يمكن تلخيص مقاصد الشريعة في الطب فيما يأتي :
أولاً : الحفاظ على النفس والبدن والأعضاء باعتبارها من الضروريات :
إن أهم مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء في الطب تكمن في أن الحفاظ على البدن : أعضائه وأجزائه وأجهزته وصحته ، وإبعاده عن المهلكات والمضرات ، من الضروريات التي بجب الحفاظ عليها ، فلا يجوز التصرف في البدن ، ولا الاعتداء عليه ولا على روحه ونفسه إلاّ بإذن الله الخالق الحكيم الذي خلقه بيده ونفخ فيه من روحه .
ثانياً : دفع الأضرار ، وكل ما هو ضرر أو خبيث :
وكذلك يعتبر من أهم مقاصد الشريعة دفع الأضرار والخبائث ، والمضرات ، ومنع الأسباب المؤدية إلى المرض ، وسد الوسائل الموصلة إلى الضعف ، ولذلك أحل له الطيبات وأمر بها ، وحرّم عليه الخبائث ونهاه عنها ، فقال تعالى في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم في التوراة والانجيل : (ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلأُمِّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِـﭑلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَـٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَْغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَـﭑلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِىۤ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ)[1] .
وقد ورد عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تحريم كل ما هو ضرر وأذى ومفسدة ، فقال صلى الله عليه وسلم : (لا ضرر ولا ضرار)[2] بل جعل الإسلام ميزان الحرام على أساس الضرر والمفسدة والاثم فقال تعالى في بيان أسباب حرمة الخمر والميسر : (يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)[3] .
وقد أصبح الحديث السابق مبدءاً عظيماً من مبادئ الإسلام ، وقاعدة كلية عامة من قواعد الشريعة ، يقول السيوطي في شرح القاعدة العامة : (الضرر يزال) : أصلها : (قوله صلى الله عليه وسلم : (لا ضرر ولا ضرار….. اعلم أن هذه القاعدة ينبني عليها كثير من أبواب الفقه … وتتعلق بها قواعد ، وهي : الضرورات تبيح المحذورات …. وأن الضرورات تقدر بقدرها ، وأن الضرر لا يزال بالضرر ، والحاجة تنزل منزلة الضرورة ، عامة كانت ، أو خاصة)[4] .
والإسلام بما أنه دين من عند الله الحكيم الخبير المطلع على حاجيات الإنسان بكل أجزائه وأجهزته ، وبما أن الله هو الخالق للإنسان وهو الذي شرع للإنسان ، لذلك شرع له كل ما يخصه ويفيده في دينه ودنياه (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ)[5] وأنه جعل تشريعاته في مختلف مجالات الإنسان محققة للتوازن المطلوب حتى يكون قادراً على تحقيق رسالته التي كلفه الله تعالى بها وهي : الاستخلاف في الأرض وتعميرها على ضوء منهج الله تعالى .
ومن هنا جاءت تشريعاته تعالى لتحقيق التوازن بين متطلبات الروح والنفس ، والبدن والجسد والأعضاء ، حيث يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : (صُمْ ، وأفطِرْ ، ونَمْ ، فإن لجسدك عليك حقاً ، وان لعينيك عليك حقاً ، وان لزوجك عليك حقاً ، وان لزورك عليك حقاً…)[6] وفي رواية صحيحة أخرى أن سلمان الفارسي رضي الله عنه الذي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي الدرداء زاره فراى أم الدرداء متبذلة (أي تاركة ثياب الزينة) فقال : ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ، ثم وجد أبا الدرداء أنه صائم بالنهار ، وقائم بالليل ، فقال له سلمان : (إن لربك عليك حقاً ، وإن لنفسك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاً ، فأعط كل ذي حق حقه) فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (صدق سلمان)[7].
ثالثاً : الحفاظ على الصحة ، والأمر بالتداوي :
وكذلك يعتبر من مقاصد الشريعة التداوي والعلاج للحفاظ على استمرارية الصحة والعافية والقدرة على العمل والإنتاج وأداء الشعائر وتعمير الأرض .
ولتحقيق هذا المقصد الشرعي أمر الله تعالى بالتداوي ، فقد روى أحمد والحاكم وأبو داود ، وابن ماجه بسندهم عن أسامة بن شريك قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا : يا رسول الله : أنتداوى ؟ فقال : (نعم يا عباد الله تداووا ، فإن الله عزّوجل لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاء غير داء واحد) قالوا : ما هو ؟ قال : (الهرم)[8] .
كما أن الإسلام يدوعو إلى أن يكون المؤمن قوياً في بدنه ، وجسده ، وفي عقيدته وروحه ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)[9] .
كما قضى الإسلام على كل الخرافات المتعلقة بالأمراض والشفاء من علاقاتها بالجن والشياطين والأرواح الشريرة ، فأسند المرض والشفاء كله إلى الله تعالى ، فكما جعل للمرض أسبابه ، كذلك جعل للشفاء أسبابه فقال تعالى : (قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا)[10] وقال تعالى حكاية عن إبراهيم (وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَٱلَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ)[11] فكما أن الجوع لا يزال إلاّ بسبب الأكل ، والشبع لا يتحقق إلاّ بسببه ، فكذلك المرض والشفاء ، فالكل بيد الله تعالى لكنه تعالى جرت سننه بأن جعل لكل شيء سبباً ، ولذلك حرّم الإسلام الطيرة والتشاؤم والتمائم التي تعلق في الأعناق ، او السواعد ، والعرافة والكهانة ، والذهاب إلى العرافيين والدجالين[12] .
وفي مقابل ذلك أمر بالتداوي حسب ما يذكره أهل الطب ، واعتبار ذلك من قدر الله تعالى[13] .
رابعاً : تمكين الإنسان من تحقيق رسالة الاستخلاف :
وكما هو معلوم فإن رسالة الإنسان هي تحقيق الخلافة وتعمير الأرض على ضوء منهج الله تعالى ، وهذا لا يتحقق إلاّ بأن يكون الإنسان سليماً صحيحاً قوياً قادراً على التمكين ، والعمل والتفكير ، وذلك يتطلب العناية بالصحة والسلامة ، والعلاج من الأمراض .
والمقصود من ذلك أن مقاصد الشريعة في استخلاف الإنسان تقتضي العلاج والتداوي حتى يتمكن الإنسان من أداء رسالته في هذه الأرض .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-
سورة الأعراف / الآية 157 .
-
الحديث رواه مالك في الموطأ والشفعي في مسنده (1/324) وأحمد (1/313 ، 5/326) والحاكم في المستدرك (2/66) وقال : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، ورواه البيهقي في السنن (6/69) والدارقطني (2/77) ويراجع : مجمع الزوائد (4/204) ومصابح الزجاجة للكتاني (3/48) .
-
سورة البقرة / الآية 219 .
-
الأشباه والنظائر للسيوطي ط. دار الكتاب العربي ببيروت 1407هـ ص 173-181 بتصرف .
-
سورة الملك / الآية 14 .
-
صحيح البخاري مع الفتح (4/182 ، 184 و 10/443).
-
صحيح البخاري مع الفتح (4/182 ، 184و 10/443) .
-
مسند أحمد (4/278) والحديث رقم 18366 والترمذي وصححه ، الحديث 2039 ، والمستدرك للحاكم (1/208 ، 4/422 ، 442 ، 456) وصححه ، وابن حبان وجوده في صحيحه كتاب الطب (13/426) والسنن الكبرى للبيهقي (4/2 ، 368، 9/343) وسنن أبي داود الحديث رقم 3855 وابن ماجه الحديث رقم 3436 ويراجع : الأحاديث المختارة بتحقيق عبدالملك دهيش / مكة المكرمة 1410هـ (4/169) والاستذكار (8/414) والمحلى (4/176) وتهذيب الآثار (1/499) ومصنف ابن أبي شيبة (5/31)
(****)
-
سورة التوبة / الآية 51 .
-
سورة الشعراء / الآية 79.
-
يراجع : الحلال والحرام لفضيلة الشيخ القرضاوي ص .
-
يراجع : موارد الضمأن (1/339) .