أيها الإخوة المؤمنون

حينما تحدثت في الخطبة السابقة عن تفرق أمتنا هذا التفرق الخطير الذي تجاوز المألوف والمعهود في جميع الأمم، جاءني بعد الخطبة أحد الشباب وسألني عن أسباب هذا التفرق بعدما كنا خير أمة أخرجت للناس، ولهذه الأمة كتاب واحد وقِبلة واحدة ومشتركات واحدة، فقلت له هذا ما سأتحدث عنه إن شاء الله في الخطبة اللاحقة.

أسباب هذا التفرق يعود إلى سببين أساسيين، السبب الأول: سبب خارجي يتمثل في أعداء الإسلام من جميع الفرق والأديان والنِحل، هؤلاء لا يريدون لهذا الدين أن يسود العالم، لأي سبب من الأسباب.

وأيضاً أطماع هذه الدول في ثرواتنا الهائلة التي حباها الله سبحانه وتعالى هذه الأمة بها، ولكنها لا تستفيد منها مع الأسف الشديد، حيث تُجمع هذه الثروات العظيمة فيأكل أكثرها الفاسدون في داخلنا والذي يبقى يصرف لأعدائنا من خلال حروب طاحنة مصطنعة، كما حدثت في الحرب الإيرانية العراقية وهي حرب عبثية، وقد صرفت فيها مئات المليارات من الدولارات، ثم تحرير الكويت وما صُرف عليها أيضاً، ثم اليوم كما نشاهد أيضاً حيث تؤخذ هذه الثروات،  وأمتنا فقيرة وهم يعيشون عليها، كما قال الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي: هؤلاء المستعمرون لا يزالون يعيشون على استخدام واستغلال ثلاث قارات لمصلحتهم، آسيا – ما عدا بعض دول كاليابان وغيرها- وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، هذه القارات الثلاث تُستغل وتُستثمر لمصالحهم لبناء حضارتهم المادية ورفاهيتهم.

ذكرنا هذا السبب الخارجي ولكن كما تعلمنا من القرآن الكريم لا يمكن أن نجعل هذا السبب شمّاعة نعلق عليها مشاكلنا، لأن هؤلاء الأعداء هكذا تقتضي مصالحهم، دينهم، فكرهم، عقيدتهم، منافعهم، وثرواتهم في التعامل معنا والسيطرة على بلادنا.

وإنما السبب الأساسي والمهم والذي نحن مكلفون به ومعاقبون عليه إذا لم نقم بواجبه، ألا وهو السبب الداخلي، المتمثل بالأمة الإسلامية، بقادتها وعلمائها وشعوبها وحركاتها وجماعاتها ومفكريها وكل مكوناتها، وهذا ما قاله القرآن الكريم، حينما حدثت غزوة أُحد، والتي استشهد فيها سبعين صحابياً من كبار الصحابة، حيث قال الله سبحانه وتعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ)، حتى في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان سبب الهزيمة -إن صح التعبير- أن خمسين صحابياً حينما تركوا مكانهم على الجبل الذي يمنع المشركين من الوصول إلى ظهور المسلمين، أدى ذلك إلى ما حصل في غزوة أُحد.

حيث سيدور محور خطبتنا حول قضية (هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) على جميع المستويات، الأمة اليوم في خطر شديد. لم تشهد الأمة حسب ما يقوله كثير من المفكرين: إن الأمة لم تشهد مثل هذا الصراع الخطير الذي يهدد وجودها، في أي وقت من الأوقات.

حيث كان هناك رمز للوحدة على أقل تقدير، وكان هنا بعض القوى، كما كان في مصر، حينما نادى قطز في معركة عين جالوت: وا اسلاماه، فانضمت إليه فرق كثيرة وكان سبباً لانتصارهم على المغول والتتار، بعد سنتين فقط من سقوط بغداد.

أما اليوم، لا مصر ولا العراق ولا سوريا ولا اليمن ولا الخليج……. كلها دخلت إليها هذه الفتن ومزقت شر ممزق، بتخطيط الأعداء وبأيدينا أنفسنا، (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ).

 لذلك يجب على المسلمين أن يفكروا في هذه القضية قبل أن يفكروا في أمور أخرى، كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه صاحب العقلية الاستراتيجية التي رباها الرسول صلى الله عليه وسلم، حينما حدثت حروب الردة وانشغال الصحابة بها، قام سيدنا عمر بالتفكير بأمر آخر، حيث إن الكثير من كبار الصحابة القرّاء يستشهدون، حينها نخاف أن يضيع جزء من القرآن، فإن ضاع فما الذي يمكن أن يبقى للإسلام، فأشار على سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، وقاموا فعلاً بتجميع القرآن الكريم على ما يتوفر من أدوات ووسائل وقتها.

التفكير، كيف ننجو؟ هذا هو الأساس.

أعداءنا دخلوا علينا من خلال تفرقنا، يدخلون على هؤلاء ويأخذون منهم الكثير الكثير وعلى هؤلاء أيضاً ويستغلون التفرق الذي بيننا، ثم يضرب بعضنا البعض، وهم يشجعوننا على ذلك، كما شجعوا العراق وقتها على دخول الكويت ثم ضربوها. ثم شجعوا بعض الدول أو بعض الجماعات أو بعض الأعراق، ثم تخلوا عنهم ليقتل المسلمون بعضهم البعض.

هكذا يلعبون بنا جميعاً، العرب والكورد والترك وغيرهم….. لأننا أمة مستضعفة، ونحن مشغولون بأنفسنا.

ذكر الإمام الغزالي إن السبب يعود إلى عدم صلاح النفوس، ووجود الأمراض الخطيرة في النفوس، كما نرى معظم قادة أمتنا -وليس الكل- حيث إن نفوسهم مريضة بمرض الجشع والطمع وعدم الإشباع، يفعل ما يشاء في سبيل الكرسي والحفاظ عليه مهما كان الثمن، وهذا  مدخل خطير للشيطان بنص القرآن الكريم.

حينما تحدث القرآن الكريم عن أبينا آدم عليه السلام وكيف أُخرج من الجنة، حيث أُخرِج بهذين الأمرين وهما البقاء في المُلك والدوام، حيث قال الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم: (يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ).

حيث إن حرص هذا الشخص الرئيس على البقاء بأي ثمن كان على كرسيه، يجعله يضحي بكل ويرضى بالعيش في الذل والهوان، كما نشاهده في معظم الدول وخصوصاً سوريا.

والجميع يشاهدون ما يحدث في سوريا أو شام شريف كما كان يسميه العثمانيون، وما يحدث الآن في الغوطة الشرقية والتي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث ثابتة بأنه سيكون فيها تاريخ إسلامي عظيم.

جميع من فيها مهددون بالموت ويُقتلون اليوم، بسبب عدم وصول الماء والغذاء والدواء إليهم وبسبب القصف الشديد بأقوى وأعتى أنواع الأسلحة، ولا أحد يتكلم. والكل ساكت، وكل ما في الأمر يجتمعون في الأمم المتحدة وينددون فقط ويدينون ولكن دون فعل أي شيء.

دولة كاملة تُدمّر وشعب كامل يضيع ويُقتل …… في سبيل بقاء الرئيس على كرسيه. وما فعله لم يفعله أحد أبداً ومع ذلك فهو يريد البقاء ولايزال باقياً وراضياً بالذل والهوان.

أما الغرب فقد عالجوا هذه القضية علاجاً عملياً، حيث إنهم درسوا علم النفس، ووصلوا إلى نتيجة أن الإنسان يريد الخلد والملك الذي لا ينتهي، كما فعل سيدنا آدم عليه السلام عندما خالف أمر الله سبحانه وتعالى وأكل من تلك الشجرة.

وأنشأوا برلماناً قوياً، وحددوا فترة الرئاسة على فترتين فقط، ولا يمكن أن تتعداها أبداً، حيث قطعوا دابر هذه الفتنة، حيث كما نسميها في أصول الفقه –سدّ الذرائع أو فقه المآلات- فلو طُبِق هذا الأمر الآن، لما وصل المسلمون إلى وصلوا إليه الآن.

ومن أسباب تقدم أوروبا أيضاً، إصلاح النظام السياسي والتعليمي والديني بالنسبة لهم.

وأسباب ما يحدث الآن في منطقتنا، لا معنى لها ولا فائدة منها إلا لخدمة الأعداء.

لا بدّ لأمتنا أن تنهض وتقوم بإزالة أسباب الطمع والجشع والحقد وأن تقوم بإصلاح النفوس، وأن تتم تهيئة الأجيال اللاحقة على صفاء القلوب، على فقه المآلات، على النظر إلى الأبعاد الاستراتيجية، على صناعة قيادة قادرة على قراءة المستقبل من خلال فقه المآلات، على قيادة تنظر إلى مصلحة الأمة قبل أن تنظر إلى مصلحة نفسها، كما فعله الخلفاء الراشدون، حيث كان همهم الوحيد هو الأمة الإسلامية، وكيف ينفعوها، وكانوا يحسون بمسؤوليتهم تجاهها، ليس الإنسان فقط بل على الحيوانات أيضاً وكل ما فيها. حيث إذا تعثرت دابة على نهر الفرات يُسأل عنها عمر، هذا كان إحساسهم بالمسؤولية تجاه أمتهم.

وما ينقصنا أيضاً في تربيتنا الحالية وكما تعرفون كلكم إخوتي الكرام: ثقافة الحوار، حيث أننا نصنع من داخل الدكتاتورية، سواء الوالدان أم الأخ الكبير، وتدخلهم وتصرفهم في البيت، وزجرهم للصغار، بحجة أنهم أكبر وأعلم بمصلحته، ولا يعلمون أن فطرته سليمة أكثر من الأكبر منه. الحوار والإقناع هما ما فقدناه في وقتنا الحاضر.

القرآن الكريم معظمه حوار من بدايته إلى نهايته، الله سبحانه وتعالى الخالق العليم، تحاور مع الملائكة في قضية استخلاف آدم عليه السلام في الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ)، حينها قالت الملائكة: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ ) ولكن الله سبحانه وتعالى، حاورهم وبيّن لهم أسباب ذلك، وأن لهم وظيفتهم وللإنسان وظيفته وهي تعمير الأرض وأن علمهم لدني وهو من عنده سبحانه وتعالى ، وأن آدم عليه السلام أعلم منهم، فاقتنعوا وقاموا بالسجود له.

وأن الله سبحانه وتعالى أيضا قام بالحوار مع إبليس في كثير من المواضع، وكان إبليس يهدد أيضاً (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ومع ذلك فالله سبحانه وتعالى حاوره وأيضاً أعطاه ما طلبه منه (فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، حيث أعطاه حقه في الدنيا وسينال جزاءه في الآخرة.

لذلك ثقافة الحوار مهمة جداً أن نصنعها في نفوسنا وأن نغرسها في قلوب أولادنا من الصغر، وأن نعلمهم على حب المناقشة والحوار. حيث أن الحوار والمناقشة هي التي تبني الرجل وتبني العقل.

لماذا المبدعون قلة في عالمنا الإسلامي؟ لأنه لا يُسمح لهم بالنقاش والحوار، طبعا ليس في كل الدول.

المشكلة أن ثقافتنا الحالية تفرض علينا ذلك وطبعاً هي ليست ثقافة إسلامية، بل هي ثقافة قبلية و بدوية – ليس البدوية الأصالة- بل البدوية التي تأثرت بالعنجهية، أما القبلية والبدوية الأصيلة بالعكس من ذلك، حيث كان سابقاً شيخ القبيلة يجلس ويناقش، وكان أهل الحل والعقد يناقشون.

ومشكلتنا اليوم أننا لا نقبل بثقافة الحوار لذلك نحن رضينا بالذل والخضوع لكل شيء، مادام ليس لدينا أسس ومبادئ.

لذلك علينا بمراجعة تربيتنا وثقافتنا ومعرفتنا وحرصنا على إيجاد الآليات التي تؤدي بنا إلى القوة والنهوض.

الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتدبر آياته (لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)، أي النظر إلى ما وراء الأمور وقراءة الرسالة من كل الجوانب ولا نقف عند ظاهرها فقط بل قراءتها من ظاهرها ومن باطنها وما يتعقب عليها، وهذا ما نسميه بفقه المآلات، ويسميه الغرب بالتحليل السياسي، والاقتصادي، وكل شيء قائم على الدراسات والأبحاث.

وما يحدث عندنا أن الغرب لا يتوقف عن مؤامراته وما يحيكونه لنا ويخططون لبقاء أمتنا في الجهل ولن يتوقفوا أبداً طالما عندنا كما قال مالك بن نبي: قابلية للاستعمار .

 قابلية التفرق، قابلية التمزق فقط في سبيل –ظاهرياً- أن تنتصر كلمتي على كلمة غيري وأن تكون لي قوة عليه، " أسد عليّ وفي الحروب نعامة".

ولكن للأسف لا أحد يستجيب لدعوات الحوار في جل قضايانا. ولذلك كيف لا يستغل الأعداء هذه الأمور؟ ونحن الذين عندنا هذه الثروات الهائلة.

 أسأل الله العلي القدير أن يفرج عن أمتنا وأن ترجع إلى التمسك بمبادئ هذا الدين الحنيف.

 

اللهم أصلح أحوالنا

23 / 2 / 2018م