تأصيل
الاستثناءات في الفقه الإِسلامي:
إن
من يتعمق في نصوص الشريعة الغراء ويتدبر في أصولها وأحكامها، وجزئياتها وفروعها
ليتبين له بوضوح أن ديدنها هو تحقيق العدالة، وليست الوقوف عند النظريات العامة
والمبادىء والقواعد الكلية، على عكس القوانين ــ ذات الصبغة اللاتينية ــ التي
تولي عنايتها بالنظريات العامة، ولذلك نرى هذه الشريعة حتى لو أصلت قواعد عامة في
موضوع معين لوجدتها تخالف مقتضاها فيما لو أدى ذلك إلى عدم تحقيق العدالة،
والمقاصد الشرعية المطلوبة، وهذا نابع من ربانيتها، وأنها شريعة دينية مقصدها
الأسمى تحقيق العدالة وليس تنفيذ القواعد.
ومن
هذا المنطلق انطلق الأصوليون وقعدوا قاعدة: «ما من عام إلا وقد خص»[1]،
فأخذت الاستثناءات سبيلها إلى معظم المسائل حتى صيغ منها في بعض الأحيان قواعد
عامة مثل قاعدة: السكوت في معرض الحاجة بيان، وهي أساسًا استثناء من قاعدة: لا
ينسب إلى ساكت القول[2].
ولذلك
نرى أن الاستثناء وارد في أخطر المسائل وأكثرها حساسية مثل الربا، حيث استثني منه
بيع العرايا، فالنصوص الصحيحة تدل بوضوح على وجوب التقابض والتماثل في بيع التمر
بالتمر[3]،
وعلى عدم جواز بيع الرطب بالتمر لنقصان الرطب إذا جف[4]،
ومع ذلك رخص الرسول صلى الله عليه وسلّم استثناء من هذه القاعدة العامة في بيع
العرايا أن تباع بخرصها كيلاً»[5].
وبيـع
العرايـا هو: أن يخرص الرطب عـلى رأس النخـل تمـرًا ويبـاع بمثلـه مـن التمر[6]،
وقال سفيان بـن حسين: العرايـا نخـل كـانت توهـب للمساكين فـلا يستطيعون أن
ينتظروا بها فرخص لهم أن يبيعوها بمـا شاؤوا من التمر[7]،
وقد روى الشافعي عن محمود بن لبيد قال: قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ قال:
فلان وأصحابه شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الرطب يحضر وليس عندهم
ذهب ولا فضة يشترون بها منه، وعندهم فضل تمر من قوت سنتهم، فرخص لهم أن يشتروا العرايا
بخرصها من التمر يأكلونها رطبًا»[8].
فقد
استثنى الرسول صلى الله عليه وسلّم العرايا لأجل حاجة هؤلاء إلى الرطب تحقيقًا
لباب المساواة، وإشباعًا لرغبات هؤلاء حتى لا يحرموا مما هم في رغبة إليه استثناء
من القواعد السابقة في باب الربا.
وكتب
السنَّة مليئة بمثل هذه الاستثناءات والترخيصات.
واعتبر
بعض الفقهاء بيع السلم استثناء من قاعدة بيع المعدوم[9]
وهكذا الكثير من المسائل تبنى عند الفقهاء على الاستثناءات.