أيها الإخوة المؤمنون

إذا نظرنا إلى واقع الأمة الإسلامية اليوم لوجدنا أن أكبر إشكالياتها هو اهتمامها بالشكليات والمظاهر على حساب المقاصد والمعاني والالتزامات، ودون العناية بالجوهر المكنون في داخله، وهذا غير ما ينبه عليه القرآن الكريم ومناقض لما تستهدفه السنة النبوية المشرفة، إذ إنهما يريدان أن تكون الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس، وأن يهتم الفرد المسلم فيها بالجوانب الأخلاقية والعملية والسلوكية مع الاعتناء بالعقائد والشعائر، وأن يكون للعقيدة والعبادات والشعائر آثار على سلوك الإنسان وعلى تصرفاته وعلى تعاملاته، تشرق في جوانب الحياة كلها.

وهذا ما ركز عليه النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع، وهذا ما بينه صلى الله عليه وسلم في خطابه، وأصى فيه بدستور للأخلاق، بعد أن أثار انتباه الصحابة، وحفز فيهم التأمل وشد انتباههم من خلال عدة أسئلة طرحها عليهم أتدرون أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، أتدرون أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، وكذلك سألهم عن المكان، وفي كل ذلك تنسب الصحابة الجواب إلى علم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تأدباً، ولتعم الفائدة.

ثم وضع صلى الله عليه وسلم مادة قانونية دستورية اجتماعية إيمانية إسلامية:" إن دماءكم واموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"، ليس هناك فرق في ارتكاب المحظور والاعتداء على الحرمات في الإثم بين مكان ومكان، ولا بين زمان وزمان، فأي اعتداء يحصل في أي زمن وأي بقعة إثمه وجرمه كأي اعتداء يكون في اليوم الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام.

ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المبدأ والدستور في أحاديث كثيرة وصلت إلينا بطرق صحيحة، منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما" المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" وفي رواية : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال:" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنه الناس على أموالهم وأنفسهم"، فهذه المصطلحات العظيمة : الإسلام والإيمان والهجرة لها مكانتها في الإسلام، وكما أنها تحظى بمنزلة عظيمة في نفس المسلم الحق، كما يعلم الجميع أن لها دلالات أخرى.

فالإيمان بدءاً هو الإيمان بالأركان الستة، وهي الأساس، ولكن هذه الحقيقة لا تكتمل بدون آثار الإيمان، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن آثار هذا الإيمان لا بد أن تتضح في سلوك المسلم، وهي أن يأمن الناس على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، إذ الإيمان ليس مجرد كلمات تلوكها الألسن، وإنما ما وقر في الصدر وصدقه العمل، والأثر المترتب على التصديق والعمل أن يكون كل كائن حي في الكون في مأمن من أي أذى واعتداء.

والإسلام هو الأركان الخمسة التي بُني الدين عليها، ولكنها تحتاج إلى حقيقة وواقع وآثار، وهي أن يسلم الناس من اللسان واليد.

والهجرة الحقيقية تتجلى في أمرين: الفرار بالدين من بلد إلى آخر، وهجر المعاصي والذنوب.

فالحفاظ على هذه المعاني السامية تشعر المرء بالأخوة الإيمانية التي دعا إليها القرآن الكريم وركز عليها بقول الله تعالى:" إنما المؤمنون إخوة"، وليست الإخوة مد شعارات ترفع أو كلمات تطلق وتسمع، وإنما للأخوة حقوق وواجبات تعلو بها فوق منزلة إخوة النسب، وقد بينها صلى الله عليه وسلم بقوله:" المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، ولا يُسْلمه، بحسب أمر من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله عرضه".

واليوم يؤسفنا أن نقول انتشرت المناهج التي تربي على التمسك بالظاهر دون مبالاة بالباطن، تجعل المسلم شكلاً دون جوهر، وتهتم بالمظاهر دون السلوك، ولقد شكت إليّ أستاذة جامعية في بريطانيا من واقع مأساوي عانته وعايشته، تقول في شكواها: تقدم لخطبتي شاب يرى عليه أثر التقوى والورع والحرص على التمسك بالدين، حتى إنه رفض أن ينظر إلى وجهي في الرؤية الشرعية حين خطبني زاعماً التقوى، ومدعياً الحرص والالتزام، وكان حريصاً على حضور صلاة الجماعة والجمع، وبعد أن انقضى من عمر زواجنا شهران أرسل إليّ ورقة الطلاق قائلاً: لقد أفتاني بعض أهل العلم أننه يجوز لي الزواج بِنِيّة الطلاق، وقد تزوجتك كذلك، وانتهت مهمتي الآن، تألمت المرأة كثيراً وكادت أن ترد عن الإسلام لولا أن ثبتها الله تعالى بعد محاولاتنا إقناعها بأن مثل هذا لا يمثلون الإسلام، ولا يمُتُّون إلى معانيه وجواهره بِصِلة.

هذه المناهج جعلت أساس الإسلام شعارات وطقوساً تُؤدَّى خالية عن القيم الأخلاق، وهي ليست من الإسلام في شيء، وإنما الإسلام هو القناعة وسلوك وعمل ينفع العباد والبلاد، وموازنة بين حقوق الله تعالى وحقوق البشرية كلها دون النظر إلى اللون أو العرق أو الجنس أو الدين، وهذا ما يتجلى في قول النبي صلى الله عليه وسلم:" المسلم من الناس من لسانه ويده".

وعلى هذا ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وهو قدوتنا في ذلك واجب علينا أن نتأسى به وبالرعيل الأول، حتى تتضح معالم الإسلام في أبهى حلة يتجلى للناس منظره، ولقد وصف الله تعال نبينا صلى الله عليه وسلم امتاز به من الخلق العظيم، فقال تعالى: { وإنك على خلق عظيم }، ولم يصفه صلى الله عليه وسلم بكثرة العبادات والمناسك وحسن المظهر.

كما تحدث القرآن عن صفات عباد الرحمن، وجعل مقدمة تلك الصفات أنهم الذين لا يؤذون أحداً، فقال تعالى: { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً }.

لا عبرة في ديننا بكثرة العبادات والطاعات ما لم تظهر آثارها الإيجابية في السلوك والقيم، وما لم تكن تلك العبادات والطاعات مأوى أفئدة الناس بما تحمل من آثار تنعكس إيجاباً وسلباً في خضم الحياة، ولقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة على ذلك، منها ذكر الصحابة  رضي الله عنهم امرأة صوامة قوامة، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال صلى الله عليه وسلم:" هي في النار"، ومنها ما جاء في كتب الحديث أن الله تعالى غفر لبغي في بني إسرائيل في سقي كلب الماء. نحن اليوم بأشد الحاجة إلى إعادة النظر في عباداتنا، فإذا كانت العبادات مجرد طقوس تمارس، وكانت العقيدة مجرد رموز ومصطلحات تكفيرية وتبديعية، فلْنقم على تلك العبادات مأتماً وعويلاً.

أما إذا كانت العبادات جواهر تفجر فينا طاقات الخير لكل من حولنا من إنسان أو بهيمة او حيوان أو بيئة، وكانت تحضنا على الخير وترغبنا فيه فبُشرى لنا بما وعد الله به عباده المتقين.

إن معظم المسلمين اليوم يعطون سورة سيئة عن الإسلام، ما جعل الناس تنفر من الإسلام ولا ترضى به، ومن المواقف التي تظهرنا في صورة سيئة شدة بأسنا فيما بيننا وادعاؤنا الرحمة والرأفة بمن سوانا، كما يحدث في أزمة الخليج التي نعيشها اليوم، لم تراعِ دول الحصار في قطر إلاًّ ولا ذمة، بدؤوا بالكذب والافتراء والاختراق والاختلاق، وحاولوا إيذاء الشعب الذي يعيش على هذه الأرض الطيبة، لقد ابتغوا الفتنة وقلبوا الأمور وزوروا الحقائق، أرادوا تشويه روعة جمال قطر في المحافل الدولية وأمام الرأي العام، ونسوا أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، كم وقفت قطر شعباً وحكومة مع إخوانهم في أزماتهم؟ وكم مدت يد العون والمساعدة إلى كل من شكا أو جار عليه الزمان واعتدى؟ وكم جادت على من عضهم الدهر بِنَابه؟ كم حفظت العهود والمواثيق؟

ألم يعلم من دعا إلى حصار قطر أن الغدر حرام لا يجوز، وأن خيانة العهود والمواثيق ليس من الإسلام ولا من أخلاق المسلمين؟

ألم يقرؤوا في وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:" لا تغدروا"، وهذا في حالة الحرب مع الكفار، أيكون ذلك جائزاً مع المسلمين؟

ألم يطرق سمعهم قول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود }؟

لربما توهموا لحظة ما أنهم على شيء، وأنهم يمثلون الوجه الحق للإسلام، لقد ضلّ سعيهم إذ الإسلام يحرم أذى الجار لجاره ، ويجعل من علامات الإيمان أن يكون الجار في حفظ ومأمن من شرور جاره، قال صلى الله عليه وسلم:" والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قالوا وما ذاك يا رسول الله قال الجار لا يأمن جاره بوائقه قالوا يا رسول الله وما بوائقه قال شره". بل دخول الجنة متوقف على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:" لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه".

وإن من النماذج الدولية التي تقف مع الحق وتظهر بهاء الإسلام وروعته دولة تركيا، حيث تركت مصالحها ووقفت إلى جانب الشعوب التي تنشد الحرية وتتمسك بالمبادئ.

نتألم كثيراً حين نجد في عالمنا الإسلامي بعض بني جلدتنا يحمل معول الهدم في بنياننا المرصوص، يريد أن يمزق وحدة صفنا، ويوهن قوتنا ويشتت شملنا تحت غطاء يدعيه، أو مسمى يختلقه ويبتدعه.

الخطبة الثانية:

إن من أخلاقيات الإسلام الوفاء بالعهود والمواثيق، وإن معظم النكبات التي تعصف بالأمة الإسلامية وتنزل بساحة المسلمين مرجعها إلى عدم التزام بعض الدول بالعهود والمواثيق تجاه قضايا الأمة الإسلامية، مثل قضية فلسطين التي تحولت من القضية الأولى إلى اتهام من يقف معها ويريد حمايتها بالإرهاب، وللأسف من قبل بعض المسلمين.

وهناك قضية أخلاقية إنسانية دينية، ألا وهي قضية سوريا، معظم الدول شجعت الشعب السوري على الثورة، واليوم تركوهم بلا حماية ولا رعاية.

وكذلك اليمن، لم تقدم تلك الدول لها إلا الدمار والتمزيق والفقر والأمراض الفتاكة.

أما العراق فقد ترك وسلم إلى الآخرين يعبثون بمصيره منذ الاحتلال إلى يومنا هذا.

فأين الالتزام بالعهود؟

وأين ميثاق الشرف؟

وأين الكرامة؟

كل هذا يدعو إلى إصلاح النظام السياسي والأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي حتى تنهض الأمة من الحضيض، وتقف في مصاف قادة العالم، بل لتعود الأمة وتقود العالمين، وتستلم عرش الوجود.

اللهم أصلح أحوالنا