طرق بديلة
لتمويل رأس مال العامل
دراسة فقهية اقتصادية للمنهج الإسلامي في التمويل وضوابطه ، مع تحليل البديل المقترح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين
وبعد
ظلت معظم البنوك الإسلامية ردحاً من الزمن ولا زالت أسير المرابحات الداخلية والخارجية نظراً لسهولتها ، والضمانات الجيدة لها من خلال تحولها بعد عملية البيع والشراء إلى دين ثابت مضمون ، والمرابحات وإن كانت مباحة شرعاً لكنها ليست قادرة على تحقيق المقاصد والأهداف التي أنشئت لها البنوك الإسلامية من التنمية والمشاركة الفعلية ، لذلك نرى منذ فترة ، والحمد لله ـ أن بعض البنوك الإسلامية وعلى رأسها دلة البركة تسعى السعي الحثيث لبدائل أخرى ، ومنتجات وآليات وأدوات ، بل تناضل من أجل هندسة مالية إسلامية تعتمد على أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية الغراء ، وتختار أفضل الوسائل المشروعة المعاصرة للنهوض بالبنوك الإسلامية ، وتطويرها ، والمساهمة الفعالة في خدمة الاقتصاد الإسلامي وإثباته أمام العالم المالي المتطور بأنه صالح لكل زمان ومكان ، بل فيه من العناصر القوية ما يستطيع أن يجعلها مساهمة إسلامية لتصحيح مسار الاقتصاد المالي ، والحدّ من غلوائه المادي ، ودفعه نحو تحقيق التكافل الاجتماعي الدولي .
والحق يقال : إن الندوات والحلقات الاقتصادية التي تقوم بها دلة البركة في كل عام تساهم مساهمة فعالة في نشأة هندسة مالية إسلامية متطورة تضاهي ـ إن لم تتفوق ـ الآليات والأدوات التقليدية في المؤسسات المالية الربوية .
وقد شرفتني اللجنة التحضيرية بأن أذكر بالتفصيل أحكام آلية متطورة من خلال طرق بديلة لتمويل رأس المال العامل .
ومنهجي في هذا البحث أن أذكر في البداية ، ثم أذكر الآلية التي قدمتها إليّ اللجنة التحضيرية ، ثم أفصّل فيها من حيث بيان الحكم الفقهي لكل فقرة تحتاج إلى ذلك ، والبدائل المتاحة مع المناقشة والتحليل .
والله أسأل أن يلبس أعمالنا كلها ثوب الإخلاص والرشاد ، ويكتب لها التوفيق والسداد ، وأن يعصمنا من الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل ، إنه حسبنا ومولانا ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .
كتبه العبد الفقير إلى ربه
علي بن محيى الدين القره داغي
أكسفورد 9 جمادى الآخرة 1425هـ
التعريف بالتمويل لغة واصطلاحاً :
التمويل لغة : مصدر : موّل ـ بتشديد الواو المفتوحة ـ أي قدّم له ما يحتاج من مال ، والممول : من ينفق على عمل ما ، وأصله من : مال مولاً ومؤولاً : كثر ماله[1] .
والتمويل في الاصطلاح :
يقصد بالتمويل لدى البنوك الربوية : إعطاء القروض بفائدة للعملاء بقصد توفير المال لمشاريع اقتصادية أو غيرها ، في حين أن التمويل في البنوك الإسلامية لا يقصد به إعطاء القروض ، لأنها بحكم التزامها بأحكام الشريعة الإسلامية لا يجوز لها منح القروض بفائدة لأن ذلك من الربا المحرم ، كما أن منح القروض الحسنة ليس من أهداف الاستثمار ، وحتى لو وجد مثل هذا الهدف فهو محصور ، ومقتصر على حالات خاصة لا تشمل تمويل المشروعات الاقتصادية .
لذلك فالتمويل في البنوك الإسلامية يقصد به إعطاء المال من خلال إحدى صيغ الاستثمار الإسلامية من مشاركة أو مضاربة ، أو نحوهما .
فالتمويل بمعناه الاصطلاحي المعروف في الاقتصاد الوضعي غير موجود في الاقتصاد الإسلامي وفي البنوك الإسلامية ـ كما سبق ـ ولكن التمويل في حقيقته أعم مما هو موجود لدى البنوك الربوية ، وذلك لأن معناه اللغوي يسع كل ما فيه تقديم المال لآخر ، ولذلك يشمل التمويل بإحدى الصيغ الاستثمارية الإسلامية بناءً على أنه قد تم دفع المال للعميل لتحقيق غرضه وتنفيذ مشروعه ، فربّ المال في المضاربة يمكن اعتباره ممولاً للمشروع المشترك ، بل إن الفقهاء تحدثوا عن المضارب الذي يصبح ربّ المال بالنسبة لآخر ، حيث تكون العلاقة ثلاثية ، ويكون المضارب الأول في حقيقته مجرد وسيط[2] ، كما أن المضاربة في الفقه المالكي ، والحنبلي يتسع لمجموعة من المشاريع الاقتصادية ليس هذا البحث مجال الخوض فيها .
كما يشــمل التمويل صيغاً أخرى مثل المســـاقاة ، والمزارعــة ، و المشاركة والمشاركة المنتهية بالتمليك ، وغيرها .
تحليل الآلية المقترحة تحليلاً فقهياً مع التأصيل لما يجوز وما لا يجوز وذكر البدائل المشروعة المتاحة .
أولاً : الأهداف المتوخاة من هذه الآلية :
( ويهدف أســلوب التمويل المباشـر على أساس المشاركة في الربح والخسارة إلى : ـ توفير آلية أكثر مرونة للبنك الإسلامي (كما هو موضح أدناه) تمكنه من تقديم كافة أنواع التمويل التي يستطيع أن ينافس بها البنوك التقليدية وبما يغطي كافة احتياجات المشروعات الصناعية والتجارية والخدمية وبما لا يخل بمبادئ الشريعة الإسلامية ، الأمر الذي يساعد على التوسع في توظيف واستثمار فوائض الأموال المتنامية غير المستغلة لدى البنوك الإسلامية وتقليل اللجوء إلى استثمار هذه الفوائض مع البنوك التقليدية .
ـ تفعيل المفهوم الحقيقي لدور البنك الرئيسي في تحقيق التنمية عن طريق إدارة وتوظيف أموال المودعين وتحقيق القيمة المضاعفة النابعة من دوره الفعلي في توفير الكفاءات والخبرات القادرة على دراسة وتقييم واختيار الاستثمار الأمثل .
ـ العمل بشكل تدريجي وعلى المدى الطويل على توجيه أسلوب التمويل المرابحات (التي هي في أصلها عبارة عن عقود شراء وبيع) إلى عمليات التمويل الاستهلاكي بشكل رئيسي من خلال شركات تجارية متخصصة يقوم البنك بتأسيسها مع ذوي الخبرة التجارية على أن يتم تمويل هذه الشركات بأسلوب التمويل مع المشاركة في الأرباح والخسائر طبقاً لما هو مذكور في اعلاه ، وبذلك يستطيع البنك أن يكون كيانات متخصصة تتمتع بهياكل تنظيمية تستطيع ان تمارس نشاطها التجاري بدون تحميل البنك عبء القيام بمهام التاجر الوسيط والتي لا يتوافر لديه الخبرات ولا المؤهلات اللازمة لأداء مثل هذه المهام بشكل كفء وفعال) .
ثانياً : أسباب هذه الآلية :
وأما أهم أسباب البحث عن هذه الآلية والالتجاء إليها فتعود في نظري إلى ما يأتي :
1 ـ تفادي المخاطر الموجودة في أسلوب المشاركة العادية حيث لا يخفى أن المشاركة بصورتها الفقهية لا تخلو من مخاطر .
2 ـ وجود مشاكل في تعامل العميل الشريك من حيث الأمانة ، ومن حيث العمل ، ومن حيث احتساب الربح ، وكيفية التصرف بالمال المشترك .
ففي القطاع الصناعي تواجه المشاركة مشكلات كبيرة تكمن في المخاطر ، وفي أن العميل يمكن أن يستخدم أموال المشاركة لتطوير مصنعه بدلاً من تشغيله ، فيشتري آلات جديدة أو نحوها ، فيؤثر ذلك في تنفيذ المشروع وتأخيره وبالتالي تأخير ظهور الربح ، إضافة إلى أن العميل قد لا يدفع مساهمته في الوقت المناسب ، ناهيك عن ضعف القيم الإسلامية في التعامل لدى البعض .
وقد ذكر الدكتور عابدين أحمد سلامة حالات عملية لواقع عمليات المشاركة في البنوك الإسلامية في السودان ، وانتهى من خلال دراسة حالات إلى أن العميل يهتم باستغلال أموال المشاركة لصالحه ، ولا يدفع مساهمته في الوقت المناسب ، كما أن العميل يخفي نسبة من أسعار البيع لصالحه ، كما أن هناك مشكلات أخرى واجهت المصنع ، وهي مشاكل ناتجة من عدم التفرغ للمصنع ، ثم قال : (ونجد من دراسة هاتين الحالتين أن معظم مشكلات القطاع الصناعي مشكلات ناتجة من عوامل خارجية ، وقصور الدراسة في التنبؤ بحجم هذه المشاركة كأن يعتمد الدراسة على الاعتماد على التصنيع المحلي للمعدات دون النظر إلى مشكلاته ، ومشكلات التضخم وآثاره في عدم التنفيذ الفوري…. ونرى في دراسة الحالة رقم 3 أن الهدف من المشروع لم يتحقق وهو تصدير السلعة المنتجة) ثم ذكر الحل من خلال تأسيس مجلس إدارة مشترك وتعيين مندوبين من البنك لمراقبة التنفيذ[3] .
ونجد في المشاركة في القطاع الزراعي مشاكل أخرى أيضاً تتمثل في مخاطر مرتبطة بالتقلبات التي تواجه القطاع الزراعي من عوامل طبيعية من آفات زراعية ونحوها.
وكذلك في قطاع النقل نرى مخاطر أخرى تتمثل في تعرض وسائل النقل إلى التلف والهلاك ، وأن التأمين قد لا يغطي المبالغ المصروفة عليها ، إضافة إلى أن الضبط الإداري والمالي في هذا القطاع أصعب من غيره .
وفي القطاع التجاري نجد مشاكل أخرى أيضاً تكمن في فشل التسويق نتيجة الركود الذي أصاب سوق السلعة ، فأدى إلى انخفاض معدل العائد ، وإلى بعض الانفلات الزمني للعملية بصورة غير حقيقة ، ومحاولات تدوير المبلغ ، والاستفادة منه لمصلحة العميل فقط دون إشراك البنك ، أو محاولة حجب النواحي المالية والإدارية عن البنك ، وإخفائها ، والانفلات الزمني للعمليات[4] .
ولكن هذه السلبيات يمكن علاجها ، أو التخفيف من وطأتها من خلال الانتقاء للمشروعات ، والعملاء والدراسات الدقيقة للجدوى الاقتصادية ، ووجود كوادر كافية للضبط الإداري والمالي والمتابعة والمراقبة ، وبالتالي فلا تقلل هذه الملاحظات من قيمة صيغ المشاركة (بجميع أنواعها من المفاوضة والعنان ، والصنائع ، والمضاربة ، والمساقاة والمزارعة….) ومن أهميتها وضرورتها للتنمية الحقيقة ، ولكنها تؤثر (في الوقت الحاضر بسبب ضعف القيم الإسلامية في نفوس البعض) في التوسع من دائرتها .
لذلك كان توجه معظم البنوك الإسلامية إلى صيغ المرابحة ، ثم أخيراً إلى التورق المصرفي ونحوهما ، حيث تجد في هذه الصيغ أكثر أمناً وضماناً ، لأن العملية تتحول بعد إجراءات بسيطة إلى دين في ذمة العميل يأخذ البنك كل الضمانات المتاحة لتحصيله ، ناهيك عن التأمين على البضاعة والوعد الملزم من العميل بالشراء …الخ .
وأمام هذه المخاطر للمشاركة من جانب ، وأهميتها ودورها من جانب آخر اتجهت بعض البنوك الإسلامية إلى عدم ترك المشاركة بصورة مطلقة ، ولكن مع وضع قيود جديدة ، وإضافة أمور تقلل من المخاطر الكبيرة وبالأخص في عصرنا الحاضر الذي فيه التنافس الشديد مع البنوك الربوية التي لا تعرف هذه الصيغ ، ولا تتعامل إلاّ بقروض مضمونة مع فوائدها .
لذلك أعتقد أن الآلية المقترحة انبثقت من هذه الخلفيات ، ومن النية الحسنة لإيجاد صيغ جديدة للبنوك الإسلامية ، أو تحوير بعض صيغ قديمة بما يتناسب مع عصرنا الحاضر ، وتحقق الأمان ، وتدرأ المخاطر بقدر الإمكان .
لذلك ندرس هذه الآلية المقترحة من هذا المنطلق بإذن الله تعالى وهي :
تتضمن آليات التطبيق ما يلي :
1 ) يكون التمويل في إحدى الصيغ الآتية :
تمويل قصير الأجل لتمويل رأس المال العامل ويكون في صورة تمويل باستحقاقات قصيرة الأجل أو تمويل تحت الطلب أو سحب على المكشوف وتكون أغراض التمويل محددة (أي لشراء بضائع أو خامات أو تمويل مقابل أوراق القبض أو أوراق مالية أو فتح اعتمادات مستندية لاستيراد خامات أو مشتريات محلية….الخ) .
1ـ تمويل متوسط أو طويل الأجل لشراء أصول ثابتة أو إعادة الهيكلة المالية للشركة .
2 ـ يكون احتساب العائد على التمويل الممنوح على أساس المشاركة في أرباح وخسائر النشاط طبقاً للمعادلة الآتية :
حيث إن :
أ ) إجـمالي الأموال المتـاحة = متوسـط رصيد الدين المســتخدم خـلال فترة الاحتساب + رصيد حقوق الملكية في نهاية فترة الاحتساب السابقة .
ب) أرباح النشاط تتمثل أساساً في : صافي الربح القابل للتوزيع قبل خصم ضرائب الدخل .
ملحوظة :