شاءت حكمة الله تعالى أن يتم حل المشاكل والقضايا على مر الأعصار والأمصار على ضوء منهج قويم يجمع بين جعل الوحي هو الأصل واعتماد العقل ، وإعطاء دوره الكبير في الفهم والاستنباط والاجتهاد في النصوص الظنية ، وإيجاد الحلول الإسلامية للقضايا التي لم يرد ذكر حكمها في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة على ضوء المبادئ العامة والقواعد الكلية ، ومقاصد الشريعة ، كما أنه من حكمته أن جعل معظم نصوص القرآن محكمات هنّ من أم الكتاب ترجع إليها المتشابهات ، فقال تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأُخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله …)[1] .
ثم إن منهج الإسلام في علاج القضايا والحوادث والمشاكل الفردية والجماعية يتم من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة ، ثم من خلال ترك منطقة لم ينزل فيها نص كريم تسمى منطقة العفو ، بل ترك أمرها للاجتهاد من خلال المبادئ العامة والقواعد الكلية وضوابط الاستنباط ، ونحن نتحدث هنا بإيجاز عن هذين الأمرين ، النصوص ، ومنطقة العفو .
أولاً : النصوص :
شاءت حكمة العلي القدير أن تكون نصوص القرآن الكريم والسنة المشرفة على قسمين :
1 ـ نصوص قطعية الدلالة بحيث لا تحتمل إلاّ معنى واحداً ، وقطعية الثبوت والوصول بحيث وصلت إلينا عن طريق التواتر كما هو الحال في القرآن الكريم كله ، والسنة النبوية المتواترة ( القولية أو الفعلية ، حيث نجد التواتر في القسم الفعلي أكثر من القولي ) .
فهذه النصوص هي التي تشكل الثوابت المحكمات القواطع ، والأسس والمبادئ العامة وكليات الشريعة ، والقواعد الكلية ، ومقاصدها العامة ، والأحكام العامة الكلية التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال ، ولا يجوز أن تختلف فيها الرؤى والاجتهادات ، ولا أن تتنوع فيها الآراء والجماعات ، وذلك لأن مدارك هذه الأحكام قطعية ثبوتاً ودلالة فلا مجال فيها للاجتهاد ، وهذا هو المقصود بقول الأصوليين ( لا اجتهاد مع النص ) أي النص القطعي ، أو قصد مخالفة نصّ شرعي وإن لم يكن قطعياً.
ويدخل في هذه الثوابت النصوص القواطع ، والكليات العامة والمبادئ العامة ، مبادئ العدل والإحسان والرحمة ، وكرامة الإنسان ، ومبدأ الحرية ، وتحريم القتل بدون حق ، وأكل أموال الناس بالباطل ، والاعتداء على الأعراض ونحْوها ، حتى إن القوانين البشرية تتفق فيها مع الشريعة الغراء حتى أسماها القدماء : القانون السماوي أو القانون الطبيعي ، أو القانون الخالد ، وكتب فيها القدماء مثل أرسطوطاليس ، وشيشرون وغايوس وغيرهم ، وكتب بعدهم من علماء الغرب من الفرنسيين والانكليز والألمان الذين سموها : قوانين القوانين ، و( أنها نافذة في جميع البلاد وعند جميع الشعوب وفي جميع الأعصار ) [2].
وهي في حقيقتها بقايا الشرائع السماوية والفطر السليمة التي استقرت في نفوس الشعوب ، وقد عبر الإمام الشاطبي : عن وصف هذه الثوابت بقوله : (إنها كلية أبدية ، وضعت عليها الدنيا ، وبها قامت مصالحها في الخلق حسبما بين ذلك الاستقراء ، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضاً ، فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها )[3] .
2 ـ نصوص لم يتوافر فيه الشرطان السابقان (أي قطعية الثبوت وقطعية الدلالة)وهي تشمل ثلاثة أنواع وهي:
أ ـ نصوص ظنية الدلالة (أي تحتمل أكثر من معنى) وظنية الثبوت (أي وصلتنا عن طريق غير المتواتر) مثل الحديث الذي وصلنا عن طريق ظنيّ [4]، وكانت دلالته أيضاً ظنية أي تحتمل أكثر من معنى مثل حديث النهي عن صفقتين في صفقة واحدة [5].
ب ـ نصوص قطعية الثبوت ، وظنية الدلالة مثل النصوص القرآنية التي تحتمل أكثر من معنى مثل قوله تعالى : ( …وامسحوا برؤسكم )[6] أي جميع رؤسكم ، أو بعض رؤسكم ، أو جزء بسيط منها على اختلاف الفقهاء في تفسيره[7] .
ج ـ نصوص قطعية الدلالة ظنية الثبوت مثل الأحاديث التي وصلتنا عن طريق ظني ولكن دلالتها قطعية مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الصلح جائز بين المسلمين )[8] فدلالة الحديث على مشروعية الصلح قطعية ، ولكن الحديث ظني الثبوت حيث لم يصلنا عن طريق التواتر .
فهذه النصوص عي التي تجري فيها اجتهادات الفقهاء والعلماء في مختلف قضايا الحياة ، وهي تمثل غالبية النصوص حيث هي أكثر مساحة وأوسع دائرة ، وأكبر حجماً من النوع الأول ، وبالتالي فمجال الاجتهادات ، وبالتالي فالاختلافات الفرعية كبير جداً لا يخيفنا بل تنفع الأمة وتزيدها ثراءً وفقهاً وعلماً وخصوبة ما دامت هذه الاجتهادات لا تتعارض مع النصوص القطعية ( القسم الأول ) وما دامت تجري على الضوابط والشروط الخاصة بكيفية الاجتهاد .
وهنا ملحوظات :
الأولى : أن أي حكم مأخوذ من الأدلة الظنية لكن أجمعت عليه الأمة ( الإجماع الصحيح الأصولي ) فقد أصبح حكماً قطعياً من الثوابت نقله الإجماع من دائرة القسم الثاني إلى نطاق القسم الأول مثل الإجماع على أن الجدة لها السدس [9]. ولكن الإجماع القائم على العرف ، أو المصالح ليس من الثوابت من حيث المبدأ بل يمكن تغييره باجتهادات معتبرة تضاهيه ، أو تتفوق عليه .
الثانية : أن بعض الأحكام تتوارد عليها مجموعة من الأدلة الظنية ، وتلقتها الأمة الإسلامية بالقبول فهذه الأحكام أيضاً بمثابة المجمع عليها التي لا يجوز مخالفتها،فهذه الأدلة في مفرداتها ظنية ،ولكن في مجموعها وتعاضدها بعضها لبعض وتلقي الأمة لها بالقبول تصبح قطعية،أو بمثابة القطعية،فلا يجوز مخالفتها.
الثالثة : أن بعض المبادئ العامة والقواعد الكلية ومقاصد الشريعة تؤخذ وتستفاد من مجموعه من الأدلة الظنية ،ولكن تلك المبادئ والقواعد تصبح قطعية وتمثل ثوابت لا يجوز تجاوزها مثل مبدأ عدم الضرر والإضرار .
الرابعة : أن فهم النصوص إنما يتحقق بصورة كاملة إذا نظر إلى جميع الآيات والأحاديث الواردة في موضوع معين نظرة شمولية واحدة ، وذلك لأن معظم الاختلافات إنما تأتي بسبب النظرة الجزئية القاصرة ،فمثلاً فمن نظر فقط إلى قوله تعالى : ( وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين )[10] قال بالجبر كما هو الحال عند الجبرية ، ومن نظر فقط إلى قوله تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )[11] ذهب إلى إعطاء المشيئة المطلقة والاختيار إلى العبد كما هو مذهب المعتزلة ، ولكن الحق والصواب في النظر إلى المجموعتين من الأدلة دون إغفال إحداهما ، فالإنسان له مشيئة وإرادة واختيار يكون بها مكلفاً ومسؤولاً ومحاسباً أو مثاباً على أفعاله ، ومع ذلك فإن مشيئته خاضعة لمشيئة الله وقدرته المطلقة ، فالله خالق كل شيء في هذا الكون بما فيه أفعال العباد ، ولكن هذا الخلق إما مباشرة ، أو عن طريق وسائل وأدوات هو خالقها ، كما أن الله تعالى خلق سنناً جرت حكمته تعالى أن تجري الأمور كلها عليها حسب مشيئته وإرادته العلية ، يقول فضيلة الشيخ القرضاوي : ( لقد علق أحد علماء السلف على النزاع بين الطوائف المختلفة في قضية القدر ، أو ما يسمى : أفعال العباد : هؤلاء ( أي دعاة الجبر ) عظموا الله تعالى …فلم يروا فاعلاً إلاّ الله تعالى أي نظروا إلى جانب العظمة والقدرة والآيات التي تتحدث عنه ، وأولئك ( أي القدرية ) نزهوا الله أن يكلف عباده دون أن تكون لهم القدرة والإرادة ، ثم يحاسبهم أو يثيبهم على فعل لم ينسب إليهم ، فالمحققون الموقعون هم الذين هداهم الله إلى المنهج الأقوم فجمعوا بين تعظيم الله تعالى وتنزيهه جميعاً )[12] .
ويقول ابن القيم : ( فأدلة الجبرية متضافرة صحيحة على من نفى قدرة الرب سبحانه على كل شيء من الأعيان والأفعال ، ونفى عموم مشيئته وخلقه لكل موجود … وأدلة القدرية متضافرة صحيحة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره )[13] .
وأهل الحق هم الذين يجمعون الحق الموجود مع كل طائفة فهم يوافقونهم في حقهم ويبرؤن عن باطلهم فمذهبهم كما قال ابن القيم : ( جمع حق الطوائف بعضه إلى بعض والقول به ونصرة وموالاة أهل الحق من ذلك الوجه ، ونفي باطل كل طائفة من الطوائف ، لا يتحيزون إلى فئة منهم على الإطلاق ، ولا يردون حق طائفة من الطوائف ، ولا يقابلون بدعة ببدعة ولا يردون باطلاً بباطل ، ولا يحملهم شنآن قوم ……على ألاّ يعدلوا فيهم ، بل يقولون فيهم الحق ، ويحكمون في مقالاتهم بالعدل …..)[14] .
ويقول الشاطبي : ( فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تأخذ الشريعة كالصورة الواحدة ، تحتسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها ، وعامها المرتب على خاصها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها المفسر بمبينها …فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة ، وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما ـ أي دليل كان ـ ) [15].
الحكمة في وجود النصوص الظنية :
ولو شاء الله تعالى أن يجعل كل نصوص كتابه قطعية الدلالة لكان قادراً على ذلك ، ولكنه تعالى أراد أن يترك مجالات للاجتهاد ، حتى تكون الشريعة مرنة سهلة ميسورة ، يقول الشاطبي : (فإن الله حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومماثلاً للظنون ،وقد ثبت عند النظار أن الظنيات لا يمكن الاتفاق عليها عادة ، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف ، لكن في الفروع دون الأصول ، وفي الجزئيات دون الكليات ، فذلك لا يضر فيه هذا الاختلاف )[16] ويقول الزركشي : (واعلم أن الله تعالى لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة ، بل جعلها ظنية قصداً للتوسيع على المكلفين ، لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع…)ويقول : (وأما التي يسوغ فيها الاجتهاد فهي المختلف فيها كوجوب الزكاة في مال الصبي ، ونفى وجوب الوتر وغيره : مما عدمت فيها النصوص ـ أي القطعية ـ في الفروع وغمضت فيها الأدلة ويرجع فيها إلى الاجتهاد…)[17].
ثانياً : منطقة العفو :
اقتضت حكمت الله تعالى أن يترك منطقة ليست قليلة دون أن ينزل فيها نصاً ، وهي منطقة العفو كما ورد في حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه حيث قال : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء ؟ فقال : (الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه )[18] .
فهذا الحديث يعطينا مجالاً كبيراً ودائرة واسعة للاجتهادات الفقهية وبالتالي : الاختلافات الفقهية المقبولة ، وهي كثيرة جداً لا سيما في باب المعاملات المالية ، والسياسة والقضايا الطبية ، والقوانين الدولية ، والعلاقات الإنسانية ، حيث اكتفى فيها الإسلام بوضع المبادئ العامة والقواعد الكلية دون الخوض في تفاصيلها وجزئياتها .
وهذا من رحمة الله تعالى بعباده أن ترك لهم ساحات واسعة للاجتهاد والتطوير على ضوء قواعد الإسلام وأحكامه العامة ، وحينئذٍ يكون من الطبيعي أن يحدث الخلاف في مثل هذه القضايا المعاصرة ، والنوازل الجديدة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) سورة آل عمران / الآية (7 )
([2]) يراجع د.صبحي المحمصاني : فلسفة التشريع في الإسلام ط.دار العلم للملايين ( ص291 )
([3]) الموافقات ( 2/298 )
([4]) لم اقل : حديث الآحاد مطلقاً لما فيه تفصيل وخلاف في ظنية بعض أنواعها .
([5])انظر تفصيل ذلك في بحثنا حول أحاديث النهي عن صفقتين في صفقة واحدة ، المنشور ضمن بحوث المعاملات المالية المعاصرة ،ط.دار البشائر الإسلامية ببيروت .
([6]) سورة المائدة / الآية (6 )
[7])) يراجع : أحكام القرآن لابن العربي ،ط.دار المعرفة ببيروت (2/557)
([8]) الحديث رواه أبو داود الحديث رقم 3594 ، وابن حبان الحديث رقم 1199 ، والحاكم ( 2/49 ) ، والبيهقي ( 6/79 )
([9]) يراجع : المبسوط للسرخسي (29/167) ،وشرح الزرقاني ( 8/208) ، وروضة الطالبين (6/11)، والمغني(6/206 )
([10]) سورة التكوير / الآية (29 )
([11]) سورة الكهف/ الآية (29 )
([12]) الشيخ القرضاوي : المرجعية العليا في الإسلام ط.الرسالة (ص177 ) بتصرف .
([13]) شفاء الغليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ( ص 51 ـ 52 )
([14]) المرجع السابق نفسه
([15]) الاعتصام ( 2/244 ـ 245 )
[16])) الاعتصام (2/168)
[17])) البحر المحيط (6/240)
([18]) رواه الحاكم في المستدرك (4/115) وصححه ،والترمذي في سننه مع تحفة الاحوذي (5/396)وابن ماجه ( 2/1117)