أيها الإخوة المؤمنون

تدل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة كلها على أن العلاقات بين المسلمين والمؤمنين يجب أن تقوم على أساس الأخوة الإيمانية، التي تغلب وتفوق أخوة النسب، بحيث يكون المؤمن بالنسبة لأخيه المؤمن سنداً وظهراً، ويكون الآخر عن أخيه المسلم عزيزاً كريماً حميداً، في كل مجالات الحياة حتى تتحقق الأمة الواحدة والجسد الواحد للأمة، ثم تبنى الحضارة والقوة التي تصون الوحدة، وتحفظ الأمة، وترعى مصالحها.

وهذا هو المطلوب بين المسلمين في كل زمان وكل عصر وأوان، ولينظر الواحد منا اليوم إلى من حوله من العالم الإسلامي، وليتأمل في البون الشاسع والبعد الواسع الكبير والفجوة العميقة بين واقعنا المعاصر، وبين ما يدعونا إليه الله تعالى من خلال التشريع في الكتاب والسنة.

أصبح معظم أفراد الأمة الإسلامية، وجماعاتها وحكوماتها تنطوي تحت عباءة الأنانية، وتنادي نفسي نفسي، مالي مالي، مصالحي مصالحي، في حالة يرثى لها من التفرق والابتعاد عن حقوق الأخوة الإيمانية.

وإن من أخطر الأمراض القلبية التي تؤثر في هذه الأخوة سوء الظن، فما هو سوء الظن؟ وما أنواعه؟ وما هي الآثار الناجمة عنه؟ وكيف العلاج؟

سوء الظن هو: عدم الثقة بمن هو لها أهل، وامتلاء القلب بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على اللسان والجوارح ، واعتقاد جانب الشّرّ وترجيحه على جانب الخير فيما يحتمل الأمرين معاً.

فيتعامل المجتمع بتلك الظنون والشكوك التي لا أساس لها، والتي لا تمت إلى الحقيقة بِصِلة، ولو تعامل المجتمع كله بالمكاشفة والإعلان والبيان والشفافية وإظهار الحق، لقضى على هذا المرض العضال، ولتطهر من خبث القلوب.

إن الذي يعيش في أجواء موبوءة مفعمة بالشكوك وسوء الظن، ويقتات على الفساد والرذيلة ليبث سمومه من خلال إشاعة الظنون الكاذبة، ومن خلال اختلاق الشبهات والاتهامات لفئات الناس المحترمة، وللحكومات الرشيدة، وما أكثر تلك الاتهامات في عصرنا هذا الذي يشهد طفرة في عالم التكنولوجيا، والذي يفاجئنا كل يوم بوسيلة اجتماعية جديدة، فلا يتقن معظم الناس استعمال تلك الوسائل في الخير والنعم، بل يحولها إلى أداة شر ونقم، يروج من خلالها ما تستهويه أفئدة بعض الحكام والقادة، ليلبس على الناس دينهم الذي ارتضاه الله تعالى لهم، وليرْدوهم بعد الحق والبيان.

تحولت تلك الوسائل إلى آلة تصنع الكذب وتنشر الفساد، وتطبل لفكر ساذج، وتبث السموم، حتى إن بعض الدول قد خصصت لهذا الغرض ميزانية لتمويل ما يسمى بالجيش الإلكتروني لصناعة الكذب والتضليل، وإشاعة الدجل والفساد والتدمير، لا يسلم من زورهم ولا بهتانهم ولا إفكهم علماء مصلحون، ولا قادة حكماء، ولا أي فئة اجتماعية، وحتى تنطلي أكاذيبهم على عامة الناس يكررون تلك الأكاذيب حتى تغدو مشاهدةً مألوفة أمام العامة فلا ينكرون منها شيئاً؛ ولكي تكسب أباطيلهم شيئاً من القبول يلبسونها كسوة الدراسات العلمية، والنتائج المخبرية.

بل إن رئيس إحدى الدول استطاع أن يلفق على الناس ويكذب عليهم في ترويج حملته الانتخابية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث أنشأ مليوناً وخمسمائة حساب وهمي تؤيده في حملته، مع أنه كان منبوذاً من أغلب الفئات الاجتماعية في دولته.

إن العالم الإسلامي يعيش اليوم في صراع داخلي وحرب نفسية بسبب هذه الظنون والشكوك، حتى إن بعض مفكري الغرب يقول:" لو ترك المسلون هذه الوسائل الاجتماعية وما يُروَّج فيها لربما حلت مشاكلهم بنسبة تزيد عن 50%.

أنواع سوء الظن.

1-سوء الظّنّ بالله؛ بأن ينسب المرء إلى ربه ما لا يليق به، أو يصفه بما هو منزه عنه من كل عيب ونقص، أو يتعلق بغيره، ويعتمد على سواه، أو يقنط من رحمة الله وييأس من روح الله… وقد ذم الله تعالى من يظن به السوء وتوعده على ذلك أشد الوعيد فقال تعالى: { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.

فمعظم بني آدم يظن بربه سوءاً، ويزعم أنه يستحق فوق ما أعطاه الله تعالى، لسان حاله يقول: ظلمني ربي فأنا أستحق أكثر من هذا، وأنا أولى بكذا وكذا من فلان وفلان، ولا يجرؤ أن يصرح بذلك على لسانه، ويجبن عن التصريح به.

إن العقوبات التي ذكرتها الآية الكريمة لا توجد إلا لمثل هذه الأفعال الشنيعة، التي تخسف بإيمان الفرد وتؤذن بدمار المجتمع، والتي تورد صاحبها موارد الخزي في الدنيا، حيث لا ينال خيراً، وتسبب له غضب الله تعالى ولعنته يوم القيامة.

 2- سوء الظّنّ بعباد الله؛ وقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن سوء الظن بإخواننا المسلمين؛ لما فيه من إثم مبين وذنب عظيم، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }.

قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخوُّن للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعضَ ذلك يكون إثمًا محضًا، فليُجتنب كثيرٌ منه احتياطًا".

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسّسوا، ولا تجسّسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا".

فمقتضى الأخوة الإيمانية أن يحسن كل منا الظن بالآخر، إلا إذا وجدت دلائل وقرائن ظاهرة غير قابلة للتأويل، فلو احتمل الكلام نسبة 99% سوءاً، ونسبة 1 % حُسناً وجب علينا أن نرجح النسبة الضئيلة، ويجب أن نحمله على الخير؛ إذ المسلم مجبول على فعل الخير وتقديم الخير وحب الخير.

إننا اليوم ــــ ورغم آيات الله التي تتلى، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تضفي نوراً على واقع الأمة ــــ يلجأ البعض إلى  صناعة الكذب والتهم والافتراءات ضد العلماء والدول والمسلمين، ويطير البعض بها يملأ بها رحب الفضاء، وينشرها في كل الأرجاء، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، ولا يفهم من هذا أنه إذا جاءنا مؤمن بخبر يحتمل التصديق والتكذيب أن نقبله دون تمحيص، بل لو نقل المؤمن خبراً يتردد بين القبول والرد وجب على السامع التأكد والتثبت، فإذا تبين أنه غير مطابق للواقع اعتبر المؤمن الذي نقله فاسقاً.

 لم يتمكن الغرب من احتلال بلادنا إلا من خلال إشاعة سوء الظن بين الأمة الإسلامية، فمثلاً حين كانت الخلافة العثمانية في أوج قوتها، وكانت عادلة مع كل من ينضوي تحت رايتها من الأجناس والأعراق، استغل الغرب بعض ضعفاء النفوس، واستخدموهم عملاء لبث النعرات الطائفية، وإذكاء نيران القومية والعرقية، فعمد هؤلاء العملاء إلى إيقاظ  الفتنة بين فئات الأمة من خلال سوء الظن، فتفرقت الخلافة العثمانية إلى دويلات، وتشرذمت إلى ولايات، وضعفت قوتها، ووهن منها العظم، واشتعل رأسها شيباً، وغدت لقمة سائغة للمحتلين، وخاب فأل العملاء حيث لم يحظوا بشيء، ولم يعودوا إلى أوكارهم إلا بخفي حنين.

 آثار سوء الظن.

ويكفي سوء الظن قبحاً أنه من صفات الجاحدين والمنافقين، فما صد الأمم السابقة عن الاستجابة للحق والانصياع للدين، واتباع الرسل، إلا العناد والاستكبار وسوء الظن، قال تعالى عن قوم هود: {قالَ الْمَلأ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ}، وحكى ذلك عن أكثر الأنبياء.

وقال تعالى عن منافقي هذه الأمة: {وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ}.

سوء الظن سبب في التخلق بمساوئ الأخلاق وقبيح الخصال، قال ابن عباس رضي الله عنهما:" الجبن والبخل والحرص غرائز سوء يجمعها كلها سوء الظن بالله عز وجل".

 سوء الظن سبب في الأحقاد والضغائن، وسبب في العداوات والنزاعات، حيث يزرع الشقاق بين المسلمين، ويقطع حبال الأخوة، ويمزق وشائج المحبة، ويزرع العداء والبغضاء والشحناء.

سوء الظن سبب في كثير من المشاكل العائلية، والصراعات الأسرية، فكثيراً ما يقع النزاع والخصام، وقد يقع الفراق، نتيجة سوء الظن بالأقارب والأحباب، وبعد لحظات يتبين لمُسيءِ الظن أن الأمر على خلاف ما كان يظنه، وقد لامست ذلك بنفسي من خلال إشرافي على بعض الحالات الأسرية في مسعى الصلح بين الأسرة.

سوء الظن يُضْعِف الثقة بين المؤمنين، فإذا انتشر في المجتمع تفرق شمله، وتمزقت روابطه، وساءت أحواله، وكثرت فتنه ومحنه، والله تعالى يقول: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقد قال العلماء: إن المراد بالكفر هنا ليس الذي هو ضد الإيمان، وإنما القصد هو التفرق والضياع والتشرد والتشرذم، وذهاب الثقة والهيبة والكرامة.

 

علاج سوء الظن.

إن مما يبدل على قوة إيمان العبد وصلته بالله تعالى، وتعاونه مع مجتمعه الذي يعيش فيه، وانتمائه إلى الأمة الإسلامية التي أخرجها الله تعالى للناس هدى وبرهاناً، هو حسن الظن، ولكي يتحقق في قلبه حسن الظن ويتقوى إيمانه بالله تعالى وتعظم خشيته في نفسه، عليه بالآتي:

أن يؤول ما ظاهره السوء حيث يجد إلى ذلك سبيلاً، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لا يحل لامرئ مسلم سمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوءاً، وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجاً".

التماس الأعذار للآخرين، حيث بين الله تعالى واجب المسلم إذا سمع ما يضيق به صدره، ويختلج به قلبه، فقال تعالى في حادثة الإفك: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}، وقد ورد عن بعض السلف الصالح:" التمس لأخيك سبعين عذراً".

 انشغال المرء بعيوب نفسه ليصلحها، فالمسلم خيبر بعيوب نفسه مطلع عليها، وعليه أن يصلح من شأنه ويرتقي بنفسه، ويقوم خطأها، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الآخرين.

فإياكم وسوء الظن، واتقوا الله واتقوا سوء الظن، فإنّ المؤمن يطلب المعاذير لسلامة باطنه، والمنافق يطلب العيوب لخبث باطنه، وطهروا قلوبكم حتى تأمنوا في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، واجتهدوا في تهذيب نفوسكم وتطهيرها، ولا تظنوا بركم إلا خيراً فإنه طريق السعادة والفلاح، ولا تظنوا بعباد الله إلا خيراً فإنه طريق التآلف والنجاح.

الخطبة الثانية:

إن الأمة صبت اهتمامها في التربية منذ قرابة 100 سنة إلى قضية العقيدة والعبادة، وهذا أمر مطلوب، وأهملت الأمة القلب، وغذاءه، وأصبحنا نركز على الشكل الظاهري، ونحكم على المرء من خلاله، فإذا كان ذا ثوب ينتصف الساق، ولحية تملأ رحابة الصدر حكمنا بإيمانه وصدقه، وإذا كان غير ذلك كان منبوذاً ممقوتاً.

ولقد التقيت ذات يوم ببعض الشباب من هذه البلاد فبادرتهم بالسلام والابتسامة، ففرحوا ودهشوا، ولما سألتهم عن سبب الاستغراب، قالوا: إنك عالم معروف تسلم علينا وتبتسم في وجهنا، وعندنا بعض العلماء نسلم عليهم فلا يردون علينا السلام إلا بخياشيمهم، ومنذ ذلك الوقت غدوا أصدقاء لي، وكلما حانت لهم الفرصة لزيارة قطر، يزورونني.

 زار سيدنا عيسى قرية فخرجت كل القرية لاستقباله، فسألهم: هل سكان القرية كلهم هنا، فأجابوا: نعم، غير واحد، هو كذا وكذا ــــ وعددوا معايبه ــــ، فقال لهم عيسى عليه السلام: أنا ضيف هذا الرجل الليلة، فقالوا: كيف تنزل به ضيفاً ونعته كذا وكذا، فقال: إننا أطباء القلوب، وعلينا أن نذهب إلى مثل هؤلاء لعلاجهم، ولما نزل به سيدنا عيسى عليه السلام، فرح به الرجل واستبشر، وصلح حاله وتاب وأناب.

أمتنا ينقصها الكثير، وعلى علمائنا أن يغشوا الناس في مجالسهم ليعلموهم، وليكونوا علاجاً لأمراض قلوبهم، فالمرء بصلاح قلبه.

اللهم أصلح أحوالنا