يخص فضيلة الشيخ الأســــتاذ د.علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ونائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث والحـائـز على جائـــزة الدولة، والخبير بالمجامع الفقهية، الوطن بعدد من الكتب والدراسات والأبحاث العلمية التي عكف عليها خلال الفترة الماضية ليكون قارئ الوطن أول من يطالعها ويستفيد منها.. وأول هذه الكتب هو هذا الكتاب:(قضايا المرأة والديمقراطية: دراسة في الفقه والفكر السياسي الإسلامي).. وفيه يتناول فضيلته عددا من القضايا الكبرى التي تخص المرأة مثل: المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات.. ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق السياسية الشاملة وتولى المرأة الوظائف السياسية العامة رئاسة الدولة، أو البرلمان، ورئاسة مجلس الوزراء، والوزارة والقضاء ونحوها.. وحق المرأة في الانتخاب والترشيح للبرلمان.. وسوف يصل في نهاية دراسته هذه إلى نتائج مهمة توصل إليها فضيلته.. وفي ما يلي الحلقة الأولى:
المراد بعنوان البحث
معظم كلمات العنوان واضحة، لكننا نلقي بعض الأضواء على بعض المصطلحات الواردة في العنوان، أو التي لها علاقة بالموضوع، وهي:
1 – الديمقراطية: كلمة إغريقية الأصل معناها حكم الشعب، أي أن يكون الحكم للشعب وليس للفرد، وفي العصر الحديث قال الرئيس الأميركي لنكولن: إنها حكم الشعب بالشعب وللشعب، فالأمة في نظر الديمقراطية هي مصدر السلطات وإرادتها.
ودون الخوض في أسس الديمقراطية العقدية الأيديولوجية فإن المقصود بها اليوم في عالمنا الإسلامي والعربي هو آلياتها وجوانبها التطبيقية المتمثلة في الفصل بين السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وفي شرعية التعددية السياسية، ووصول الحاكم إلى الحكم عن طريق الانتخابات، وفي المساواة في الحقوق والحريات العامة.
وأما حكم الشعب للشعب فإن كان الشعب مسلماً فلا يمكن أن يحكم بما يتعارض مع ثوابت الإسلام، في حين أن له الحق من خلال علمائه الاجتهاد في ما سواها.
والذي يتعلق ببحثنا هنا هو مسألة المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والحريات، مع أن هذه المساواة بين الرجل والمرأة أو حتى بين المواطنين لم تكن موجودة في النظم القديمة، الرومان، واليونان التي ابتدعت الديمقراطية، وإنما ظهرت في العصر الحديث من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948م، وهذه المساواة بين الرجل والمرأة تشمل ما يأتي:
1 – المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات.
2 – مساواة المرأة بالرجل في الحقوق السياسية الشاملة لما يأتي:
أ- تولي المرأة الوظائف السياسية العامة رئاسة الدولة، أو البرلمان، ورئاسة مجلس الوزراء، والوزارة والقضاء ونحوها.
ب- حق المرأة في الانتخاب والترشيح للبرلمان.
فهذه المسائل هي التي نلقي بعض الأضواء عليها في ظل ما تسمح به طبيعة البحث.
ولكن بعد بيان نبذة تأريخية لحقوق المرأة السياسية والفتاوى المتعارضة، ثم بيان منهجية دقيقة في بحث هذا الموضوع.
2 – السياسة: هي لغة من ساس يسوس سياسة، ولها معان كثيرة، فيقال: ساس الناس أي تولى رياستهم وساس الفرس أي قام بأمرها، فروضا وهيأها، وساس الأمور أي دبرها، وساس الرعية أي أمرهم ونهاهم، وساس الطعام أي أكله دود السوس.
ولو نظرنا إلى المعاني اللغوية للفظ السياسة ومشتقاتها لوجدناها تستوعب كل أنواع السياسات الحكيمة الرشيدة، والظالمة والعنيفة، والتي تقوم بترويض الشعوب، وكذلك التي بمثابة دودة السوس التي تنخر في عظام الشعب المحكوم فتدمره في قواه وفي إبداعاته، ومقوماته.
الخلافة والاستخلاف
تكرر لفظ الخليفة في القرآن الكريم مرات منها قوله تعالى في بيان رسالة آدم ووظيفته في الأرض: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، أي يخلف في الأرض لتحقيق أهداف معينة، ومقاصد حددها القرآن الكريم، وهي:
أ- العبودية لله تعالى، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).. تعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى القائم على الفلاح والإصلاح دون الفساد والإفساد، فقال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا).
وقد ارتبطت فكرة الخلافة في الفقه السياسي بالفترة الراشدة التي حكم فيها الخلفاء الأربعة، بناء على الحديث الذي ورد.
وهذا المصطلح الخلافة بهذا المعني الخاص لم يرد في القرآن الكريم، بل إن الصحابة أطلقوه على أبي بكر باعتباره خليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم لما جاء عمر استصعب خليفة خليفة……
نبذة تأريخية- بإيجاز شديد- لحقوق المرأة السياسية:
لم تكن للمرأة حقوقها المدنية والاجتماعية- ناهيك عن الحقوق السياسية- في ظل الحضارات السابقة على الإسلام، حتى لم تكن لها الأهلية في ظل القانون الروماني، وأن بعض الحضارات تنظر إليها باعتبارها شراً لا بدّ منها، وفي العصر الجاهلي كان الوأد نصيب كثيرات منهنّ، وفي معظم الحضارات القديمة كن كالمتاع تورث- كما هو معروف.
وحينما جاء الإسلام نظر إلى المرأة نظرة أخرى فأعطى لها كرامتها الكاملة وإنسانيتها، وأصّل هذا المبدأ من خلال أن أصلها مع الرجل واحد أنتم بنو آدم وآدم من تراب ثم مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ أي مخلوطة من ماء الرجل الذي يحمل 23 كرموسوماً ومن البيضة التي تحمل أيضاً 23 كرموسوماً، وأن جميع الآيات الخاصة بكرامة بني آدم والإنسان وبالثواب والجزاء، والحقوق والواجبات تشمل الطرفين، ومع ذلك أكد ذلك من خلال قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وهذه الدرجة هي درجة إدارة البيت وتسيير سفينة الحياة بالتشاور والتراضي والمحبة والسكينة نحو برّ الأمان، وقوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ).
بل إن القرآن الكريم نفى نفياً قاطعاً أن تكون المرأة الأولى حواء هي السبب في خروج آدم من الجنة، وبالتالي المصائب التي حلت ببني آدم، وتحميلها المسؤولية، كما كان السائد لدى جميع الأديان السابقة، حيث بينت الآيات بأن الأمر بعدم القرب عن الشجرة كان شاملاً لآدم وحواء فقال تعالى: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) وأنهما معاً اغترا بالشيطان فقال تعالى: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) وأنهما معاً ارتكبا المخالفة فقال تعالى: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ) وأنهما معاً: (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).. كما أنهما تساويا في زجر الله لهما فقال تعالى: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ).. وأنهما معاً اعترفا بذنوبهما وتابا إلى الله تعالى: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).. بل إن بعض الآيات تسند العصيان والمسؤولية إلى آدم فقال تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى).
كما أن الآيات القرآنية تدل على مساواة الرجل والمرأة في الأجر والثواب، والعقاب فقال تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).
وقد ألغى الإسلام كل العادات والتقاليد التي تتنافى مع كرامة المرأة وإنسانيتها، ولا يسع المجال لذكرها، حيث شهد بذلك كل المنصفين من الرجال والنساء من المسلمين وغيرهم فقد شهدت كثير من النساء حتى صاحبات الفكر التحرري بأن الإسلام هو دين الإصلاح الذي جاء لردّ الظلم عن المظلومين ولذلك كان لكون خديجة أول من أسلمت، ولدور سمية وغيرها من الجواري اللاتي أسلمن، ولدور أسماء بنت أبي بكر الصحابية الجليلة الثائرة السياسية المناضلة دلالات عظيمة تقول توجان فيصل: (حقوق المرأة في الإسلام كما في أحكامه الأخرى أحدثت النقلة السياسية والاجتماعية التي تفرق عهد الإسلام عما سبقه…. وفي إلغاء التمييز وصولاً إلى حالة قادرة على الاستمرار.. إن هذا النهج الإصلاحي هو ما يجعل الإسلام ديناً صالحاً لكل زمان ومكان).. وفي عصرنا الحاضر تأخرت الدول المتقدمة اليوم في الاعتراف بحقوق المرأة السياسية بصورة عامة، فلم يعترف لها بهذه الحقوق السياسية في أميركا إلاّ في عام 1920م وفي بريطانيا عام 1928، وفي فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، مع أن المرأة نصف المجتمع، وهو الشق الثاني الوحيد المكمل للمجتمع الإنساني، ونصف القوى البشرية لأي مجتمع، وهي التي تتحمل مسؤولية بناء الرجال وتربية الأبطال، ولها النصيب الأكبر من المتاعب والمشاكل، والتشرد والفقر واللجوء.
وأمام هذه الواجبات فإن دورها السياسي لايزال في العالم أجمع أقل بكثير من أدوارها الأخرى، حيث تشير الإحصاءات إلى أن حجم تمثيل المرأة في البرلمانات العربية يتراوح بين 1 % إلى 4 % ففي مجلس الشعب المصري السابق فإن حجم مشاركة المرأة فيه في حدود 2.2 %، وحتى في العالم الغربي المتقدم فإن حجم تمثيل المرأة في مجلس العموم البريطاني 18.2 % وفي الجمعية العمومية لفرنسا بلد النور والتحرر كما يقولون 6 %، وفي الدول الآسيوية تصل إلى 19 % وفي أميركا اللاتينية 10 %.
ومن الجانب السياسي التطبيقي الخاص بالرئاسة فإن معظم الحضارات السابقة كالحضارة الرومانية، والحضارة اليونانية والحضارة الصينية عجزت أن تقدم امرأة واحدة لقيادة امبراطوريتها على مرّ تاريخها الطويل، بل إن أميركا منذ نشأتها إلى الآن لم تصبح امرأة واحدة فيها رئيسة لها.
ولكن حقوق المرأة السياسية قد طرحت في القرن العشرين من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث بدأ العمل في التوسع في دراسة الحقوق والحريات المعلقة وتدوينها في شكل قانون ملزم، ونتج عن هذه العملية بروز وثائق مهمة ولها صلة مباشرة بوضع حقوق المرأة ولا سيما في المجال السياسي كالاتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للمرأة سنة 1952م والاتفاقية الخاصة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والتي أقرت عام 1979 وبدأ تنفيذها عام 1981 والأهم في هذه الاتفاقية أنها حددت وبشكل دقيق المجالات العالمية لهذه الحقوق وذلك من خلال ما نصت عليه المادتان من هذه الاتفاقية من ضرورة وكفالة المساواة مع الرجل في:
1 – التصويت في جميع الانتخابات.
2 – الأهلية للترشيح.
3 – المشاركة في صياغة السياسات وتنفيذها.
4 – شغل الوظائف العامة على جميع المستويات الحكومية.
5- المشاركة في منظمات وجمعيات غير حكومية.
6- تمثيل الحكومة في المستوى الدولي.
7- المشاركة في المنظمات الدولية.
ولكن أبرز سمات هذه الاتفاقية تأكيدها الصريح على الهدف المتمثل في تحقيق المساواة الفعلية إلى جانب المساواة القانونية، وهو ما انعكس على عدد من المواثيق والإعلانات الدولية الأخرى، وآخرها العمل الصادر عن مؤتمر المرأة العالمي الرابع الذي انعقد في بكين عام 1995.