الاستحالة :
التعريف بالاستحالة :
الاستحالة : لغة مصدر : استحال يستحيل ، وأصلها من : حال الشيء ، أي تغير من حال إلى حال ، ويقال : تحول الشيء أي تغير من حال إلى حال[1] .
والاستحالة في اصطلاح الفقهاء لا يختلف معناها كثيراً عن معناها اللغوي[2] ، وقد يفهم مما قاله ابن عابدين أن الاستحالة عند الحنفية : التغير ، وانقلاب الحقيقة ، حيث يقول : (اعلم أن العلة عند محمد : هي التغير وانقلاب الحقيقة ، ومقتضاه عدم اختصاص ذلك الحكم بالصابون فيدخل فيه كل ما كان فيه تغير وانقلاب حقيقة ، وكان فيه عموم البلوى عامة…) ثم ذكر أمثلة للاستحالة ، ثم قال : (فإن ذك كله انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى ، لا مجرد انقلاب وصف)[3] .
ويقول المباركفوري : (قد اختلف في طهارة لبن الجلالة ، فالجمهور على الطهارة ، لأن النجاسة تستحيل في باطنها ، فيظهر بالاستحالة كالدم يستحيل في اعضاء الحيوانات لحماً ويصير لبناً)[4] مما يفهم منه بوضوح ان الاستحالة تحول الحقيقة والاسم.
وذكر الخطاب ان الاستحالة هي تحول المادة عن جميع صفاتها وخروجها عن اسمها الذي كانت به إلى صفات واسم يختص بها [5].
ومن هذه النصوص يتبين لنا أن الاستحالة لدى الفقهاء هو تحول شيء إلى شيء آخر بتغير حقيقته وأوصافه ، مثل الخمر التي تحولت إلى الخل[6] .
وهناك مصطلحات أخرى يستعملها الفقهاء بالمعنى السابق مثل (تحول العين) او انقلاب العين ، بمعنى تغير ذات الشيء إلى ذات أخرى ، ومثل (الاستهلاك) وذلك لأن بعض صور الاستحالة تقع عن طريق زوال مادة في مادة أخرى حتى تصبح المادة الأولى مستهلكة في الثانية[7] .
وتستعمل الاستحالة في علم الكيمياء بأنه تفاعل كيميائي يحول المادة من مركب إلى مركب كتحويل الزيوت والشحوم إلى صابون[8] .
أثر الاستحالة في التطهير والحل :
تحرير محل النزاع :
لا خلاف بين الفقهاء في أن الخمر إذا استحالت بنفسها إلى خلّ فقد طهرت وحل شربها ، وذلك لإجماعهم على طهارة الخلّ وحلها ، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (نِعْمَ الإدام الخلّ)[9] حيث أثنى على الخلّ ، ولا يكون الثناء إلاّ على المباح الطاهر ، قال النووي : (والصواب الذي ينبغي ان يجزم به : أنه مدح للخلّ نفسه)[10] ولذلك قال ابن رشد : (وأجمعوا على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها جاز أكلها)[11] .
طهارة الجلود النجسة بالدباغ :
كما أن جمهور الفقهاء الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة في رواية ، والمالكية في رواية سحنون ، وابن عبدالحكم[12] ذهبوا إلى طهارة الجلود ـ من حيث المبدأ ـ بالدباغة ، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا دبغ الإيهاب فقد طهر) قال الترمذي بعد أن روى بسنده بلفظ : (أيما إيهاب دبغ فقد طهر)[13] : (والعمل على هذا عند أكثر اهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم كرهوا جلود السباع ، وإن دبغ ، وهو قول عبدالله بن المبارك ، وأحمد واسحاق ، وشددوا في لبسها ، والصلاة فيها ، قال اسحاق بن إبراهيم : إنما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (أيما إيهاب دبغ فقد طهر) جلد ما يؤكل لحمه ، هكذا فسّر النضر بن شميل …. قال أبو عيسى : وفي الباب عن سلمة بن المحبّن ، وميمونة ، وعائشة ، وحديث ابن عباس حسن صحيح ، وقد روى من غير وجه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم …قال أبو عيسى : والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم ،وهو قول سفيان الثوري ، وابن المبارك ، والشافعي وأحمد واسحاق[14].
فجمهور العلماء متفقون من حيث المبدأ على أن جلود الميتة إذا دبغت فقد طهرت وان كان هناك اختلاف لدى بعضهم في استثناء الخنزنير ، والكلب ، أو احدهما[15] وهذا القول هو الراجح لأن الحديث الذي ذكرناه صحيح وواضح في الدلالة على أن الإهاب يطهر مطلقاً،وقد ورد بلفظ:(أيما إهاب دبغ فقد طهر) رواه الترمذي وصححه والنسائي وأبو داود[16] وبلفظ:(إذا دبغ الإهاب فقد طهر) وهو حديث رواه مسلم ـ كما سبق ـ .
وأما ما روى عن عبدالله بن عكيم في النهي عن الانتفاع من الميتة بإهاب فقد قال فيه النقاد : انه حديث مرسل ومنقطع ، ومضطرب جداً[17] ، فعلة واحدة من هذه العلل تكفي لرفض الحديث ، وتضعيفه ، فكيف إذا اجتمعت هذه العلل الثلاث كلها في حديث واحد ، ولذلك لا يمكن أن ينهض حجة ، ولا قادراً على نسخ الحديث الصحيح السابق أو تخصيصه .
وأما أحاديث النهي عن جلود السباع وان كانت خاصة لا ينسخ بها الحديث السابق ، فهي محمولة على الركوب عليها ولباسها لأجل الخيلاء والتكبر ، حيث كانت مراكب أهل السرف والخيلاء ، كما نهى عن لبس الحرير والذهب للرجال ، ولذلك يقول الشوكاني : (وأما الاستدلال بهذه الأحاديث على تخصيص الحديث السابق فغير ظاهر لأن غاية ما فيها مجرد النهي عن الركوب عليها ، وافتراشها ، ولا ملازمة بين ذلك وبين النجاسة)[18] .
حكم الاستحالة التي تتم بفعل الإنسان بالإضافة :
وإنما الخلاف الكبير في الاستحالة التي تتم بفعل الإنسان من خلال إضافة مواد كيميائية تحول المادة وتغيرها من حال إلى حال آخر ، أو لأي سبب آخر كان ؟
للإجابة على هذا نذكر بعض الحالات التي ذكرها الفقهاء السابقون ، ثم نتبعها بحالات معاصرة :
الحالة الأولى: تخليل الخمر من خلال طرح شيء فيها، أو قصد تخليلها بأي شيء آخر.
فقد اختلف فيها الفقهاء ، حيث ذهب الشافعي ، والظاهرية ، ومالك في المشهور ، وأحمد في الرواية المشهورة التي اختارها ابن تيمية وابن القيم إلى أن هذا التخليل غير جائز[19] ، وهذا مروي عن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن أبي العاص ، وبه قال جماعة من أهل الحديث[20] .
وهل تطهر الخمر المخللة بهذا ؟
قال المالكية : نعم تطهر حتى ولو قالوا : بأن التخليل المتعمد نفسه حرام ، وهذا وجه للشافعية على تفصيل[21] وبناء على هذا القول قد فصلوا بين الحكم التكليفي الذي هو الحرمة للتخليل ، والحكم الوضعي الذي هو صحة العمل وصلاحية السبب للتطهير .
جاء في الشرح الكبير في بيان الطاهرات : (ومسك ـ بكسر وسكون ـ وأصله دم انعقد لاستحالته إلى صلاح ، وفارته ـ بلا همز ـ وهي الجلدة التي يكون فيها ، وزرع سقي بنجس وإن تنجس ظاهره ، فيغسل ما أصابه من النجاسة ، ومن الطاهر خمر تحجّر أي جمد لزوال الاسكار منه ، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً … أو خلل بالبناء للمفعول ، فالمتخلل بنفسه أولى بهذا الحكم ، وكذا ما حجر على المعتمد … وإذا طهر طهر إناؤه…. )[22] .
قال الدسوقي : (قوله : أو خلل : أي بطرح ماء أو خل ، أو ملح ، أو نحو ذلك فيه) ثم قال : (واختلفوا في تخليلها : فقيل بالحرمة لوجوب إراقتها ، وقيل بالكراهة ، وقيل بالإباحة ، وعلى كل يطهر بعد التخليل)[23] .
وذهب الحنفية ، والمالكية في قول نقله عنه أشهب ، واحمد في رواية إلى أنها تطهر ، وتحل[24] ، وهذا مروي عن أبي الدرداء[25] ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد والكوفيون[26] ، واختاره البخاري ، والقرطبي ، وابن حجر كما يفهم من صنيعهم[27] .
وذهب قول ثالث بالكراهة ، وهو قول للمالكية[28] .
وقد استدل القائلون بعدم تطهير الخمر بالتخليل بحديث رواه مسلم ، والترمذي والنسائي بسندهم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلاً فقال : لا )[29] .
قال النووي : (هذا دليل الشافعي والجمهور : أنه لا يجوز تخليل الخمر ، ولا تطهر بالتخليل … أما إذا نقلت من الشمس إلى الظل ، أو من الظل إلى الشمس ففي طهارتها وجهان لأصحابنا : أصحهما : تطهر)[30] .
وقال الخطابي في المعالم : (أن معالجة الخمر حتى تصير خلاً غير جائز ، ولو كان إلى ذلك سبيل لكان مال اليتيم أولى الأموال به لما يجب من حفظه وتثميره ، والحيطة عليه ، وقد كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ، فعلم أن معالجته لا تطهره ، ولا ترده إلى المالية بحال)[31] .
وقد أجاب الحنفية عن هذا الحديث بأن القوم ـ أي العرب عند تحريم الخمر ـ كانت نفوسهم ألفت بالخمر ، وكل مألوف تميل إليه النفس فخشي النبي صلى الله عليه وسلم من دواخل الشيطان ، فنهاهم عن اقترانهم بها نهى تنزيه كيلا يتخذ التخليل وسيلة لها ، وأما بعد طول العهد فلا يخشى هذه الدواخل ، ويؤيده خبر : (نعم الإدام الخلّ) رواه مسلم عن عائشة ، وخبر : (خير خلكم خل خمركم) رواه البيهقي في المعرفة عن جابر مرفوعاً…)[32] .
والتحقيق أن هذا الجواب ضعيف لأن القول بأن النهي للتنزيه ، خلاف الظاهر ، ولا سيما أن المسألة تتعلق بأموال اليتامى ، فلا يعقل الأمر بإراقة خمورهم ، وأن أبا طلحة يقوم بذلك لمجرد كراهة تنزيه ، لأن المسالة تتعلق بإضاعة مال اليتيم .
واستدل الحنفية ومن معهم لجواز التخليل والطهارة به بما يأتي :
1ـ الآيات والأحاديث الدالة على حل الطيبات ، مثل قوله تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتِ)[33] ووجه الاستدلال بها أن الخل وإن كان بالتخليل فهو من الطيبات ، لأنه لا يضر بل يفيد ، فلا يدخل في الخبائث المحرمة ، وأنه لم يظل مسكراً حتى يدخل في المسكرات المحرمة .
2ـ دخول الخمر المخللة بفعل الإنسان في مضمون ومدلول قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (نعم الإدام الخلّ) وهو حديث صحيح ـ كما سبق ـ حيث إن العبرة بدخول الشيئ في حقيقته هو الاسم والمضمون والمحتوى ، وكل ذلك متحقق في الخل المخلل بفعل الإنسان ، وذلك لأن الشرع قد رتب وصف النجاسة على حقيقة الشيء النجس ، فإذا انتفت تلك الحقيقة انتفت تلك النجاسة .
3ـ القياس على الدباغ الذي يتم بفعل الإنسان مع انه يطهر الجلد النجس المحرم ، ويحلله ـ كما سبق ـ .
4 ـ رعاية مبدأ القاعدة العامة القاضية بأن الأصل في الأشياء الإباحة .
ثم إن هؤلاء الفقهاء حملوا النهي في الأحاديث الواردة بعدم تخليل الخمر إما على كراهة التنزيه ، أو التحريم ، ولكنه لمعنى في غيره ، وهو دفع عادة العامة وتعويدهم على عدم بقاء الخمر في بيوتهم فوراً سداً للذريعة ، فإذا زال هذا المعنى انعدم الحكم السابق ، وثبت الحلّ ، كما أن ولي التيم لا يجب عليه التخليل ، كما لا يجب عليه دباغ شاة يتيمه[34] .
بل إنهم قالوا : إن الأمر بإراقة الخمور كان في بداية تحريم الخمر حتى يتم تعويد القوم المتعودين على شرب الخمور بالانتهاء التام ولا يبقى في بيوتهم شيء يكون ذريعة لها ، ولهذا السبب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكسر اوعية الخمور مع انها يجوز تطهيرها بمجرد الغسل ، حتى ورد الأمر بكسر الدنان التي كانت ملكاً ليتامى أبي طلحة ، كما ورد في حديث الترمذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (اهرق الخمر ، وكسر الدنان)[35] ويقول الحافظ ابن حجر : (ووقع … من رواية أخرى عن مالك في هذا الحديث : (قم إلى هذه الجرار فاكسرها) وقال أنس : فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت) وهذا لا ينافي الروايات الأخرى ، بل يجمع بأنه أراقها ، وكسر أوانيها أو أراق بعضاً ، وكسر بعضاً)[36] .
وقد ترجم البخاري في صحيحه : باب : هل تكسر الدنان التي فيها خمر ، أو تخرق الزقاق ، ثم روى بسنده عن سلمة بن الأكوع ان النبي صلى الله عليه وسلم رأى نيراناً توقد يوم خيبر ، فقال : (علام توقد هذه النيران ؟) قال : على الحمر الإنسية ، قال : (اكسروها ، واهريقوها) قالوا : ألا نهريقها ونغسلها ؟ قال : (اغسلوا)[37] قال الحافظ ابن حجر : (وكأنه أشار بكسر الدنان إلى ما أخرجه الترمذي (أي الحديث السابق) وأشار بتخريق الزقاق إلى ما أخرجه احمد عن ابن عمر ، قال : (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم شفرة وخرج إلى السوق ، وبها زقاق خمر جلبت من الشام فشق بها ما كان من تلك الزقاق) فأشار المصنف إلى أن الحديثين إن ثبتا فإنما أمر بكسر الدنان وشق الزقاق عقوبة لأصحابها ، وإلاّ فالانتفاع بها بعد تطهيرها ممكن كما دل عليه حديث سلمة)[38].
جاء في تحفة الأحوذي : (وإنما أمر بكسره … مبالغة للزجر عنه ، وعن قرابها ، كما كان التغليظ في أول الأمر ، ثم نسخ ، كذا في المرقاة)[39] وحديث الترمذي ثابت حيث قال فيه الترمذي نفسه : (وهذا أصح من حديث الليث)[40] ، وحديث أحمد روى بروايتين إحداهما فيه ابن أبي مريم الذي ضعفه مكحول ، وقال آخرون : ضعيف اختلط ، ووثقه الموصلي ، وبقية رواته ثقات ، والثانية سندها حسن ، ورواها الطبراني أيضاً[41] .
وقد روى كذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عوض أيتام أبي طلحة عما أتلف لهم بحال[42] .
وعلى ضوء ذلك فإن ما حدث من منع التخليل كان في بداية التحريم كما حدث كذلك في أمره صلى الله عليه وسلم بكسر القدور التي كانت تطبخ فيها لحوم الحمر الأهلية حيث لما رأي منهم الاذعان أذن لهم بعدم كسرها[43] .
والخلاصة أن جماعة من كبار المحدثين مثل البخاري ، وابن حجر ، وابن الجوزي ، والطحاوي ، والقرطبي ، وابن رشد[44] إضافة إلى الحنفية ، ومالك في قول ، وأحمد في رواية يرون أن الخمر تطهر وتحل بالتخليل ، بل قد رأينا المالكية كلهم حكموا بطهارتها وان لم يقولوا بحلها ـ كما سبق ـ .
وقد عقد ابن القيم فصلاً لطهارة الخمر باستحالتها وانها توافق القياس ، فقال : (وعلى هذا الأصل فطهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس ، فإنها نجسة لوصف الخبث فإذا زال الموجِب زال الموجَب ، وهذا أصل الشريعة في مصادرها ، ومواردها ، بل أصل الثواب والعقاب ، وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت ، وقد نبش النبي صلى الله عليه وسلم قبور المشراكين من موضع مسجده[45] ، ولم ينقل التراب ، وقد أخبر الله سبحانه عن اللبن أنه يخرج من بين فرث ودم ، وقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا علفت بالنجاسة ثم حبست وعلفت بالطاهرات حلّ لبنها ولحمها ، وكذلك الزرع والثمار إذا سقيت بالماء النجس ثم سقيت بالطاهر حلت لاستحالة وصف الخبث وتبدلها بالطيب ، وعكس هذا أن الطيب إذا استحال خبيثاً صار نجساً كالماء والطعام إذا استحال بولا وعذرة ، فكيف أثرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثاً ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيباً ؟ والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب ، ولا عبرة بالأصل ، بل بوصف الشيء نفسه ، ومن الممتنع بقاء حكم الخبث ، وقد زال اسمه ووصفه ، والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجوداً وعدماً ، فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر لا يتناول الزرع والرماد والملح والتراب والخل لا لفظاً ولا معنى ولا نصاً ولا قياساً ، والمفرقون بين استحالة الخمر وغيرها قالوا : الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة ، فيقال لهم : وهكذا الدم والبوم والعذرة إنما نجست بالاستحالة فتطهر بالاستحالة ، فظهر أن القياس مع النصوص وأن مخالفة القياس في الأقوال التي تخالف النصوص)[46] .
ولا يسعني بعد هذا العرض إلاّ أن أرجح هذا القول الموزون للإمام ابن القيم ، وذلك لأن الأوصاف الشرعية من الحرمة ، والنجاسة ونحوهما مرتبة على حقائق الأشياء وصفاتها الأساسية ، فإذا تغيرت تلك الحقائق والصفات تغيرت الأوصاف الشرعية ، بل لم تعد هناك تلك الحقيقة التي تعلق بها حكمها المناسب ، ولذلك يقول الحنفية : (العصير طاهر ، فيصير خمراً فينجس ، فيصير خلاً فيطهر)[47] وقالوا أيضاً : (إن استحالة العين تتبع استحالة الوصف)[48] حتى الظاهرية يقولون : (إن الحرام إذا استحالت صفاته واسمه بطل حكمه الذي علق على ذلك الاسم)[49] .
الحالة الثانية : غير الخمر حيث ذكر فقهاؤنا أمثلة أخرى ، منها :
1ـ المسك الذي تحول من الدم إليه ، وهو طاهر عند الجميع[50] ، قال المواق : (اتفقوا على طهارة المسك ، وإن كان خراج حيوان ، لاتصافه بنقيض علة النجاسة وقارة المسك ميتة طاهرة إجماعاً لانتقالها من الدم ، كالخمر للخل[51] .
2ـ السرجين والعذرة عندما يتحول إلى الرماد عن طريق الحرق يصبح الرماد طاهراً عند جمهور الحنفية خلافاً للشافعية في الجديد[52] .
3ـ الميتة والخنزير ، والفأرة إذا وقعت في المملحلة فأصبحت ملحاً فقد طهر ، بل لا يسمى باسمه السابق عند جماعة من الفقهاء منهم الحنفية .
4ـ الزيت النجس وتحويله إلى صابون طهر عند الحنفية[53].