التعريف بالدية لغة واصطلاحا :
الدية – لغة –
مصدر : ودي يدي دية ، وأصلها : وديا ، فحذفت الواو ، وعوض عنها بالتاء . قال الفيروزآبادي : ” الدية بالكسر : حق القتيل ، وجمعها : ديات ، ووداه – كدعاه – : أعطي ديته ” ، وقال ابن منظور : ” نقول : وديت القتيل : إذا أعطيت وديته ، واتديت ، أي أخذت ديته ، وإذا أمرت منه قلت أد فلانا ، وللاثنين ، أديا ، وللجمع : أدوا ” . وقال أحمد المقري الفيومي : ” ودي القاتل القتيل يديه دية : إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل النفس ، سمي ذلك المال دية تسمية بالمصدر ..” هذا وقد ورد لفظ ” دية ” في القرآن مرتين.
الدية اصطلاحا ، وشمولها للنفس وما دونها :
و” الدية ” وإن كانت تطلق في اللغة على بدل النفس فقط ، لكنها شاع استعمالها عند أكثر الفقهاء في بدل النفس ، وما دونها أيضا ، وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر ، فذكر أن الدية هي ما جعل في مقابلة النفس ، ولكن البخاري وغيره أوردوا تحت باب الديات ما يتعلق بالقصاص ، بناءا على أن كل ما يجب فيه القصاص فيجوز العفو عنه على مال فتكون الدية أشمل . وهذا ما ذهب إليه الجمهور من المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، والظاهرية ، في حين ذهب الحنفية إلى أن الدية إنما تطلق على سبيل الحقيقة على ما يقابل النفس ، وأن ما يقابل ما دونها سموه بالأرش ، حيث قال الحصكفي الحنفي : ” الدية في الشرع اسم للمال الذي هو بدل النفس .. والأرش : اسم للواجب فيما دون النفس “[1] في حين صرح غيرهم بالتعميم فقال ابن حجر الهيثمي : ” الدية شرعا : مال وجب على حر بجناية في نفس ، أو غيرها “[2] .ويقول ابن قدامة : ” من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية ، وما فيه شيئان ففي كل واحد منهما نصف الدية “[3] ،ويقول ابن مفلح : ” الدية وهي – في الأصل – مصدر يسمى به المال المؤدى إلى المجني عليه ، أو أوليائه كالخلق بمعنى المخلوق … كل من أتلف إنسانا ، أو جزءا منه بمباشرة ، أو سبب ، فعليه ديته “[4] ، وقد رجح القليوبي الشافعي أن ” الحكومة ” أو ” الأرش ” تسمى دية[5].
هذا ، وإن جماعة من الفقهاء قالوا : الدية في الحر ، والقيمة في العبد ، ونحوه ، بناء على أن الدية ثابتة محددة في النفس حيث هي مائة ابل ، أو ألف دينار على خلاف فيه وكذلك في الأعضاء حيث حدد لكل عضو ديته ، وأما العبد فإذا أتلف فالواجب فيه القيمة مهما بلغت ، وكذلك بقية الأموال ، في حين لم يوافق على ذلك في العبد آخرون[6].
والذي يظهر رجحانه هو إطلاق لفظ ” الدية ” على ما يقابل النفس وما دونها وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق الدية على المال الذي يدفع في مقابل الجناية على الأعضاء في أكثر من حديث ورواية ، منها قوله : ” دية أصابع اليدين ، والرجلين سواء ، عشرة من الإبل لكل أصبع ” قال الترمذي : ” حديث حسن صحيح .. “[7] وغيره حتى ترجم البخاري باب دية الأصابع[8]. ثم أن استعمال القرآن الكريم للدية بمعنى دية النفس لا يعني حصرها في بدل النفس ، بل هو استعمال لها في بعض أفرادها.
فعلى ضوء ذلك التعريف المختار للدية هو : أنها : المال الواجب بالجناية على الإنسان في نفسه ، أو ما دونها من الأعضاء.
وقولنا : ” المال الواجب ” جنس يشمل الأموال الواجبة بالجناية ، أو بعقد أو بغيرهما ، وقولنا :” بالجناية على الإنسان .. ” خرج به المال الواجب بعقد ، أو بإتلاف شيء آخر عدا النفس وما دونها ، ثم إن هذا التعريف يشمل كل مال واجب بالجناية على النفس وما دونها سواء كان يجب مباشرة- كما في القتل الخطأ ونحوه- أو يجب بدلا عن القصاص فيما إذا كان الموجب القصاص ، ثم يسقط لأي سبب كان ، فيثبت بدله الدية . على خلاف وتفصيل في مدى اعتبارها بدلا أم لا ؟ لا تسمح طبيعة البحث بالخوض فيهما[9].
ومن الجدير بالتنويه به هو أن ” الدية ” في الواقع هي بدل المتلف الذي يدخل في باب ضمان المتلفات ، ولكنها مع ذلك خصصها الشرع ببدل الإنسان : نفسه ، أو أعضائه ، أو قواه ، تنبيها على كرامة الإنسان ، وتخصيصا لما يتعلق بها بمصطلحات خاصة.
التعريف بالغارمين لغة واصطلاحا:
الغارمين جمع غارم ، وهو اسم فاعل من : غرم يغرم غرما ، مغرما ، وغرامة ، ويدور أصل معناه حول : الثقل، والهلاك، والشر الدائم، والعذاب اللازم، والحاجة الملازمة، والولوع، والخسارة، وأسر الحب أو الدين، ويطلق كذلك على الدية ، و نحو ذلك[10] . ويتعدى بنفسه فيقال : غرمت الدية ، أو الدين أي أديته غرما ومغرما وغرامة ، وبالتضعيف والهمزة ، فيقال : غرمته ، وأغرمته ، أي جعلته غارما ، وغرم في تجارته أي خسر فيها ، وأغرم بالشيء – بالبناء للمجهول – أي أولع به ، والغريم يطلق على المدين لما ذكر ، وعلى الدائن لأنه يلازم المدين ، قال الفيومي : ” وهو الخصم ، مأخوذ من ذلك لأنه يصير بالحاجة على خصمه ملازما[11] ، قال ابن منظور : ” والغرامة : ما يلزم أداؤه ، وكذلك المغرم .. والغرام قال ابن الأثير : هو جمع كالغرماء ، وقال ابن سيدة هو جمع : مغرم ، على طرح الزائد .. والغرام : الولوع بالشيء ..[12] كما جاء ” المغرم ” بمعنى التزام ما لم يلزم .
ورود ” الغرم ” ومعانيه في القرآن الكريم :
تكرر لفظ : الغرم ” ومشتقاته في القرآن الكريم ست مرات ، وهي بلفظ ” الغارمين ” في قوله ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين ..)[13] والمراد بالغارمين هنا : المدينون – وسيأتي تفصيله – وبلفظ ” غراما في قوله تعالى : (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما)[14] قال الزجاج : ” هو أشد العذاب ، وغراما : أي ملحا دائما ملازما ، وقال أبو عبيدة : أي هلاكا ولزاما لهم “[15] . قال الماوردي : ” فيه أربعة أوجه : أحدها: لازما قاله ابن عيسى ” ، ومنه الغريم لملازمته .. الثاني : شديدا ، قاله ابن شجرة ، ومنه سميت شدة المحنة غراما .. الثالث ثقلا ، قاله قطرب .. الرابع : أنهم أغرموا بالنعيم في الدنيا عذاب النار ، قال محمد بن كعب : إن الله سأل الكفار عن ثمن النعيم فلم يأتوا به ، فأغرمهم ، فأدخلهم جهنم “[16].
وبلفظ ” مغرم ” في قوله تعل ” أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون “[17] أي دين ، وتكاليف ، أي قد أثقلتهم التكاليف ، فكأنهم مدينون بشكل قضت ديونهم على كل ما لديهم من أعيان[18]. وهذه الآية نفسها تكررت في سورة القلم الآية 46 ، كما تكرر لفظ ” مغرما ” في سورة التوبة ، وهو قوله تعالى : ” ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر .. ” قال الرازي ” والمغرم مصدر كالغرامة ، والمعنى : أن من الأعراب من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرمة وخسران ، وإنما يعتقد ذلك ، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله .. “[19] وقال الماوردي : ” فيه وجهان : أحدهما ما يدفع من الصدقات ، والثاني : ما ينفق في الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم : مغرما ، المغرم التزام ما لا يلزم .. ” [20]، وورد بالجمع في قوله تعالى ( إنا لمغرمون ، بل نحن محرومون )[21] .
ال الماوردي : ” فيه ثلاثة أوجه : أحدهما : لمعذبون ، قاله قتادة .. الثاني : مولع بنا ، قاله عكرمة .. الثالث : محرومون من الحظ ، قاله مجاهد .. “[22].
ورود ” غرم ومعانيه في السنة :
تكرر لفظ ” غرم ” ومشتقاته كثيرا في السنة ، ولا تخرج معانيه عن معانيه في اللغة ، منها ما رواه البخاري في قضاء رسول الله بغرة على من قتل جنين امرأة ، فقال الرجل : كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ..[23] أي كيف أدفع غرامته ؟ وكذلك في حديث ابن عباس عند أحمد : ” يغرمون الدية بجيفته “[24] أي يدفعون الدية بدل أخذ جيفته ، فسمح لهم النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذلك ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : ” الزعيم غارم “[25] قال في النهاية : ” الغارم الذي يلتزم ما ضمنه ، وتكفل به ، ويؤديه ،والغرم أداء شيء لازم .. “[26] ومنها قوله صلى الله عليه وسلم ” ” اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم “[27] أي من الدين ، أو من كل ما يؤدي إلى غرامة .
ومنها ما روي عنه صلى الله عليه وسلم : ” إذا كان المغنم دولا ، والأمانة مغنما ، والزكاة مغرما .. “[28] أي يشق عليهم أداؤها بحيث يعدون إخراجها غرامة ، وليس عبادة[29] . وغير ذلك.
أقوال المفسرين في : ” والغارمين ” :
قال الجصاص الحنفي : ” لم يختلفوا أنهم المدينون ، وفي هذا دليل على أنه إذا لم يملك فضلا عن دينه مائتي درهم فإنه فقير تحل له الصدقة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها إلى فقرائكم ” فحصل لنا بمجموع الآية والخبر أن الغارم فقير ، إذ كانت الصدقة لا تعطى إلا للفقراء .. والآية خاصة في بعض الغارمين دون بعض ، وذلك ، لأنه لو كان له ألف درهم وعليه دين مائة درهم لم تحل له الزكاة . فثبت أن المراد الغريم الذي لا يفضل له عما في يده بعد قضاء دينه مقدار مائتي درهم ، أو ما يساويها ، فيجعل المقدار المستحق بالدين مما في يده كأنه في غير ملكه ، وما فضل عنه فهو فيه بمنزلة من لا دين عليه ، وفي جعله الصدقة للغارمين دليل أيضا على أن الغارم إذا كان قويا مكتسبا فإن الصدقة تحل له ، إذ لم تفرق بين القادر على الكسب والعاجز عنه “[30].
فعلى ضوء ذلك فالمعيار عنده في دفع الصدقات إلى الغارمين هو الفقر ، وهو في نظرته هذه ينطلق من المذهب الحنفي الذي جعل الفقر هو الأساس حتى بالنسبة للمجاهدين[31].
وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال ( في الغارمين ) : ناس عليهم دين من غير فساد ولا إتلاف ، ولا تبذير فجعل الله لهم فيها سهما ، وإذا ذكر هؤلاء في الدين ، أنه من غير سرف ، ولا إفساد ، لأنه إذا كان مبذرا مفسدا لم يؤمن إذا قضى دينه أن يستدين مثله فيصرفه في الفساد ، فكرهوا قضاء دين مثله لئلا يجعله ذريعة إلى السرف والفساد ، وروي كذلك عن مجاهد أنه قال : الغارم من ذهب السيل بماله ، أو أصابه حريق فأذهب ماله ، أو رجل له عيال لا يجد ما ينفق عليهم فيستدين[32].
وقد رد الجصاص على هذا الرأي بقوله : ” أما من ذهب ماله وليس عليه دين فلا يسمى غريما ، لأن الغرم هو اللزوم والمطالبة ، فمن لزمه الدين يسمى غريما ، ومن له الدين أيضا يسمى غريما ، لأن له اللزوم والمطالبة ، فأما من ذهب ماله فليس بغريم ، وإنما يسمى فقيرا أو مسكينا “[33].
وقال ابن العربي المالكي : ” وهم الذين ركبهم الدين ، ولا وفاء عندهم به ، ولا خلاف فيه اللهم إلا من أدان في سفاهة ، فإنه لا يعطي منها .. “[34].
وفسره الإمام الشافعي بقوله : ” والغارمون : صنفان ، صنف دانوا في مصلحتهم ، أو معروف وغير معصية ، ثم عجزوا عن أداء ذلك في العرض والنقد ، فيعطون في غرمهم لعجزهم . وصنف دانوا في حمالات ، وصلاح ذات بين ، ومعروف ، ولهم عروض تحمل حمالاتهم ، أو عامتها ، وإن بيعت أضر ذلك بهم وإن لم يفتقروا ، فيعطي هؤلاء حتى يقضوا غرمهم “[35].
وأوضح ذلك الماوردي في تفسيره فقال : ” وهم الذين عليهم الدين يلزمهم غرمه، فإن أدانوا في مصالح أنفسهم لم يعطوا إلا مع الفقر ، وإن أدانوا في المصالح العامة أعطوا مع الغني والفقر[36] ،مثله عند الرازي[37].
هذا وقد أسهب الطبري في ذلك فلا مانع من أن ننقل منه ما يوضح لنا المقصود حيث قال : ” وأما الغارمون فالذين استدانوا في غير معصية الله ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عر ض ، وبالذي قلنا قال أهل التأويل ” ثم روى بسنده إلى مجاهد قال : ” الغارمون من احترق بيته ، أو يصيبه السيل فيذهب متاعه ويدان على عياله فهذا من الغارمين ” ثم روى عن أبي جعفر أنه قال في تفسير الغارمين المستدين في غير سرف ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال ، وروى عن الزهري : أنهم أصحاب الدين ، وعن قتادة : أنهم قوم غرقتهم الديون في غير إملاق ، ولا تبذير ، ولا فساد ، وعن ابن زيد ، الغارم الذي يدخل عليه الغرم “[38].
وقال النيسابوري : ” الصنف السادس : الغارمون ، قال الزجاج : اصل الغرم لزوم ما يستحق ، وسمي العشق غراما لكونه أمرا شاقا لازما .، فالغارمون المدينون ، والدين إن حصل بسبب معصية لم يدخل في الآية ، لأن المعصية لا تستوجب الإعانة ، وإن حصل لا بالمعصية فهو مقصود الآية ، سواء حصل بسبب نفقات ضرورية ، أو لإصلاح ذات البين وإن كان متمولا ، أو للضمان إن أعسر هو والأصيل ، وكل داخل في الآية .. “[39].
ومثل هذا ذكره القرطبي[40] ، وغيره من المفسرين[41].
بيان السنة للغارمين :
ولما كانت السنة النبوية المطهرة بيانا للقرآن الكريم ينبغي أن نستقصي بقدر الإمكان الأحاديث الواردة بهذا الخصوص ، وتطبيقات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا المضمار ، حتى تكون أحكامنا على بصيرة من الأمر .
فقد وردت أحاديث صحيحة وحسنة أكدت على أن الصدقة لا تحل إلا لعدة أصناف منها “الغارم” كما أنها لا تحل لغني ، ولا لقوي مكتسب[42]، كما روى مسلم ، وأبو داود ، وابن خزيمة ، وابن حبان بسندهم عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حمالة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها ، فقال : ” أقم حتى تأتينا الصدقة . فنأمر لك بها ” قال : ثم قال : ” إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ، ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوما من عيش ” فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا “[43].
والمراد بالحمالة – كما قال السندي وغيره هو ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة – أي يتكفل مالا ويلتزم به في ذمته بالاستدانة ليدفعه في إصلاح ذات البين[44] وقال الصنعاني في تفسير الحمالة : ” وذلك أن يتحمل الإنسان عن غيره دينا ، أو دية أو يصالح بمال بين طائفتين ، فإنها تحل له المسألة ، وظاهره وإن كان غنيا فإنه لا يلزمه تسليمه من ماله ، وهذا هو أحد الخمسة الذين يحل لهم أخذ الصدقة وإن كانوا أغنياء “[45].
إذا كان حديث قبيصة الصحيح قد فسر الغارمين الذين يجوز إعطاء الزكاة إليهم بمن تحملوا حمالات ، فإن حديثا آخر صحيحا أيضا فسرهم بمن كثرت ديونه بحيث استغرقت جميع أمواله وزيادة ، حيث روى مسلم في صحيحه والترمذي ، وابن ماجة بسندهم عن أبي سعيد الخدري قال : ” أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” تصدقوا عليه ” فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ..”[46].
فهذان الحديثان يفسران بمجموعهما الغارمين الذين يدفع إليهم الزكاة ، ولكنهما يدلان كذلك على أنهم ليسوا مجرد مدينين ، وإنما مدينون إما نتيجة تحمل حمالة ، أو مصيبة ، أو جائحة ، ويمكن أن يلحق بهما دين مادام مفزعا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إن المسألة لا تحل لغني ، ولا لذي مرة سوى إلا لذي فقر مدقع ، أو غرم مفظع .. ” قال المباركفوريي “المفظع .. هو الشديد الشنيع الذي جاوز الحد .. قال الطيبي : .. ويمكن أن يكون المراد به ما لزمه من الغرامة بنحو دية وكفارة “[47].
وبالإضافة إلى ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أطلق لفظ ” غارم ” على الكفيل والضامن فقال : ” الزعيم الغارم[48] كما ورد في الحديث إطلاقه على الغرامة مطلقا ، وعلى غرامة الدية – كما سبق .
وهذا البيان الواضح من السنة دفعنا إلى إثارة السؤال التالي :
ما الحكمة في استعمال ” الغارين ” دون ” المدينين ، أو المستقرضين ” ؟
ما الحكمة في استعمال ” الغارمين ” دون المدينين ؟
إذا ألقينا نظرة على أساليب القرآن لوجدنا أن هناك حكمة في استعمال كلمة مكان أخرى ، فلا يستعمل كلمة مكان أخرى إلا لحكمة . ومن هنا فاستعمال كلمة ” الغارمين ” مكان ” المدينين ” هي في نظري تعود إلى معنى ” الغارمين ” لا نجدها في ” المدينين ” وذلك لأن أصل اشتقاق ” غرم ” يعني الثقل ، والشر الدائم ، والعذاب اللازم ، أو التزام ما لم يلزم على عكس الدين الذي ينبئ عن الخضوع ، ثم شاع استعماله لغة فيما له ، كما أنه عام في إطلاق الفقهاء في كل ما يجب في ذمة الإنسان من الالتزامات بأي سبب كان ، حيث يشمل حقوق الله تعالى ، وحقوق العباد ، وأطلقوه على ما يثبت في ذمة الإنسان بسبب عقد ، أو استهلاك أو استقراض ، أو تحمل التزام أو نحو ذلك[49].
فعلى ضوء ذلك فاختيار ” الغارمين ” دون لفظ ” المدينين ” الدال على العموم والشمول ، دون لفظ ” المستقرضين ” الدال على خصوصية القرض إنما يدل والله أعلم على أن الغرم هنا ليس مطلق الدين ،وإنما هو دين خاص يأتي نتيجة التزام ما يلزم – كما في قضايا إصلاح ذات البين ، وقضايا تحمل الكفالات – أو نتيجة غرامة توقع عليه لأي سبب من الأسباب سواء كان بسبب فعل خطأ ، أو شبه خطأ أو نحو ذلك ، أو نتيجة ديون مفزعة بسبب جائحة أهلكت زرعه وماله ، كان قد استدان ليؤدي ديونه من غلته ، أو ثمرته . والخلاصة أن لفظ “الغارمين” لا يشمل جميع المدينين بالإجماع كما قال المفسرين ، فلا يدخل فيهم الأغنياء الذين استدانوا لمصالح أنفسهم ولهم أموال كثيرة تفيض عليها دون أن تؤثر في غناهم .
ومن هنا أفدنا من ” الغارمين ” فائدتين : أولاهما : كون المدين مفزعا كما عبرت عنه الأحاديث وحينئذ عدم شموله ،لكل دين . والثانية : ملاحظة كون ذلك غرامة والتزاما لما لم يلزم صاحبه أصلا ، وإنما التزم به لإصلاح ذات البين ، أو تحمل عن آخر لسبب مشروع ، أو كونه من الفظاعة والقوة بحيث لا يقدر على حمله وحده / وإنما يحتاج إلى معونة وسداد من قبل أخوانه.
الحكمة في ورود ” والرقاب ” بعد ” في ” دون اللام :
إذا عمقنا النظر في أسلوب القرآن الكريم في توزيع الصدقات على مصارفها الثمانية لوجدناه قسم هذه المصارف إلى قسمين : قسم أدخل عليه لام الجر الدال على التمليك أو الاختصاص ، وقسم أدخل عليه ” في ” الدال على الطرفين ، حيث يقول : ” إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم “[50]. فقد رأينا أن الأصناف الأربعة الأول وردت بعد اللام والأربعة الأخيرة بعد ” في ” ، ولاشك أنه من المستبعد جدا من أسلوب القرآن أن يكون هذا التغير في حرفي الجر بدون حكمة وفائدة .
وقد تصدى بعض المفسرين لبيان هذه الحكمة منهم الزمخشري ، والرازي ، والنيسابوري وغيرهم ، يقول الزمخشري : ” لم عدل عن اللام إلى ” في ” من الأربعة الأخيرة ؟ قلت : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن ” في ” للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ، ويجعلوا مظنة لها ، ومصبا ، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة ، أو الرق أو الأسر ، وفي الغارمين من الغرم : من التخليص والإنقاذ .. “[51].
وأضاف العلامة أحمد بن المنير نكتة أخرى وصفها بأنها أدق وأعمق حيث قال ” .. وثم سر آخر هو أظهر وأقرب ، وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم ، وإنما يأخذونه ملكا ، فكان دخول اللام لائقا بهم ، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم ، بل ولا يصرف إليهم ، ولكن في مصالح تتعلق بهم ، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون – بكسر التاء – والبائعون ، فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم ، وإنما هم محال لهذا الصرف ، والمصلحة المتعلقة به ، وكذلك الغارمون ..”[52] حيث يصرف لدائنيهم ، ولا يصرف لهم ، والحاصل أن الأصناف الأربعة الأولى يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كيفما شاؤا ، وأما الأربعة الأخيرة فلا يصرف إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة من الصفات التي لأجلها استحقوا الزكاة . ويقول ابن قدامة : ” وأربعة أصناف يأخذون أخذا مستقرا ولا يراعي حالهم بعد الدفع ، وهم الفقراء .. وأربعة منهم وهم الغارمون وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل فإنهم يأخذون أخذا مراعى ، فإن صرفوه في الجهة التي استحقوا الأخذ لأجلها ، وإلا استرجع منهم ، والفرق بين هذه الأصناف ، والتي قبلها : أن هؤلاء أخذوا لمعنى لم يحصل بأخذهم للزكاة ، والأولون حصل المقصود وهو غنى الفقراء والمساكين .. وإن قضى هؤلاء أي الغارمون ، ومن معهم حاجتهم بها وفضل معهم فضل ردوا الفضل إلا الغازي .. “[53].
وقد أشار الإمام الطبري إلى ذلك حيث قسم المصارف إلى قسمين ، أحدهما : سد خلة المسلمين ، وثانيهما : معونة الإسلام ، وتقويته[54]، وتبعه في ذلك صاحب المنار فقسمها إلى قسمين أيضا هما : الأشخاص والمصالح ، فالصنف الأول يملكونها تمليكا بالوصف المقتضي للتمليك ، ولذلك عبر عنه بلام الملك ، والثاني : مصالح عامة اجتماعية ودولية لا يقصد بها أشخاص يملكونها ، ولذلك عبر عنه بـ ” في ” ، فأداء ديون هؤلاء الذين تحملوا الضمان والغرامة والديات عن الناس تحقيق لمصلحة تتعلق بإصلاح ذات البين[55].
وإلى قريب من هذا أشار شيخ الإسلام ابن تيمية[56].
الغارمون في عرف الفقهاء :
يذكر الفقهاء أحكام ” الغارمين ” عند كلامهم عن مصارف الزكاة ، وعند ذكرهم أحكام الدين من حيث الإفلاس ، ونحوه ولكن المتتبع لأساليبهم يلاحظ أنهم يكثرون إطلاق ” الغارمين ” في باب الزكاة ، ولفظي الدائن والمدين في باب الإستقراض .
وقد اتفق الفقهاء جميعا على أن المراد بالغارمين الذين تدفع لهم الزكاة : المدينون[57] ، ولكنهم اختلفوا في بعض التفصيلات ، ولذلك نسرد آراءهم من خلال مصادرهم المعتمدة لنعرف المتفق عليه ، والمختلف فيه .
قال الكاساني : ” قيل : الغارم الذي عليه الدين أكثر من المال الذي في يده ، أو مثله أو اقل منه لكن وراءه ليس بنصاب[58] ” هكذا عرفه لكنه أشار إلى ضعف هذا التعريف بقوله : ” قيل : .. ” فالغارم الذي يجوز دفع الزكاة إليه هو المدين الذي لا يملك نصابا فاضلا عن دينه ، فعلى هذا فهو فقير ، لأن الفقير عندهم هو من لا يملك نصابا ، لكن الدفع إليه أولى من الدفع إلى الفقير غير المدين ، وذلك لأن القاعدة العامة عند الحنفية هي أن الفقر شرط أساسي في جميع الأصناف إلا العامل ، لأنه يأخذها في مقابل عمله ، وإلا ابن السبيل حيث لا يعتد بغناه في وطنه[59].
وأدخل بعض الحنفية في الغارمين : من له دين على الناس لا يقدر على أخذه ، وليس عنده نصاب ، ورد عليهم ابن عابدين بأن الغارم وإن كان لغة يطلق على من له دين لكن المراد به هنا هو المدين فقط وأما الذي ذكره فهو فقير ويدخل في سهم الفقراء[60].
وقال الدردير : ” ومصرفها .. مدين ، يعطي منها ما يوفي به دينه إن كان حرا مسلما غير هاشمي “[61] وقد اشترط المالكية أن يكون المدين مما يحبس فيه إذا لم يؤده ، ولذلك لا يعطي لمدين بدين الكفارات ، والزكاة ، وكذلك لابد أن لا يكون الدين قد أنفقه في فساد كشرب الخمر ، ونحوهما ، وكذلك لا يعطي لمدين استدان حتى يأخذ الصدقة ، كأن يكون عنده ما يكفيه لكنه توسع في الإنفاق بالدين لأجل أنه يأخذ منها ، فلا يعطي ، لأنه قصد مذموم للقاعدة القائلة ” من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحر مائه ” إلا إذا تاب في الحالتين فإنه يعطي على أحسن القولين عندهم ، ثم إن المدين إنما يعطي له عندهم إذا أعطى في دينه ما بيده من عين ، وفضلت عليه بقية ، ومن فضل غيرها -أي غير العين- كمن له دار تساوي مائة دينار ، وعليه مائة ، وتكفيه دار بخمسين فلا تعطي حتى تباع ، ويدفع الزائد في دينه ، فلو كان الفاضل يفي