تمهيد في التنمية بين العالم الأول والعالم الثالث .
يقسم الغرب العالم من الناحية الاقتصادية إلى ثلاثة عوالم :
العالم الأول : وهو العالم الغربي الذي يشمل أوروبا الغربية ، وأمريكا الشمالية واستراليا والذي يوصف بالمتطور الغني الصانع ، ويلحق به اليوم يابان ، وربما الصين في المستقبل القريب .
العالم الثاني : وهو يمثل الاتحاد السوفيتي ، والدول الأوروبية الاشتراكية ، واليوم يمثل روسيا ، والصين ، وأوروبا الشرقية ، والهند .
العالم الثالث : وهو يشمل أفريقيا كلها ، ومعظم آسيا ، وأمريكا الجنوبية ، أي ما عدا العالمين السابقين ، ويدخل فيه عالمنا الاسلامي ، بل يمثل ثلاثة أرباع العالم كله ، وهذا ما سنفصل فيه مع التركيز .
هذا العالم يتصف معظمه بهذه السمات والخصائص الآتية :
1. نسبة عالية للأمية ، وقلة الخبرة ، وجهل بالتقنيات المتطورة .
2. عالم زراعي في معظمه ، ومع ذلك لا يوفر الغذاء الكافي ، لأنه لا يعتمد على التقنيات الحديثة ، كما أن الصناعات المتطورة الذاتية مفقودة .
3. نقص في رأس المال الانتاجي .
4. تخلف في تنمية الموارد الطبيعية .
5. ضعف في الانتاج ، وقلة الموارد ، وانخفاض في معدل دخل الفرد بالقياس إلى الدول المتقدمة .
6. ضعف في البنية التحتية والخدمات التعليمية والصحية ، والمرافق الأساسية مثل الطرق والجسور والموانئ والمطارات ، ومحطات توليد الكهرباء .
7. عجز في ميزان المدفوعات بالنسبة للدول .
8. تفاوت في الثروة والدخل ، ودرجات من المواطنة ، وظلم واقع على الكثيرين .
9. كثرة التقلبات الجوية مثل الفيضانات والجفاف .
10. كثرة الحروب والاضطرابات ، فمثلاً وقعت بين 1945-1976 أكثر من 133 حرباً في 80 قطراً ، ففي عام 1976 صرفت 334 مليار دولار وهو يعادل 17 مرة على ما أنفق على التنمية في العالم الثالث .
11. كثرة الانقلابات العسكرية حتى أصبحت من أهم خصائص العالم الثالث ، حيث تبين الاحصائيات أنه بين سنة 1962-1975 وقع ما لا يقل عن 104 انقلابات في العالم الثالث حتى إنه في سنة 1975 كان ربع الدول في الأمم المتحدة تتولاها حكومات جاءت عن طريق الانقلاب[1] ، وهذه الانقلابات العسكرية والحروب والاضطرابات تجعل المنطقة غير مستقرة ، وبالتالي ينتهي أو يقل الاستثمار والادخار ، ويزداد الفقر كما نشاهد .
وهناك من يضيف عالماً رابعاً ، وحينئذ يخصص العالم الثالث بالدول التي لديها البترول والمال ، ولكن ليس لديها التقدم الصناعي والتكنولوجي ، ويجعل العالم الرابع خاصاً بالدول الفقيرة التي ليس لديها بترول ولا تقدم ولا مال يغني الشعب[2] .
التعريف بالتنمية لغة واصطلاحاً :
أ ـ التنمية لغة ، مصدر نمّى الشيء ، أو الحديث تنمية : أنماه ، وأصله من نما الشيء نماءً ونمواً : زاد وكثر ، يقال : نما الزرع ، ونما المال ، أي زاد وكثر[3] .
ولم يرد لفظ ” التنمية ” في القرآن الكريم ، ولكن وردت ألفاظ تحقق الهدف المقصود منها ، قوله تعالى : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[4] أي طلب منكم التعمير ، إضافة إلى كلمات الانبات والاحياء ونحوهما ، ولكن ورد في السنة النبوية لفظ ” ينمو ” في باب الجهاد[5] ، كما أنه وردت فيه ألفاظ متقاربة منه .
التنمية الاقتصادية ECONOMIC EVELOPME ومؤشراتها في الفكر الوضعي :
وهو أوسع في الاصطلاح الاقتصادي من النمو الاقتصادي الذي يراد به زيادة الدخل ECONOMIC GROWTH ، فقد حدث لمفهوم التنمية تطور ، حيث كان المقصود بها إلى عام 1929 ( أي عام أزمة الكساد المالي ) النمو الاقتصادي ECONOMIC GROWTH وهو الزيادة التلقائية في الدخل القومي ، ودخول الأفراد حيث كان رأي الاقتصاديين الغربيين قبل 1929 يكمن في أن النمو الاقتصادي يتحقق بالحرية الاقتصادية تلقائياً دون تدخل الدولة.
وعندما حدثت أزمة الكساد العالمي الكبير عام 1929 دلت بوضوح على فشل مبدأ التلقائية والحيادية ، ولذلك اقتنع كينز ومعه مجموعة من الاقتصاديين بضرورة تدخل الدولة لاحداث النمو والاسراع به أي التنمية الاقتصادية ECONOMIC DEVELOPMENT فقد عرفها كينز بأنها : زيادة حجم التوظف وامتصاص مزيد من العمال العاطلين عن العمل ، مما يؤدي إلى زيادة انفاق هؤلاء العمال على الاستهلاك ، وبالتالي تشجيع المشروعات على زيادة استثماراتها في المجمتمع مما يزيد من الدخل القومي[6].
وهناك نظريات كثيرة في التنمية مثل النظرية الكلاسيكية والنيوكلاسيكية ، ونظرية النمو المتوازن ، ونظرية النمو غير المتوازن ، ومنها نظرية المراحل التي تبناها روستو عام 1960 وهي ان التنمية تمر بالمراحل الآتية :
· مرحلة المجتمع التقليدي
· مرحلة التهيؤ للانطلاق
· مرحلة الانطلاق
· مرحلة الاتجاه نحو النضج الاقتصادي
· مرحلة الاستهلاك الوفير[7] .
فالتنمية لها مكونات أساسية ، يرى البعض أن أهمها هو رأس المال باعتباره المحرك الأول للتنمية ، يرى آخرون : أن تقدم الإنسان علمياً وثقافياً واجتماعياً هو الأساس .
وأما مؤشرات التنمية فقد ثار فيها خلاف أيضاً بين الاقتصاديين :
فيرى بعضهم أنها هي : زيادة الدخل الحقيقي للمجتمع ، وزيادة متوسط الدخل للفرد ، ويرى فريق ثان أنها : زيادة الكفاءة الانتاجية عن طريق استعمال التقنيات المتطورة وأساليب الانتاج المتقدمة .
ويرى فريق ثالث : أنها الزيادة في الناتج القومي من السلع والخدمات .
وفريق رابع أنها زيادة معدل الادخار من 5% إلى 12% من الدخل القومي ، أو أنها الزيادة في متوسط دخل الفرد مطلقاً .
وقد وجهت انتقادات كثيرة نحو هذه المؤشرات وبخاصة نحو المؤشر الأخير ، لأنه يؤدي إلى الاخلال بعدالة التوزيع ، وإلى أن يكون الهدف الأساس هو تعظيم الربح للفرد ، وهذا في حقيقته يمثل جوهر النظام الرأسمالي ، وهو من أكثر الأسباب تأثيراً على ايجاد النظام الطبقي والمشاكل الاجتماعية ، وحتى الأزمات الاقتصادية ـ كما هو الحال اليوم في الأزمة الأخيرة ـ .
عدم نجاح النظريات الغربية في العالم الاسلامي :
لا شك أن المناهج الرأسمالية حققت في أوروبا الغربية وأمريكا منذ القرون الماضية نجاحاً كبيراُ في ميدان التنمية الاقتصادية والتقدم المادي ، والتكنولوجي ، والصناعي ، لما تحمله من حرية الفرد في ممارسة النشاط الاقتصادي ، والحرية في الملكية وحافز الربح ونحوهما ، والتشجيع على الابداع والعمل ، والسبق في الاختراعات ، وساعد على ذلك استعمار أوروبا الرأسمالية لمعظم البلاد في العالم …
ومع ذلك فقد أصيبت التنمية في العالم الغربي بعدة نكسات وأزمات كبيرة بلغت أكثر من ( 200 ) أزمة ، تعتبر الأزمة الأخيرة التي بدأت منذ عام 2007 م أخطرها وأشدها على الإطلاق .
ولكن هذه المناهج أو النظريات وكذلك المناهج الاشتراكية فشلت في عالمنا الاسلامي ، بل والعالم الثالث أجمع لعدة أسباب من أهمها أنها اعتمدت على الوضع الحالي للدول المتقدمة التي لديها البنية التحتية الكاملة ، والتعليم والحرية ، أو أنها أرادت أن تقوم على القياس على المراحل التي مرت بها التنمية في الدول الرأسمالية ، وبالتالي فاقتباسها منها لبلد آخر غير مضمون النجاح نظراً للظروف التأريخية والاجتماعية والثقافية المختلفة عنها ، وهكذا معظم النظريات الأخرى التي قد لا تتناسب بيئتنا في العالم الاسلامي أو في العالم الثالث[8] ، بل إن بعضها تقوم على فروض غير متوافرة في الدول الاسلامية ، إضافة إلى الفساد الاداري والمالي وسرقة الأموال العامة ، وثراء الرؤوساء والمسؤولين ثراء فاحشاً على حساب عامة الشعب ، وعدم وجود البنية التحتية الكافية في معظم العالم الاسلامي والعالم الثالث ، ناهيك عن أن معظم الديون صرفت في الانفاق العام والاستهلاك ، وتمويل مشروعات السياحة غير الناجحة والترفيه مع وجود الحاجة الماسة إلى توفير الضروريات والحاجيات ، وبالأخص في مجال التصنيع والزراعة والتجارة .
ولذلك ظهرت نظريات جديدة تعتبر أكثر واقعية للعالم الثالث من النظريات القديمة ، فمثلاً ذكر مايكل تودارو في كتابه عن التنمية الاقتصادية في عام 1994 عدة معايير جديدة جعلها شرطاً لتحقيق التنمية ، منها :
1) التركيز على الضروريات التي تحتاجها الدولة والشعب
2) التوزيع بعدالة
3) رفع مستويات المعيشة
4) نشر ثقافة الحرية في الاختيار والتحررّ من العبودية للآخرين .
بل إن هنري بروتون في كتابه ” البحث عن الرفاه ” ذكر شروطاً أخرى للتنمية غير الشروط الاقتصادية ، مثل حرية الاختيار ، والتحرر من الظلم والاضطهاد والاستغلال ، والأمن من الاعتقال التعسفي ، وحقوق الانسان ، بل إنه يرفض الحلول والمعايير التي يقدمها البنك الدولي مثل تخفيض سعر الصرف ، والخصصة والتركيز على السياحة[9] .
أنواع التنمية في الاقتصاد الوضعي :
إن للتنمية أنواعاً كثيرة من أهمها : التنمية الاقتصادية التي تعتبر بمثابة العمود الفقري للفكر الوضعي ، وهي محور الاهتمام ، ومركز العناية لدى الحكومات والاقتصاديين ، وهي السبب الأساس في نظرهم للتقدم والاستقرار ، لذلك كان الشعار المرفوع لديهم هو أن ” كل شيء من أجل الاقتصاد ” .
غير أن التجارب الحقيقية التي مرّ بها العالم أثبتت أن التنمية الاقتصادية المستدامة لن تتحقق بالنمو الاقتصادي وحده بل إن النمو الاقتصادي نفسه يتطلب أنواعاً من النمو ، مثل التنمية العلمية ، والاجتماعية ، والسياسية والثقافية ، وفي نظرنا أن عناية الدول الغربية بالتنمية الاقتصادية خلال القرن الماضي ( العشرين ) كانت بسبب أنها حققت في الماضي ( ولا زالت ) التنمية العلمية والسياسية والثقافية ، حتى الاجتماعية إلى حد مناسب ، ولكنها كانت تنقصها التنمية الدينية ، أو التربية الأخلاقية والدينية ، وهذا ما تنبه إليه بعض المفكرين الغربيين من ضرورة العناية بتجربة المجتمع ، وثقافته وفكره وبيئته [10]
ولذلك فإن التنمية الحقيقية لها ركنان أساسيان في فكر الاقتصاد الإسلامي يتمثلان في التنمية الروحية والتنمية المادية ، أو بعبارة أخرى فإن التنمية الاقتصادية المستدامة الحقيقية لن تتحقق إلا إذا نما الإنسان وتحققت له التنمية الثقافية والعلمية والسياسية والاجتماعية إضافة إلى التربية الروحية والأخلاقية .
ومما هو جدير بالتنبيه عليه أنه من الضروري ملاحظة ظروف كل بلد وبيئته وثقافته وإمكانياته .
معايير التنمية البشرية لدى الأمم المتحدة :
بعد فشل كثير من المحاولات التي بذلتها الأمم المتحدة لاحداث التنمية البشرية في العالم الثالث توصلت في تقاريرها السنوية إلى مجموعة من المعايير تتضمن التحصيل العلمي ، والحرية ، ونصيب الفرد من الناتج المحلي ، وتمكين النساء من التصويت والترشيح والمساواة مع الرجل في العمل والأجور[11] .
بل إن تقرير التنمية البشرية لعام 2004م الصادر من الأمم المتحدة يركز على الحريات الثقافية كمعيار للتنمية في المجتمعات المعاصرة .
([1]) د. محمد عزيز : مقدمته لكتاب : مقدمة في التنمية الاقتصادية ، بقلم والترإيلكات ص 18 ، نشر جامعة قاريونس 1983 ص 28 وما بعدها
([2]) د. محمد عزيز : في مقدمته لكتاب : مقدمة في التنمية الاقتصادية ، بقلم والترإيلكات
([3]) يراجع : القاموس المحيط ، ولسان العرب ، والمعجم الوسيط مادة ” نما ”
([4]) سورة هود / الآية 61
([5]) حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل ميت على عمله إلاّ الذي مات مرابطاً في سبيل الله فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة … ) رواه أحمد بسنده عن فضالة بن عبيد (6/20) ورواه أبو داود والترمذي
([6]) يراجع : جمال عبده : دور المنهج الاسلامي في تنمية الموارد البشرية ط. دار الفرقان عمان 1984 ص 50 وما بعدها ، ومحمد عفر : التنمية الاقتصادية لدول العالم الاسلامي ط. دار المجمع العلمي بجدة 1980 ، ص 27 ، ود.عبدالرحمن يسري : التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الاسلام ط.مؤسسة شباب الجامعة ، الاسكندرية 1981 ص 96 ، ودراسات في التنمية الاقتصادية ط. معهد البحوث والدراسات العربية ، القاهرة 1973 ص 15 وما بعدها ود. كمال حطاب : رؤية إسلامية نحو التنمية ، بحث منشور في مجلة دراسات ، الجامعة الأردنية / كلية الشريعة – المجلد 33 عدد 2 عام 2006
([7]) المراجع السابقة
([8]) يراجع : د.محمد زكي شافعي : التنمية الاقتصادية ، الكتاب الأول ، معهد البحوث والدراسات ترجمة عبدالله صايغ ط. مكتبة لبنان 1964 ص 16 ، ود.يوسف ابراهيم : المنهج الاسلامي في التنمية الاقتصادية ط. الاتحاد الدولي للبنوك الاسلامية 1401هـ ص 17 وما بعدها
([9]) عبدالرزاق بني هاني : عرض ومراجعة كتاب : البحث عن الرفاه ، المنشور في مجلة أبحاث اليرموك المجلد 16 عدد3 سنة 2000 ص183-186
([10]المراجع السابقة ، و محمد شريف بشير: نظرات جديدة في التنمية الاقتصادية ، مقالة منشورة في مجلة قضايا دولية ، إسلام أباد عدد ( 222 ) عام 1994 ص ( 18 ــ 19 ) .