيعه، والمصائب التي هددت نفسه، وعرضه وشرفه، ثم لم يكتفوا بذلك، بل ظلت أحقادهم مجسدة في نفوسهم، بدليل أنهم حينما أخرج صواع الملك من رحل شقيق يوسف نطقوا بهذا الحقد الدفين، وكذبوا: (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ) فهذا الكذب إن دل على شيء فإنما يدل على بقاء حقدهم الأسود، واستمرار حسدهم وكراهيتهم ليوسف وافترائهم عليه.
ومع كل ذلك لم يقابل يوسف عليه السلام حتى يأخذ ما هو حق له، بل حتى في جوابه عليهم لم يصفهم بأنهم أشرار، بل وصف مكانهم بالشر: (قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَم بِمَا تَصِفُونَ) حتى كان بإمكان يوسف أن ينتهز الفرصة ليفرض عليهم إثبات هذه السرقة أو العقاب على تهمتهم دون دليل، ولكنه ترك كل ذلك.
وحينما انكشفت الحقائق وانجلت السحب، وأحسّ إخوته بالخجل عاملهم نفسياً ومادياً بأرقى وأجمل، وأرق معاملة، فقال: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنَّ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) .
أولاً – برر فعلهم بالجهل وليس بسوء القصد والطوية مع علمه بذلك (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ).
ثانياً – بدأ بذكر نعم الله تعالى عليه دون ذكر ما أصابه من سوء فقال: (أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنَّ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وفي هذا تخفيف كبير على نفسيتهم فكأنه يفهم أن ما فعلتم بي ترتب عليه خير كثير لي من التمكين في أرض مصر.
ثالثاً – قد بدأ بقوله: (لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي لا لوم ولا عتاب مني عليكم، مع أن المقام مقام المغفرة من الذنب العظيم، وفي هذا تخفيف نفسي عليهم أي أن المسألة بسيطة فلا لوم ولا عتاب.
رابعاً – قوله: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) يدل على حرصه وحبه لهم حيث دعا لهم، وأن الأمر عند الله أنني أدعو بالمغفرة لكم، وبما أن الله أرحم الراحمين فهو يغفر لكم .
خامساً- إن في قوله: (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) إشارة إلى أنني قد رحمتكم فكيف أرحم الراحمين لا يرحمكم؟