أقام الاتحاد الإسلامي العالمي لعلماء المسلمين بالتعاون مع وزارة الأوقاف بالسليمانية، والرابطة الإسلامية الكوردية ، واتحاد العلماء المسلمين في كوردستان ، وروابط إسلامية أخرى مقرها محافظة السليمانية في العراق ندوة إسلامية تحت شعار (دور العلماء الكورد في مواجهة داعش وتصرفاتها)، حضرها عدد كبير من رجال الدين والفقهاء والمسؤولين وألقى فيها البروفيسور الدكتور علي القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، محاضرة موسعة حول التأصيل الفكري والشرعي لأفكار داعش وتصرفاتها، مؤكداً على أن الأساس هو هذا الجانب، وهو دراسة أيديولوجية داعش وأفكارها، لأن الفكر اليوم لا يقاوم إلا بالفكر، وكما يقال “لا يفل الحديد إلا الحديد”.
وأضاف قائلاً: هذه الندوة جاءت في وقتها، ولعلها تفيد مجتمعنا، وتفيد الشباب الذين غُرر بهم ليعودوا إلى المنهج الوسطي المعتدل، فقد ذهب الصحابي الجليل عبد الله بن عباس إلى الخوارج في عصر سيدنا علي رضي الله عنه فناقشهم وأقنع الكثيرين فرجعوا إلى معسكر علي بعدما كانوا يكفرونه.
وأشار إلى البعد التاريخي لنشأة التكفير والتطرف حيث نشأت في السجون والزنازين المصرية، عندما رأى الشباب صنوف التعذيب والإهانة تبنّى بعضهم فكرة التكفير والهجرة، أي تكفير المجتمع باعتباره مجتمعاً جاهلياً، يجب تكفيره، وهجره، وكان على رأس هؤلاء محمد شكري مصطفى الذي لم يتخل عن هذه الفكرة، واتهم باغتيال الشيخ محمد الذهبي وزير الأوقاف المصري في ذلك الوقت ولكن أثناء نشوء هذه الفكرة في السجون تصدى لها الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين في ذلك الوقت فناقشهم وفنّد أفكارهم وألّف وهو في داخل السجن كتابه: دعاة لا قضاة، حيث تراجع منهم عدد كبير.
وقد أكد القره داغي في محاضرته المفصلة على النقاط الآتية التي نوجزها وهي:
أولاً: لا بدّ أن نكون عادلين في الحكم على القاعدة، أو الداعش أو غيرهما، وبالتالي فلا ننطلق نحن من الحكم العام عليهما بالعمالة والارتباط بالخارج بصورة عامة، وبخاصة على الشباب الذين جاؤوا من كل حدب وصوب وهم – حسب الظاهر – يضحون بأنفسهم، لكنهم غرر بهم، ولذلك الإشكالية في الفهم والفقه والتربية والثقافة التي ربّوا عليها، وفي الاختراقات الخارجية لبعض قياداتهم، إذ أن اختراقاتهم ليست صعباً، كما أن من حمل السلاح يحتاج إلى تمويل ومساعدة وتعاون لوجستي، وهنا يمكن أن تدخل المخابرات الدولية والإقليمية تحت أي مسمى.
ونحن هنا لا نتحدث عن هذا الجانب الذي يحتاج إلى مزيد من الدراسات والبحث والتثبت وإنما نتحدث عن الأسس الفكرية والثقافية التي يقوم عليها هذه الجماعة، وعن الجرائم التي ترتكب بسبب هذا التفكير.
ثانياً: إن الإشكالية الكبرى في فكر هؤلاء المنتمين إلى القاعدة، أو داعش هي في التوسع في تكفير الناس، وعدم الاعتراف إلا لمن كان على فكرهم ومنهجهم، وهذا التوسع في التكفير والتفسيق ليس منهج السلف الصالح كما تدل على ذلك السيرة ، والتأريخ الصحيح، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بظاهر القول والشهادة بأن لا إله إلا الله ومحمد رسول الله حتى ولو كان منافقاً مرتداً، حتى مع رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول الذي سجل عليه القران قوله (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) وهذه شهادة من الله تعالى، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل معه بأمر من الله حسب الظاهر، فلم يقتله، بل لما مات صلّى عليه، ولما سئل لماذا لا تقتل أمثال هؤلاء قال: “دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه” رواه البخاري في صحيحه الحديث رقم 4905، 4907، ومسلم الحديث رقم 2584، ورواه غيره.
فهذا الحديث الصحيح دليل قاطع على أن الإسلام لا يريد توسيع الحكم بالكفر والردة حتى لمثل هذا المنافق الكبير، كما يدل على ضرورة الرعاية لما يقوله الأعداء، أو ما يسمى اليوم بالحملة العدائية التي تريد استغلال بعض الأمور لتشويه صورة الإسلام.
وهكذا كانت سيرة الخلفاء الراشدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فلم يكونوا لعّانين ولا مكفرين لمن قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة الذي قتل محارباً كافراً قال لا إله إلا الله وهو على صدره ليذبحه فلم يهتم به أسامة فقتله، ظناً منه: أنه يقول ذلك خوفاً ونجاةً من القتل، فلما قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبلّغه الخبر فقال: “يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قلت: كان متعوذا، فما زال يكرهها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم” رواه البخاري في صحيحه الحديث 4269 ومسلم الحديث 96
ثالثاً: أن الحل الجذري هو الحوار البناء من قبل أهل العلم الثقات مع هؤلاء الشباب، مع بقاء العمل السياسي، والعمل العسكري، والأمني في حدود مواجهة الجانب العسكري لداعش.
وقد اثبت التاريخ أهمية هذا الحل بدءاً من الخوارج إلى ما ذكرته حول كتاب “دعاة لا قضاة” ثم المراجعات التي قامت بها الجماعة الإسلامية وحركة الجهاد بمصر، حيث أفسح المجال لفضيلة الشيخ محمد الشعراوي، وفضيلة الشيخ محمد الغزالي إلى التواصل معهم في السجون، وبدأ التحاور العلمي فأنتج مراجعات لهم جميعاً، فكتبوا هذه المراجعات في سبعة عشر مجلداً، وتبنوا الفكر الوسطي المعتدل، ولا زالوا على هذا الفكر إلى يومنا هذا على الرغم من كل ممارسات حكومة الانقلاب حيث لم يتبنوا العنف والإرهاب، وظلوا أوفياء للحكومة الشرعية بالوسائل السلمية.
رابعاً: إن ما نشاهده ونراه من عمليات انتحارية لهؤلاء الشباب، وقتل الآخرين لا يمكن أن يتحقق دون عمليات تربوية وثقافية وفكرية تقوم هي بتهيئة هؤلاء لأن يكونوا وقوداً لقتل أنفسهم، وقتل الآخرين، وذلك من خلال حلقات متتالية من السيطرة الفكرية والرقابية لأولئك الذين تم تجنيدهم حيث يتم ما يأتي:
أ- عزلهم عن المجتمع، والمؤثرات الثقافية الأخرى من خلال تشويه سمعة العلماء، والجماعات المعتدلة، والتأكيد على أن هؤلاء لا يمثلون الإسلام الحقيقي، وأن هؤلاء العلماء هم علماء الفنادق والإسلام يجب أن يؤخذ من علماء الخنادق والبنادق الذين هم معهم، وهم في الغالب جاهلون بالفقه والأصول وبفقه الواجب والواقع وتحقيق المناط وفقه المآلات، وفقه الميزان والموازنات الشرعية المطلوبة.
ب- تلقين هؤلاء الشباب فهماً قائماً على نصوص تقطع صلتها بنصوص أخرى مكملة، أو مبينة أو مخصصة ، أو مقيدة، وعن سياقها ولحاقها، وأسباب نزولها ، أو محاولة تأويلها تأويلاً واحدا مناسباً لما يريدونه من القتل والعنف والإرهاب، ثم تقدم هذه التفسيرات أو التأويلات على أنها النص المعصوم، أو أنها المراد المحتوم، وان غيرها من تفسير علماء السلطة حسب نظرهم أو من الجبناء الذين لا يريدون رفع راية الجهاد تفسير باطل.
ج – تصوير المجتمع على أنه مجتمع جاهلي طاغوتي يجب محاربته، وأنه لا قدسية له، ولا لأفراده، حتى يعودوا إلى الفكر الذى يريده هؤلاء المتشددون، ولذلك فهم يُنزلون جميع النصوص الواردة في الطواغيت والمجتمع الجاهلي على مجتمعنا الإسلامي، وهنا الكارثة والخطيئة الكبرى.
د- اعتبار انفسهم انهم الفرقة الناجية، وأنهم الفرقة الوحيدة الظاهرة على الحق، وأن غيرهم على الباطل، وهذا أسس الداء والمصائب.
هـ – اختزال الإسلام في الجهاد بمعنى القتال مع أن الإسلام، هو عقائد، وعبادات وأخلاق وتعامل، وسياسة، وحركة شاملة للحياة (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162] وحتى الجهاد ليس محصورا في القتال، بل هو شامل لكل جهد ببذل في سبيل الله تعالى سواء كان جهداً ذهنياً أو عقليا، أو عمليا لأجل نشر الإسلام وخدمة أهله.
والله تعالى طلب من المؤمنين أن لا ينفروا للقتال جميعاً، بل عليهم أن لا يتركوا التفقه في الدين فقهاً صحيحاً عميقاً، لأنه هو الذى يحمى الأمة فقال تعالى(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ] التوبة: 122[
و- اختزال الشريعة في تطبيق الحدود في جميع الأحوال.
ومن المعلوم حقاً أن الآيات التي نزلت بشأن الحدود كانت في السنوات الأخيرة من الهجرة بعدما تحقق للرسول صلى الله عليه وسلم التمكين من المدينة وما حولها بل بعضها بعد فتح مكة، كما أنها جاءت بعد نجاح التربية النبوية في ترسيخ العقيدة والشريعة والأخلاق في النفوس .
ومع ذلك فإنها لا تطبق مطلقة، وإنما لها شروطها وضوابطها، وأنها تدرأ بالشبهات، فقد ورد في الأثر (ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم). كما أنها خاضعة لتحقيق المناط، وفقه المالات، ولذلك لم يطبق عمر حد السرقة عام المجاعة
ز- إن الأصول الفكرية للقاعدة وداعش ترجع إلى السلفية الجهادية، وأنها تعتمد على عدة أطروحات ورسائل وكتب من أهمها:
1- رفع الالتباس عن ملة ما جعله الله إماما للناس وقصد به نبي الله إبراهيم، لمؤلفه جهيمان بن محمد العتيبي الذى قاد حادثة اقتحام الحرم المكي الخطيرة عام 1400= 1980.
2- ملة إبراهيم لمؤلفها : عاصم البرقاوي الشهير بأبي محمد المقدسي الذى عاش شابا يافعاً في المدينة المنورة في فترة جهيمان نفسها فأصبح هذا الكتاب مرجعاً للفئة الجهادية والتيار السلفي المتشدد، وهو كتاب يمثل تطويراً لكتاب جهيمان السابق.
3- معالم الطائفة المنصورة لمؤلفها المكنى ب : أبى الفضل العراقي حيث هي تُبنى على الكتابين السابقين، وتؤصل لداعش تصرفاتها، وسياساتها في التكفير، والقتل والرعب، واستباحة الشيعي والعلماني، والليبرالي، ومن يؤمن بالديمقراطية، ويمارسها، ومن يقبل بالأحكام الوضعية، أو يحكم بها، وكذلك تكفر الأحزاب الوطنية، والقومية، والبعثية والاشتراكية، وتؤكد على بدعية الجماعات الإسلامية التي تقبل بالانتخابات، وانهم براء منها ، وأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة مع الإمام وبدونه، وعلى كفر الحاكم اذا حكم بالقوانين وبغير ما أنزل الله، وكفر من تعاون مع الكفرة بأي شكل من الأشكال، إلى قائمة من التكفير الكبيرة.
4- واعتمدوا كذلك – حسب دعواهم – على كتب التوحيد ونواقض الإيمان ومنهاج السنة لابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وبعض علماء السلف المعاصرين الذين كتبوا في العقيدة وهاجموا الأشاعرة والشيعة ونحوهم.
ح – جعل بقية الفصائل والجماعات والطوائف والمذاهب والأحزاب الإسلامية في خانة الضلالة والبدعة والكفر، أو الفسق والفجور، ثم البدء بهم قبل البدء بإسرائيل ونحوها، فقد رآهم الناس في العراق أنهم كانوا يحاولون إخضاع الكتائب الجهادية الأخرى لهم وأخذ بيعتهم لهم، ثم محاربتهم إن لم يفعلوا ذلك
وفى سوريا الجريحة هاجمت داعش الفصائل الجهادية الأخرى ، وجيش الحر، وقتلت منهم اكثر ممن قتلوا بأيدي بشار الأسد، بل هاجموا جماعة النصرة التي تمثل القاعدة في الشام، وقتلوا من قادتهم وجنودهم الكثير.
ط – السير على فقه واحد دون تجديد ولا توسع ولا مرونة، إنه فقه السلفية الجهادية التي لا تعترف إلا بما أنتجه بعض مشايخ السعودية – حسب دعواهم-، فلا اعتراف بالانتخابات، ولا بالديمقراطية حتى في جانبها العملي من الفصل بين السلطات ومحاسبة الحاكم وإنما الانحسار في دائرة ضيقة حتى في السياسة الشرعية التي مبناها على المصالح،( وأنها عن القطعيات عريٌة) كما قال الإمام الجويني في الغياثي.
خامساً: عدم مراعاة فقه الميزان، حيث إنهم لا يراعون ميزان الشرع الخاص بوقت الحرب حيث تكون الأولوية للشدة والغلظة، فتلك ميزان الحرب، وأما ميزان السلم والتعايش فهو يقوم على رعاية تحقيق الأمن والأمان للجميع، وبنشر الدعوة، كما أن ميزان الدعوة إلى الله تعالى يقوم على الألفة والتآلف والمحبة، ورقة القلب، وعذوبة الكلام، والتحاور، والجدال بالتي هي أحسن.
فليست النصوص كلها على نسق واحد.
سادساً: التركيز على بعض الآيات والأحاديث لأخذ بعض الحق ليجعلوه الحق الكامل، فمثلاً يقول المحققون من العلماء ( مثل ابن القيم): إن الجبرية أخذوا ببعض الحق وحصروا الأمر في قوله تعالى (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله)، في حين أن القدرية اعتمدوا على قوله تعالى ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وأمثاله. ثم يقول هؤلاء المحققون، الحق في الجمع بين كل هذه الآيات المتعلقة بالموضوع لتظهر النتيجة في القول الوسط المعتدل وهو أن الإنسان له إرادة واختيار، ولكن في إطار مشيئة الله تعالى، وأن الله تعالى له الأمر كله ولكن جرت سنّته أنه أعطى لعباده الاختيار والقدرة بالمقدار الذي يحاسبون عليهما وهكذا الحال عند السلفية الجهادية ومشتقاتها فقد حصروا الأمر كله في مجموعة من القضايا على رأسها الجهاد بالصورة التي ترونه.
سابعاً: تصرفاتهم وجرائمهم في قتل المسلمين والمجاهدين في سوريا، وطرد أهل الكتاب، وقتلهم، وسبي نسائهم، فهذه كلها جرائم خطيرة بعيدة عن الإسلام وسيرته العطرة، ومبادئه القائمة على المشتركات الجامعة، وعلى الرحمة الشاملة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين),
كما تناولت المحاضرة مجموعة أخرى من الأفكار والردود على أسئلة الحاضرين من العلماء والمفكرين والمسؤولين.