حكم التورُّق في الفقه الإِسلامي

 

تعريف التورق :

التورُّق لغة: مصدر تورَّق، فيقال: تورق الحيوان أي أكل الورق، وأورق الشجر أي خرج ورقه، وأصله من الورق ــ بفتح الراء ــ من الشجر ما تبسط وكان له خط ناتىء في وسطه تكتنفه حاشيتاه، ويطلق على الدنيا، وجمال الدنيا وبهجتها، وحسن القوم وجمالهم، وعلى جلود رقاق يكتب فيها وعلى ما يكتب فيه، أو يطبع عليه من الكاغد، كما يطلق على المال من دراهم وإبل وغير ذلك.

والورق ــ بكسر الراء، والإِسكان ــ ، النقرة المضروبة، وهي : الدراهم من الفضة وجمعه أوراق[1].

والأوراق المصرفية في الاقتصاد أوراق يصدرها بنك الإِصدار مشتملة على التزام بدفع مبلغ معين من النقود لحاملها عند الطلب، أو عند المدة المقررة[2].

وفي القرآن الكريم ورد لفظ (ورق) بفتح الراء[3] وورقة كذلك بمعنى ورق الشجر[4]، كما ورد بلفظ (ورقكم) بكسر الراء في قوله تعـالى : {فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً}[5] ، أي : بدراهمكم.

وكذلك الحال في السنة المشرفة حيث ورد بالمعنيين السابقين[6].

وفي الاصطلاح الفقهي : هو شراء سلعة لبيعها لاخر للحصول على النقد. وذلك بأن يشتري سلعة بالنسيئة، ثم يبيعها لاخر (غير البائع الأول) نقدًا ويكون البيع في الغالب بأقل مما اشتراها منه.

 

حكم التورق :

1 ــ ذهب جمهور الفقهاء إلى إباحة التورق، لكن الحنابلة سموا هذا النوع بهذا الاسم[7]. أما بقية المذاهب الأربعة فلم يرد فيها هذا الاسم، لكنه بالرجوع إلى مصادرهم لا نرى فيها الإِشارة إلى حرمة هذا النوع من البيوع بل يظهر بوضوح أنهم يبيحونها[8].

2 ــ وذهب الشيخان ابن تيمية وابن القيم إلى اختيار تحريمه[9].

3 ــ وذهب محمد بن الحسن الشيباني إلى كراهته، وهذا مروي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله[10].

 

استدل الجمهور بالكتاب والسنة والقياس:

 أما الكتاب فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[11] حيث إن لفظ البيع المحلى بأل للعموم، ويدل على إباحة كل بيع إلا ما دل دليل معتبر على حرمته، ولا دليل هنا يدل على حرمة التورق فيبقى على إباحته، وقد أثبت شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله بالأدلة المعتبرة أن الأصل في العقود والشروط الإِباحة إلا ما دل الدليل على حرمته، وأسند هذا القول إلى طائفة قليلة من الفقهاء؛ حيث ذكر أن أصول جمهور الفقهاء تدل على الحظر[12].

ولكنني تابعت نصوص الجمهور في رسالتي الدكتوراه[13] فوصلت إلى أن الأصل عند الجمهور في العقود الإِباحة إلا ما دلَّ دليل خاص على حظره حيث قال الزيلعي: «ولا نسلم أن حرمة البيع أصل بل الأصل هو الحل، والحرمة إذا ثبتت إنما تثبت بالدليل الموجب لها وهذا لأن الأموال خلقت للابتذال فيكون باب تحصيلها مفتوحًا فيجوز ما لم يقم الدليل على منعه بخلاف النكاح»[14].

وهكذا عند بقية الفقهاء، فأصل البيوع كلها مباح، وهكذا عند بقية الفقهاء ما عدا الظاهرية[15] بل إن أصول المالكية والحنابلة تدل بوضوح على الإِباحة حيث صرح علماء المالكية بأن الأصل في السلع الإِباحة وأن الأصل في البضع الحظر[16] كما ذكر علماء الحنابلة أن الأعيان المنتفع بها والعقود المنتفع بها مباحة، وبالإِباحة قال أكثر أصحاب أحمد، بل قال القاضي: «وأومأ إليه أحمد، حيث سئل عن قطع النخل؟ قال: لا بأس. لم نسمع في قطعه شيئًا.. قال ابن قاضي الجبل وغيره: الأدلة الشرعية دلت على الإِباحة[17].

واستدلوا كذلك بعموم الأحاديث الواردة في البيع وبالحديث الدال على ذلك وهو الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبـي سعيد الخدري وأبـي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أكلُّ تمر خيبر هكذا»؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا»[18].

وجه الاستدلال بهذا الحديث من حيث دلالته على أن الأصل في العقود هو تحقيق صورته الشرعية وأن الاحتمالات الواردة لنيَّة العاقد لا أثر لها، وأن الشيء قد يكون حرامًا لعدم تحقيق صورته الشرعية كما في هذه المسألة وأنه يتحول إلى الحلال إذا غيرت صورته المحرمة مع أن المقصد الأساسي واحد، فالشخص لديه تمر رديء يريد الحصول على تمر جيد فما الذي يفعل؟ فإذا باع صاعًا منه بنصف صاع فالعقد محرم وباطل ولكن إذا باعه بدرهم ثم باع بالدرهم نفسه نصف صاع فهذا جائز وهذا هو أساس سؤال الجاهليين حينما قالوا: «إنما البيع مثل الربا»، فرد الله عليهم بإسناد التحليل والتحريم إليه فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[19].

ويظهر من هذا الحديث جواز التورق لأن البيع قد توافرت فيه أركانه وشروطه وأن نية حصوله على النقد لا أثر لها في بطلان العقد ثم إن هذه النية ليست محرمة فهي في إطار المباح فنية الحصول على النقد ليست محرمة من حيث المبدأ.

واستدلوا كذلك بالمعقول حيث إن التورق يحتاج إليه، ويحقق مصالح كثيرة للناس. فهناك الكثيرون ليس لديهم نقود كافية لأداء ديونهم ولا لزواجهم ولا لمصالحهم الأخرى فيستطيع المتورق من خلال عقد البيع لأجل التورق الحصول على حاجاته بل على ضرورياته.

واستدل المحرمون بما يأتي:

أولاً: أنه وسيلة إلى الربا فلا بد أن يكون محرمًا كما هو الحال في بيع العينة.

ثانيًا: أنه بيع المضطر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بيع المضطر[20].

ثالثًا: يترتب عليه مفاسد منها أن بعض الناس يستغلون التورق لأجل المزيد من الديون فقد يشترون السلعة بمائة ألف ويبيعونها بخمسين ألف مما يترتب على ذلك إضاعة المال.

ويمكن أن تناقش هذه الأدلة بما يأتي:

أولاً: إن التورق لا يظهر فيه قصد الربا ولا صورته فليس مثل العينة بل إن قياسه عليها قياس مع الفارق فالعينة هي أن يبيع شخص سلعة نسيئة بعشرين ألف ثم يشتريها البائع نفسه من المشتري نقدًا بثمن أقل، فقصد الربا في العينة ظاهر وواضح، بل الغالب أن المشتري يطلب النقود من البائع فيمتنع، ثم يعرض عليه شراء سلعة له فتتم الصفقة في الظاهر فقط، ثم إن العين المشتراة قد عادت إلى البائع نفسه مع أنه اكتسب من الصفقة مبلغًا كبيرًا في حين أن العين المباعة لم تعد إلى البائع في التورق.

فالتورق يتكون من صفقتين منفصلتين هما:

1 ــ شراء المتورق السلعة من أي شخص أو جهة.

2 ــ ثم بيعها لشخص آخر بمبلغ متفق عليه فلا يوجد أي مانع شرعي من كل واحد من هاتين الصفقتين، فكيف يقال بحرمة إحداهما أو كلتيهما؟

ثانيًا: إن كلامنا نحن على التورق من حيث هو لا على حالة الاضطرار التي لا تخص التورق بل تعم التورق وغيره؛ حيث قد يضطر الإِنسان لبيع ممتلكاته لأداء ديونه أو لأية حالة اضطرارية والخلاصة أننا لا نسلم أن بين التورق والاضطرار تلازمًا.

هذا من جانب ومن جانب آخر: إن العلماء فسروا بيع المضطر بحالتين، هما:

1 ــ أن يضطر إلى العقد من طريق الإِكراه عليه وهذا بيع فاسد لا ينعقد.

2 ــ أن يضطر إلى البيع لدين ركبه أو مؤنة ترهقه، فيبيع ما في يديه بالوكس للضرورة. وهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يبايع على هذا الوجه، ولكن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه صح مع الكراهة عند أكثر العلم[21].

ثالثًا: أن ما ذكر من المفاسد ليس ناتجًا من التورق من حيث هو وإنما ترتب عليه بسبب الاستغلال، فالحرمة فيه من هذا الجانب.

 

الترجيح:

بعد ذلك يمكننا القول بأن القول بإباحة التورق هو الأرجح ولكن لا بد من وضع ضوابط حتى لا يستغله بعض الناس لتراكم الدين والبيع بالخسائر ومن هذه الضوابط أن البائع إذا علم أن المشتري يريد التورق لأجل إشباع الرغبات وتراكم الديون فيكره عليه أو يحرم عليه أن يبيعه كما هو الحال في بيع السلاح لمن يستعمله في غير المباح.

أما إذا كـان الرجل محتـاجًا إلى النقـد لأداء ديونـه الحالَّـة أو لأجـل الزواج أو نحو ذلك، ثم لا يجد طريقًا للاقتراض المشروع فهو بين أحد الأمرين:

1 ــ إما الاقتراض من البنوك الربوية بربا صريح واضح.

2 ــ أو التورق، عن طريق شراء بضاعة نسيئة ثم بيعها نقدًا.

فهل يقال حينئذٍ: إن التورق حرام، فيُلتجأ إلى البنوك الربوية؟!!

وقد صدر قرار من المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بجواز بيع التورق بضوابطه في دورته الخامسة عشرة بمكة المكرمة، هذا نصه:

«فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي لرابطة العالم الإِسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة بمكة المكرَّمة التي بدأت يوم السبت 11 رجب 1419هـ، الموافق 31/10/1998م قد نظر في موضوع حكم بيع التورق.

وبعد التداول والمناقشة والرجوع إلى الأدلة والقواعد الشرعية وكلام العلماء في هذه المسألة قرَّر المجلس ما يأتي:

أولاً: إنَّ بيع التورُّق هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه بثمن مؤجَّل ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع للحصول على النقد (الورق).

ثانيًا: أنَّ بيـع التورُّق هـذا جائـز شـرعًا، وبـه قـال جمهـور العلماء؛ لأنَّ الأصل في البيوع الإِباحة؛ لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[22]، ولم يظهر في هذا البيع ربًا لا قصدًا ولا صورة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين أو زواج أو غيرهما.

ثالثًا: جواز هذا البيع مشروط بأن لا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول لا مباشرة ولا بالواسطة، فإن فعـل فقد وقعـا في بيـع العينة المحـرم شرعًا لاشتماله على حيلة الربا فصار عقدًا محرَّمًا.

رابعًا: إنَّ المجلس وهو يقرِّر ذلك يوصي المسلمين بالعمل بما شرعه الله سبحانه ــ لعباده ــ من القرض الحسن من طيب أموالهم طيبة به نفوسهم ابتغاء مرضاة الله لا يتْبعه منّ ولا أذى، وهو من أجلِّ أنواع الإِنفاق في سبيل الله تعالى؛ لما فيه من التعاون والتعاطف والتراحم بين المسلمين وتفريج كرباتهم وسد حاجتهم وإنقاذهم من الإِثقال بالديون والوقوع في المعاملات المحرمة، وأنَّ النصوص الشرعية في ثواب القرض الحسن والحث عليه كثيرة لا تخفى، كما يتعيَّن على المستقرض التحلِّي بالوفاء وحُسن القضاء وعدم المماطلة.

وصلَّى اللَّـه على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، والحمد للَّـه ربّ العالمين».

 


  1. يراجع لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير مادة (ورق).

  2. المعجم الوسيط ج 1 قطر (2/1026).

  3. سورة الأعراف: الاية 22، وسورة طه: الاية 121.

  4. سورة الأنعام: الاية 59.

  5. سورة الكهف: الاية 19.

  6. يراجع لفظ (ورق) من معجم ألفاظ السنة المشرفة.

  7. يراجع: كشاف القناع (3/186)، والفروع (4/171)، ويراجع: موسوعة الفقه الكويتية (5/147).