إن من المتفق عليه أن المسلم ( ذكراً كان أو أنثى ) مطالب شرعاً بتطبيق أحكام شريعته في جميع شؤون الحياة ما دام ذلك ممكناً ، حتى إنه إيمانه لن يكتمل إلاّ بالاستسلام لأحكام الله تعالى ورسوله فقال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) .
وأن الإيمان بصلاحية الشريعة الإسلاية لكل زمان ومكان جزء أساسي من الإسلام ، وأن من لم يحكم بما أنزل الله تعالى عامداً جاحداً له ، وغير مؤمن به ، فإنه كافر بلا ريب ، يقول ابن جريرالطبري : ( فكل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به فهو بالله كافر ) ويقول ابن تيمية : ( لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر ) فالمؤمن ليس بالخيرة في الأحكام إلى شرع الله ، حيث يقول الله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) .
وليس كلامنا هنا عن الجاحدين الرافضين لأحكام الشريعة ، وإنما كلامنا في المؤمنين الذي يؤمنون بأحكام الشريعة ، ولكنهم يحتاجون إلى القضاء ولا يجدون أمامهم إلاّ القضاء الذي يحكم بالقوانين الغربية وهذا حال معظم المسلمين المقيمين في غير المجتمعات المسلمة الذين يصعب عليهم ( إن يكن متعذراً ) عرض قضاياهم على محاكم بلادهم الإسلامية وبالتالي فيلجؤون إلى المحاكم الغربية والأوربية ، وقد يكون السبب الاعتقاد بأن المحاكم الأوروبية تملك قوانين واضحة وصارمة دون محاباة ولا مداراة ، في حين أن المحاكم حتى المحاكم الشرعية في البلدان الإسلامية لا تتمتع بالاستقلالية الكافية ، والاجراءات الدقيقة ، واللوائح المنظمة ، إضافة إلى إمكانية التأثير في قضاتها ونحو ذلك .
ففي هذه الحالة يرد هذا السؤال : هل يجوز اللجوء إلى هذه المحاكم في البلاد الغربية ؟ وهل يكون حكمها ملزماً ؟
للجواب عن ذلك نقول ، أنه يجب على المسلمين أولاً حلّ مشاكلهم ومنازعاتهم عن طريق الصلح ، والتحكيم الشعبي ، أو التحكيم إلى مراكز التحكيم الإسلامي إن وجدت .
وأما هذه المسألة فقد اختلف فيها الفقهاء ، حيث أجاز بعض الفقهاء ـ على تفصيل ـ احتكام المسلمين المقيمين في مجتمعات غير إسلامية إلى حكام وقضاة غير مسلمين إذا كانت أحكامهم عادلة ، وقد ذكر الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة رحمهما الله ، عدة مسائل يفهم منها عدم المنع من رفع الخصومة إلى السلطان الكافر في بلاد الكفر ، والاستعانة به على تحصيل الحق ورفع الظلم سواء كان في ذلك الفرد أو الدولة ، وقد قال السرخسي في شرحه : ( فيتم إحرازه بقوة السلطان) أي السلطان الكافر الذي حكم به على المسلم في ديار الكفر ، وذكر الخرشي أنه يجوز قبول اشتراط الكفار في عقد المهادنة أن يحكموا بين السملم وغير المسلم إذا دعت لذلك ضرورة .
ويمكن أن يستدل لهذا الرأي بما يأتي :
أولاً ـ هجرة مجموعة من الصحابة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة لما اشتد عليهم أذى قريش ، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته : ( لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه ) ومحل الشاهد في أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر جمعاً من صحابته بالهجرة إلى بلاد الكفر ، وأنه شهد بأن ملكها الذي كان غير مسلم في ذلك الوقت عادل لا يظلم عند أحد ، أي أن حكمه عدل ، حيث يدل الحديث بوضوح على أنه إذا تعرض أحد صحابته إلى الظلم ورفع أمره إلى الملك ، فإنه يرفع عنه الظلم ، وقد تحقق هذا فعلاً ، حيث حاولت قريش بكل الوسائل أن يظلمهم ويخرجهم من دياره فلم يفعل ذلك بل قال لهم : ( اذهبوا فأنتم الآمنون من سبكم غرم …. ) .
ثانياً ـ ان المقصد الأسمى في التقاضي هو إقامة العدل ، وتحقيقه وإعطاء كل ذي حق حقه ، فكم من دولة كافرة نشرت العدل بين رعاياها ، وتنصف المظلوم من الظالم دون اعتبار لدين ولا لون ولا جنس ، وكم من دولة ظالمة يحكمها رجل مسلم مستبد ديكتاتور يضطهد الشعب ويقتل ويعذب حسبما يشاء ، ويقتل الرجال ، ولا يستحيى النساء أيضاً ، وفي هذا يقول ابن تيمية : ( وأمر الناس يستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الاثم ، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشسترك في اثم ، ولهذا قيل : إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة ، ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر ، ولا تدوم مع الظلم والاسلام… وذلك أن العدل نظام كل شيء ، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت ، وان لم يكن لصاحبها في الاخرة من خلاق ، ومتى لم تتم بعدل لم تعم ، وان كان صاحبها من الايمان ما يجزى به في الآخرة ) .
ثالثاً ـ رعاية المصالح ودرء المفاسد تقتضي إجازة ذلك .