الولاية ـ بالكسر ـ في اللغة : الإمارة ، وبالفتح : النصرة والنسب والقرابة وغيرهما[1] .
والولاية في اصطلاح الفقهاء لها نوعان :
النوع الأول ـ الولاية العامة ، وقد ذكر لها القاضي أبو يعلى أربعة أقسام ، وهي :
-
الولاية العامة في الأعمال العامة كالخلافة (أو رئاسة الدولة تحت أي اسم كان) والوزارة.
-
الولاية العامة في الأعمال الخاصة كإمارة الأقاليم .
-
الولاية الخاصة في الأعمال العامة كقاضي القضاة ، وقائد الجيوش ، وحامي الثغور ، ومستوفي الخراج ، وجابي الصدقات .
-
الولاية الخاصة في الأعمال الخاصة كقاضي بلد ، أو اقليم[2] … وقد شرحها بعض المعاصرين بأنها تشمل القيام بأي عمل من أعمال السلطات الثلاث : التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية[3] .
النوع الثاني ـ الولاية الخاصة في مجال تنفيذ العقود التي عرفوها بأنها : تنفيذ القول على الغير[4] ، وهذا النوع غير مقصود هنا ، وأنه خارج عن موضوعنا .
وقد اختلف الفقهاء في مدى صلاحية المرأة للولاية العامة على ثلاثة آراء :
-
الرأي الأول ـ المنع المطلق
-
الرأي الثاني : الجواز المطلق
-
الرأي الثالث : التفصيل
ونحن هنا نذكر هذه الآراء الثلاثة مع الأدلة والترجيح بشيء من الايجاز :
الرأي الأول : المنع المطلق وهذا رأي جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة ما عدا بعض الاسثتناءات التي نذكرها في الرأي الثالث ، وهو رأي جماعة من المعاصرين أيضاً .
وقد استدلوا لذلك بالكتاب والسنة والاجماع والقياس وسدّ الذرائع ….
أولاً ـ الكتاب ، حيث استدلوا بمجموعة من الآيات منها :
أ ـ قوله تعالى : ( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )[5] حيث قال الطبري : ( روى عن زيد بن أسلم قوله : ( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) : إمارة )[6] ، وهكذا فسره جماعة من المفسرين[7] .
ب ـ قوله تعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ )[8] حيث ذهب المفسرون إلى أن الآية تدل على إثبات القوامة لجنس الرجال على جنس النساء وأن هذه قاعدة عامة تشمل القوامة داخل البيت وخارجه[9] ، وقال الاستاذ المودودي : ( هذا النص يقطع بأن المناصب الرئيسية في الدولة رئاسة كانت أو عضوية مجلس الشورى لا تفوض إلى النساء…. )[10] .
ج ـ قوله تعالى:( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)[11] حيث يدل على أن الله تعالى فضل البعض وهم الرجال على البعض وهنّ النساء في بعض الأمور مثل الارث ونحوه[12].
د ـ قوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ )[13] حيث ان الآية تأمر النساء بالقرار في البيت وهذا مخالف لاجازة أن تشتغل المرأة بالمناصب العامة .
ثانياً ـ الأدلة من السنة المطهرة :
يعتبر من أقوى الأدلة وأصرحها ما رواه البخاري وغيره عن أبي بكرة … قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال : ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )[14] قال الخطابي في الحديث : ( أن المرأة لا تلي الامارة ولا القضاء …)[15] وقال الصنعاني : ( فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات )[16] وقد ورد الحديث بألفاظ مختلفة منها : ( لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة )[17] وفي رواية أخرى : ( لا ، ” لن ” ، ” ما ” يفلح قوم تملكهم امرأة)[18] .
ويؤكد هذا المعنى العام أن راوي الحديث أبا بكرة قال ذلك عند ما دعي للالتحاق بحملة جمل بقيادة عائشة ، فقال : ( لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعدما كدتُ ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم …. )[19] .
وقد أطال المانعون النفس في شرح الحديث ، ودلالاته على منع المرأة من كل ولاية عامة أو خاصة[20] .
واستدلوا بأحاديث أخرى ليست نصاً في الموضوع[21] .
ثالثاً ـ الاجماع :
حيث انعقد الاجماع على أن المرأة لا تصلح للولاية العامة ، يقول ابن قدامة : ( ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ، ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من خلفائه ، ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية فيما بلغنا ، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً )[22] .
وأكد هذا المعنى الشيخ عبدالمجيد الزنداني واستدل لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ )[23] لكن هذا الحديث فيما يخص العبادات الشعائرية التي الأصل فيها التوقف ، أما العادات والمعاملات فالأصل فيها الاباحة[24].
رابعاً ـ القياس :
أي قياس الولاية على الطلاق ، وعلى الولاية في النفس .
خامساً ـ المصلحة :
حيث إن الأساس في الولايات العامة هي الكفاءة الدائمة ، والقوة والقدرة ، وهي ضعيفة في المرأة ـ كما سبق ـ .
سادساً ـ سد الذرائع :
حيث تؤدي ولاية المرأة للمناصب الرئيسية إلى فساد في الأخلاق وإلى ارتكاب محظورات شرعية من الخلوة ، فالفواحش ،واهمال لدور المرأة الأساس في تربية النشأ[25] .
الرأي الثاني : للقائلين بجواز تولي المرأة الولاية العامة مطلقاً ، وهو ما ذهبت إليه فرقة الشبيبة من الخوارج ، حتى حكموا غزالة وجعلوها إماماً بعد موت شبيب ، الذي لما دخل الكوفة أقامها على منبرها في المسجد الجامع حتى خطبت على المنبر[26] ، وهذا رأي بعض المعاصرين أمثال د. عبدالحميد المتولي ، وظافر القاسمي ، والأخت زينب الغزالي أجازت لها رئاسة الوزراء دون رئاسة الدولة[27] ، حيث استدلوا بما يأتي :
أولاً ـ الكتاب ، حيث وردت عدة آيات تثبت الولاية بصورة عامة ، منها :
أ ـ قوله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ …..)[28] .
ب ـ قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ )[29] يقول الأستاذ محمد عبدالله العربي : ( لم يخص فئة من القوم دون سواهم بأداء مقتضيات الشورى )[30] .
ج ـ قصة ملكة سبأ التي ذكرها القرآن الكريم في معرض الاشادة بهذه المرأة العاقلة الحكيمة التي أبعدت عن قومها شبح الرحب ، ثم أسلمت بعزة واباء فقالت : ( وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[31] ولم تقل لأجل سليمان … فسوت نفسها معه.
د ـ الآيات التي فيها بيعة النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ…… )[32] ومن المعلوم أن البيعة مشاركة سياسية .
ثانياً ـ من السنة المطهرة ، حيث وردت عدة أحاديث تدل على أن المرأة لها حق الولاية ، منها :
-
حديث الخنساء الأنصارية السابق الذي يدل على اثبات الولاية لها في الجملة .
-
السيرة النبوية المشرفة التي تدل على أن النساء شاركن في بيعة الرسول منذ بداية الدعوة ، والتفكير في إنشاء الدولة الإسلامية ، ثم مبايعتهن للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقد شاركت المرأة في بيعة العقبة ، فقد روى أحمد بسنده من حديث جابر قال : ( مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم بمنى وغيرها ، … حتى بعثنا الله له من يثرب قصد قناه … حتى قال : فرحل إليه منا سبعون رجلاً ، ، وذكر حديث كعب : ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ـ فوعدناه بيعة العقبة ، فقلنا : على ما نبايعك ؟ فقال : ( على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم بيثرب ، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ، ولكم الجنة )[33] وقد ذكر الحافظ ابن حجر نقلاً عن ابن هشام أن المرأتين بايعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم دون مصافحة[34] بل إن مبايعة النساء للنبي صلى الله عليه وسلم ثابتة في البخاري ومسلم[35] ، وذكرت كتب السيرة أن نصيبة بنت كعب بايعت الرسول صلى الله عليه وسلم على الجهاد في بيعة العقية الثانية ، وقاتلت في غزوة أحد ، ويوم اليمامة ، وغزوة خيبر ، كما بايعت بيعة الرضوان التي بايع فيها الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت[36].
فهذه البيعة هي بيعة سياسية بكل ما تعني الكلمة ، وقد شاركت فيها النساء ، مما يدل على أن المرأة لها هذا الحق ، ولكن بيعة النساء ليست بالمصافحة وإنما بالكلام ، أو مع مد الأيادي دون المس ، يقول الأستاذ أبو شقة[37] : ( إن مبايعة النساء النبي صلى الله لها عدة دلالات : الدلالة الأولى : استقلال شخصية المرأة ، وأنها ليست مجرد تابع للرجل ، بل هي تبايع كما يبايع الرجل ، الدلالة الثانية : مبايعة النساء النبي صلى الله عليه وسلم تقوم على أساسين : الأول ـ باعتباره صلى الله عليه وسلم الرسول المبلغ ، والثاني ـ باعتباره إمام المسلمين ، ومما يؤكد وجود الاعتبار الثاني قوله تعالى ( ولا يعصينك في معروف) ، وقوله صلى الله عليه وسلم عن طاعة الأمير (إنما الطاعة في المعروف )[38] .
-
مشورته صلى الله عليه وسلم لأم سلمة ـ كما سبق ـ
-
قبوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت يزيد أن تمثل النساء بين يديه ، حيث قالت : (إني رسول مَنْ ورائي من جماعة نساء المسلمين يقلن بقولي ، وعلى مثل رأيي …… الخ )[39] والمقصود أن المرأة مثلت جماعة من النساء مما يدل على مشروعية اتحادات خاصة بهنّ تدافع عن حقوقهن أمام الرجال المسلمين .
-
مشورته صلى الله عليه وسلم للمراة بصورة عامة ، حيث جاء في عيون الأخبار لابن قتيبة ، عن الزيادة ، قال : ( حدثنا حماد بن زيد عن هشام عن الحسن قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير حتى المرأة فتشيرعليه بالشيء فيأخذ به )[40] .
وهذا الحديث وإن كان مرسلاً لكنه معضد بحديث أم سلمة في الصحيح ـ كما سبق ـ .
-
وكذلك الأمر في السيرة الراشدة ، حيث استشار عبدالرحمن بن عوف في امر عثمان وعليّ رضي الله عنهما حتى البكر في خدرها[41] .
الرأي الثالث : القائلون بالتفصيل وأدلتهم :
وهؤلاء اختلفوا في نوعية التفصيل كالآتي :
أولاً ـ فابن جرير الطبري وابن حزم الظاهري يجيزان ولاية المرأة للقضاء ، بل يفهم من كلامهم هو أن الممنوع هو الإمامة الكبرى ( أي أن تكون خليفة المسلمين ، أو رئيسة الدولة ) .
ثانياً ـ الحنفية الذين أجازوا للمرأة تولي القضاء فيما عدا الحكم في الجنايات والحدود .
ثالثاً ـ زفر والمالكية الذين قالوا بجواز قضائها فيما تجوز فيه الشهادة .
رابعاً ـ جماعة من المعاصرين أمثال فضيلة الشيخ محمد الغزالي و الشيخ العلامة يوسف القرضاوي يذهبون إلى جواز أن تتولى المرأة كافة الولايات والمناصب ما عدا الإمامة العظمى إذا توافرت الشروط والضوابط الشرعية المطلوبة ، ولم تترتب عليها مفاسد من إهمال الأسرة ونحو ذلك وهؤلاء استدلوا بجميع أدلة الفريقين ، ولكن حملوها على ما عدا الإمامة العظمى ، فإن كان الديل نصاً في الموضوع كما في حديث : ( لن يفلح قوم…..) حملوا دلالة منعه على الإمامة العظمى ، وإلاّ فحملوه على الولايات الأخرى .
مناقشة الأدلة :
يمكن أن نناقش أدلة المانعين بما يأتي :
أولاً ـ قوله تعالى : (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )[42] لا يدل على منع الولاية مطلقاً ، وإنما هي درجة كون الطلاق والرّجعة بيده ، لأن الآية في بدايتها تتحدث عن الطلاق والرّجعة حيث تقول : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[43] ، أو درجة القوامة داخل الأسرة وفسره قوله تعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً)[44] من حيث إدارة البيت والتأديب ونحو ذلك مما يحتاج إليه البيت بأن يكون له مدير وقائد فهذه الآيات كلها تتحدث عن الأسرة وإدارتها والانفاق عليها ، ولا يمكن أن يقصد بالآية العموم المطلق ، فليس لكل رجل ولاية على كل امرأة ، فهذا غير مقصود من الآية ، إذ ليس للرجل الأجنبي ولاية على امرأة أجنبية ، فهذه ولاية تبدأ بهذا الأصل وهو أن إدارة البيت بيد الزوج لما له من قدرات تهيئه لذلك ، كما أنه ينفق عليها ، ثم تتحدث الآية نفسها عن الزوجة الصالحة ، والزوجة الناشزة …. مع أن هذه القيادة ليست قيادة تحكم واستبداد وإنما قيادة تشاور وتراض ، ومعاشرة بالاحسان ، ولذلك حينما يتخلف عن أهدافها تؤخذ من الزوج .
فالآيتان لا تتحدثان على أية ولاية سوى ولاية الرجل على زوجته في إدارة البيت وأن الرجعة والطلاق بيده ، فالقوامة هي إدارة البيت ، والدرجة إما أنها هذه القوامة ، أو أن الطلاق والرّجعة بيده إضافة إلى أن سبب نزول : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ ……) يدل على هذه الخصوصية[45] ، نعم أن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب عند جمهور الأصوليين[46] ، ولكن المحققين منهم قالوا : إن العموم يخص بالقرائن ومنها السياق ، حيث جاء في البحر المحيط للزركشي : ( قال الشيخ تقي الدين في شرح الإلمام : نص بعض أكابر الأصوليين على أن العموم يخص بالقرائن ، قال : ويشهد له مخاطبات الناس بعضهم بعضاً ، حيث يقطعوه في بعض المخاطبات بعدم العموم بناء على القرينة)[47] إضافة إلى أن عموم هذه القوامة داخل البيت باق لم يمس ، ومع ذلك لو أن الرجل تنازل لزوجته في حق إدارة البيت ، وفوض لها حق الطلاق فإن هذا جائز باتفاق الفقهاء[48] .
ثانياً ـ أما قوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ …. )[49] فيجاب عنه بما يأتي :
أ ـ أن المخاطبات بالآية الكريمة هنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم حيث تبدأ الآية الكريمة ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً)[50] .
فالآية نص في خطاب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنهنّ لسن كبقية النساء ، فكيف يعمم الالزام في جميع الأحكام لبقية النساء ؟
فهؤلاء لهنّ مقام عظيم ، وخصوصية بسبب كونهنّ أزواجاً للرسول القائد صلى الله عليه وسلم ولا سيما أن هذه الآيات نزلت بعد حادثة الافك التي هزت المجتمع الإسلامي وشلّت حركته طوال أربعين يوماً ، وبالتالي فاقتضى التشريع وضع قيود صارمة عليهنّ ، ولذلك خيرهنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى قبل هذها الآية بين البقاء ، والطلاق فاخترن الله ورسوله ، وحينئذ نزلت عليهنّ تشريعات خاصة بهنّ للالتزام بهنّ ، ومنها الأمر بالقرار في البيوت حماية لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ب ـ أن المقصود بـ (وَقَرْنَ ) ليس عدم الخروج مطلقاً ، ويدل على ذلك خروج بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج والعمرة والجهاد ، وأداء صلة الرحم .
ثالثاً ـ ان أقوى أدلتهم هو الحديث المعروف : ( لن يفلح قوم ….) ، ويمكن أن يناقش هذا الحديث بما يأتي :
-
أن الحديث خاص بهذه الواقعة التي قيل فيها ، وهي تولي بنت كسرى الامبراطورية ، حيث صدق قوله صلى الله عليه وسلم فلم يفلح القوم ، بل انهزموا وسقطت الامبراطورية .
وقد يجاب عن هذا بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ـ كما سبق ـ
-
أن الحديث خاص بالولاية العظمى بدليل بعض روايات الحديث الثابتة ، حيث ورد الحديث بلفظ ( تملكهم ) في روايتين ، إحداهما : ( لا يفلح قوم تملكهم أمرأة )[51] والثانية بلفظ : ( لن يفلح قوم تملكهم امرأة )[52] إضافة إلى ورود رواتين أخريين بلفظ : ( لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة )[53] ولفظ : ( لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة )[54] .
-
إن سياق الحديث ( الذي قال المحققون من الأصوليين انه يجوز تخصيص العموم به) يدل بوضوح على أن الحديث كان في الامبراطورية العظمى ، حيث تولتها بروان بنت شيرويه بن كسرى ، ويؤكد ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في سياق الغضب عليهم ، والدعاء عليهم بعدما قام كسرى بتمزيق رسالته صلى الله عليه وسلم حيث ورد في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم دعا عليهم أن ( يمزّقوا كل ممزق )[55] وقال أيضاً : ( إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده )[56] فالحديث خاص بكسرى أو بالامامة العامة .
-
ان لفظ ( أمرهم ) يشير إلى العموم ، أو إلى الكمال ، وهذا لا يتحقق إلاّ في الولاية العظمى .
إن في ذلك جمعاً بين الأدلة ، وهو أولى من الغاء أحدها .
رابعاً ـ ان دعوى الاجماع لا تصح إلاّ في الإمامة العظمى ، أما غيرها فمحل خلاف كبير بين الفقهاء قديماً وحديثاً ـ كما سبق ـ .
خامساً ـ ان قياس الولاية على الطلاق وعلى الولاية في التزويج لا يستقيم لما يأتي :
-
ان الطلاق إذا فوضه الزوج إلى زوجته فإنه صحيح بالاتافق ـ كما سبق ـ ، مع أن القائلين بمنع الولاية لا يجيزون الولاية لا في البداية ، ولا بالتفويض من الرجال .
-
ان ولاية المرأة على تزويج نفسها ، أو غيرها فمحل خلاف كبير ، حيث أجازها الحنفية[57] ، وبالتالي فالأصل المقيس عليه ليس محل اتفاق حتى يكون ملزماً .
سادساً ـ أما مسألة المصالح والمفاسد وسد الذرائع ، فيمكن علاجها من خلال الضوابط الشرعية والقيود التي تمنع ذلك ، إضافة إلى أن كونها أدلة معتبرة ليست محل اتفاق بين الفقهاء .
وبهذه المناقشة اتضح لنا أن أدلة المانعين لم تنهض حجة على دعواهم بمنع الولاية مطلقاً من المرأة ، وإنما كل ما تدل عليها أدلتهم هو منع المراة من تولي الولاية العظمى.
ويمكن أن نناقش أدلة المجيزين مطلقاً ، بأن جميع أدلتهم لا تدل على الجواز المطلق ، وإنما تدل على جواز أصل المشاركة السياسية ، وحتى لو دلت فهي تخصص بحديث : ( لن يفلح قوم…. ) حيث هو نص في منع الولاية .
بعض الردود عن بعض المقولات :
فقد أثير في منع المرأة من المشاركة السياسية بعض المقولات منها :
أولاً ـ أن المرأة إذا شاركت أدى ذلك إلى الاختلاط المحرم ، وارتكاب المحظورات .
ونجيب عنه بما يأتي :
-
أن من يجيز ذلك يقيده بالالتزام بالضوابط الشرعية فإذا لم تتوافر فحينئذ لم تجز المشاركة .
-
انه ليس هناك تلازم بين الأمرين .
-
ان هذه الحرمة لا تخص النساء فقط ، بل تشمل الرجال أيضاً فهم مأمورن أيضاً بالالتزام بأحكام الله تعالى في التعامل مع النساء .
ثانياً ـ أن المشاركة السياسية تحتاج إلى الجرأة والشجاعة فهذه قد لا توجد في النساء .
والجواب عن ذلك ، أن هذا غير صحيح ، وأن هذا أيضاً موجود لدى الرجال قديماً وحديثاً ، فكم من نساء اتسمنّ بشجاعة لم يستطع كثير من الرجال الوصول إل