إن متأخري الحنفية فصلوا في هذا الموضوع ، وذكروا له ثلاثة أنواع نحن نذكرها مع بيان آراء بقية المذاهب الأربعة فيها ، وهي :

 

النوع الأول : الاستجرار بثمن مؤخر دون اتفاق سابق على الثمن وكمية المبيع ، وهو الذي ذكره صاحب الدر المختار ، والرد المحتار ـ كما سبق ـ

  وفي هذا النوع لا يدفع المشتري للبائع ثمناً وإنما يدفعه فيما بعد ، ولكن مع وجود النية ، كما أنه ليس هناك اتفاق أو تفاهم مشترك ، ومع ذلك أجازه متأخرو الحنفية ، والإمام الغزالي من الشافعية ، قال العلامة ابن حجر الهيثمي : ( والاستجرار من بياع باطل اتفاقاً ، أي إلاّ أن قدر الثمن في كل مرة ، على أن الغزالي سامح فيه بناءً على جواز المعاطاة ، وعلى الأصح لا مطالبة بها أي من حيث المال)  وجاء في حاشية الشرواني : ( قال الأوزاعي : وأخذ الحاجات من البياع يقع على ضربين أحدهما أن يقول أعطني بكذا لحماً أو خبزاً مثلاً وهذا هو الغالب فيدفع إليه مطلوبه فيقبضه ويرضى به ثم بعد مدة يحاسبه ويؤدي ما اجتمع عليه فهذا مجزوم بصحته عند من يجوز المعاطاة فيما رآه والثاني ان يلتمس مطلوبه من غير تعرض لثمن كاعطني رطل خبز أو لحم مثلاً فهذا محتمل وهو ما رأى الغزالي اباحته ومنعه المصنف في المجموع فقال انه باطل بلا خلاف لانه ليس ببيع لفظي ولا معاطاة وقوله لانه ليس ببيع لفظي الخ فيه نظر بل يعده الناس بيعاً والغالب ان يكون قدر ثمن الحاجة معلوماً لهما عند الأخذ والعطاء وان لم يتعرضا له لفظاً. انتهى)  .

  وهذا النوع قال ببطلانه المالكية كما جاء في الموطأ : ( فإذا لم يكن في ذلك سعر معلوم ، وقال الرجل : آخذ منك بسعر كل يوم ، فهذا لا يحل ، لأنه غرر يقل مرة ويكثر مرة ، ولم يفترقا على بيع معلوم )  وكذلك قال ببطلانه جمهور الشافعية  .

  وأما الحنابلة فقد أجازوا ذلك في رواية ، ولم يجيزوها في الرواية الأخرى ، حيث جاء في النكت والفوائد لابن مفلح : ( قال أبو داود في مسائله ، باب في الشراء ولا يسمى الثمن ، سمعت أحمد سئل عن الرجل يبعث إلى البقال ، فيأخذ منه الشيئ بعد الشيئ ثم يحاسبه بعد ذلك ؟ قال : أرجو أن لا يكون بذلك بأس ، قال أبو داود : وقيل لأحمد : يكون البيع ساعتئذ ؟ قال : لا . قال الشيخ تقي الدين (ابن تيمية) : وظاهر هذا أنهما اتفقا على الثمن بعد قبض المبيع والتصرف فيه ، وأن البيع لم يكن وقت القبض وإنما وقت التحاسب ، وأن معناه صحة البيع بالسعر ، أي السعر الموجود بيعه به ، وعن مثنى بن جامع عن أحمد في الرجل يبعث إلى محامل له ، ليبعث إليه بثوب ، فيمر به ، فيسأله عن ثمن الثوب فيخبره ، فيقول له اكتبه ، والرجل يأخذ التمر فلا يقطع ثمنه ، ثم يمر بصاحب التمر ، فيقول له اكتب ثمنه  ، فأجازه إذا ثمنه بسعر يوم أخذه ، وهذا صريح في جواز الشراء بثمن وقت القبض لا وقت المحاسبة سواء أذكر ذلك في العقد أم أطلق لفظ الأخذ زمن البيع)  .

  وهذا النقل السابق يدل على أن جواز هذه المسألة يكيف على أساس الرواية القائلة بجواز البيع على أساس سعر السوق ، وهو يسميها الفقهاء : البيع بما ينقطع به السعر ، أو بمثل ما يبيع به الناس ، وهو محل خلاف كبير بين الفقهاء منعه جمهورهم  وأجازه الشافعية في وجه  ، والحنابلة في رواية اختارها شيخ الاسلام ابن تيمية وجماعة من الحنابلة  .

   وقد رجح فضيلة الشيخ تقي العثماني بطلان هذا النوع من الاستجرار بناء على أنه يتضمن محظورين هما :

1)   وقوع الاستهلاك من المشتري قبل الشراء من المالك .

2)   كون محل العقد معدوماً  .

 

  والذي يظهر لي رجحانه هو أن القائلين بالجواز بنوا قولهم هذا ليس على أساس بيع المعدوم ، ولا كونه مستهلكاً قبل الشراء ، وإنما على أساس أن البيع قد تحقق وقت القبض بناءً على العرف ، لذلك فالظاهر القول بصحته في الأشياء البسيطة لوقوع العرف به ، وكما قال المتأخرون استحساناً ، وذلك لأن الأصل هو تصحيح عقود العاقل بقدر الإمكان ، بل إنه في الحقيقة ليس قائماً على العقد ، وإنما على التسامح والتراضي ، ولذلك كان الإمام الغزالي قال بالتسامح فيه بناءً على أن ذلك من المحقرات ، إضافة إلى أن ذلك لا يترتب عليه نزاع ، ولذلك فلا داعي للحكم ببطلانه .

  ومن جانب آخر فإذا لم يصح صح من باب الإبراء والتنازل ، وإسقاط الحق بالتراضي ، لذلك فلا حرج فيه .

  ومن الجدير بالتنبيه عليه حتى على القول بجواز هذا النوع فإنه لا يصلح للتمويل البنكي ، لأنه خاص بالمحقرات التي يتسامح فيها .

 

النوع الثاني : وجود اتفاق أو تفاهم متقدم بين البائع ( صاحب المحل ) والمشتري (المستهلك) على أن يأخذ البضاعة الموجودة في المحل شيئاً فشيئاً بثمن معلوم مؤخر يعطيه المشتري أسبوعياً أو شهرياً أو نحو ذلك ، أو بعبارة أخرى : يأخذ الثمن بعد مجموعة من البياعات .

فهذا النوع يحتمل ما يأتي :

أولاً : أن يتم التفاهم على البيع والشراء في البداية دون تحديد الثمن لكل جزء ، أو لكميته من البضاعة الموجودة في المحل ، ولكن يؤخر تحديد الكمية فقط ، ويؤخر دفع الثمن المتفق عليه وهو الضرب الول الذي ذكره الأوزاعي الشافعي حيث قال : ( وهو أن يقول : أعطني بكذا لحماً أو خبزاً مثلاً … فيدفع إليه مطلوبه فيقبضه ، ويرضى به ، ثم بعد مدة يحاسبه ، ويؤدي ما اجتمع عليه ، فهذا مجزوم بصحته عند من يجوّز المعاطاة )  .

   فهذا النوع جائز ، لأنه يدخل أيضاً من باب البيع بالصيعان ، أي أن يقول : أبيع لك كل صاع ( أو كيلو ) من هذه البضاعة بمبلغ كذا ، وهذا جائز  وبالتالي فالمبيع موجود حاضر معلوم ، وكذلك الثمن محدد ، فلا يضره تأخير الثمن ، جاء في المدونة : ( وسئل عن رجل اشترى ثلاث جنيات من رجل مس حائطه ما استجنى منها فهو له من حساب أربعة أصبح بدينار ، قال : لا بأس بذلك وهو أمر معروف ، وهو مثل أن يقول اشتري منك طعامك هذا كله ، أو حائطك هذا كله ، أو ربعه أصبح بدينار ، لأن السعر قد عرف)  .  

  وجاء في الموسوعة : ( وإذا كان الثمن مفصلاً كما لو قال : كل ذراع بدرهم ، فالزيادة للبائع والنقص عليه ، ولا حاجة للنظر إلى كونه يضره التبعيض ، أو لا )  .

ثانياً : أن يكون البيع مثل السابق ما عدا كون المبيع غائباً عن العاقدين ، ففي هذه الحالة فإما أن يشتري على الوصف الكاشف له فيذكر له من المواصفات ما يرفع به الجهالة المؤدية إلى النزاع فإن العقد صحيح ولازم عند جمهور الفقهاء إذا تحققت في المبيع الصفات المذكورة في العقد ، وإلاّ فيكون للمشتري خيار الوصف ، ولكن الحنفية أعطوا للطرف الذي لم ير المبيع حق خيار الرؤية بقطع النظر عن المطابقة ، ولكن إن تم الشراء على أساس النموذج ولم يختلف المبيع عنه فليس للمشتري خيار رؤية  . 

  وفي رأيي أن كلا النوعين يصلح للتمويل البنكي للمقاولين والمستهلكين من خلال البيع والبيع الموازي إن توافرت الشروط السابقة ، ويمكن أن يكون أساساً جيداًَ لإصدار بطاقات ائتمانية خاصة بالعملاء .

 جاء في الموسوعة الفقهية ضمن استعراضها صور الاستجرار عند الحنفية : ( الصورة الثانية : وهي نفس الصورة الأولى ، لكنها تختلف عنها بالنسبة لمعرفة الثمن ، أي أن الإنسان يأخذ ما يحتاح إليه شيئاً فشيئاً مع العلم بالثمن وقت الأخذ ، ثم يحاسبه بعد ذلك.

  وهذا البيع جائز ولا خلاف في انعقاده ، لأنه كلما أخذ شيئاً انعقد بيعاً بثمنه المعلوم ، ويكون بيعاً بالتعاطي ، والبيع بالتعاطي ينعقد ، سواء أدفع الثمن وقت الأخذ أم تأجل.

  ومثلها في الحكم : ان يدفع الإنسان إلى البياع الدراهم دون أن يقول له : اشتريت ، وجعل يأخذ كل يوم خسمة أرطال مع العلم بثمنها .

  هذا البيع جائز ، وما أكله حلال ، لأنه وإن كانت نيته الشراء وقت الدفع إلاّ أنه لا ينعقد بيعاً بمجرد النية ، وإنما انعقد بيعاً الآن بالتعاطي ، والآن المبيع معلوم فينعقد البيع صحيحاً )  .

 

النوع الثالث : أن يقدم المشتري الثمن فيضع مبلغاً من المال عند البائع (صاحب المحل) ويقول له : اشتريت منك مائة كيلو من الطحين ، وكذا من اللحم … ، فجعل يأخذ كل يوم خمسة كيلوات مثلاً .

  فهذا النوع عند الحنفية فاسد ، وما أكل منه فمكروه ، وذك لجهالة المبيع ، حيث اشتراه دون تحديده بالإشارة .

  وربما فساد هذا النوع يعود إلى تحديد المبيع دون أن يكون موجوداً ، فيكون داخلاً في بيع ما لا يملك ، وبيع المجهول .

أما إذا كان المبيع موجوداً عينه العاقدان فالبيع جائز عند جمهور الفقهاء .

ولذلك فالراجح هو القول بالجواز لعدم وجود موانع تمنع صحة البيع .

 

النوع الرابع : أن يدفع الإنسان مبلغاً محدداً للبياع دون أن يقول له اشتريت ، فجعل يأخذ كل يوم ـ بنفسه أو عن طريق أهله ـ خمسة كيلوات من الطحين ، وخمسة من اللحوم (مثلاً) وهكذا دون تحديد ثمنها ، حيث يحسب من المبلغ المدفوع .

  وهذا النوع أجازه بعض متأخري الحنفية على خلاف بينهم في التكييف : هل هو بيع أجيز استحساناً أم هو قرض مضمون بمثله أو بقيمته ، بناءً على أن البيع لا بدّ منه من التصريح به وأن النية وحدها لا تكفي  ـ كما سبق ـ .

  وهو جائز أيضاً عن المالكية ، فقد ذكر المالكية ثلاث صور جائزة لبيع الاستجرار ، وهي : ( 1ـ أن يضع الإنسان عند البياع دراهم ، ثم يأخذ بجزء معلوم من الدراهم سلعة معلومة وهكذا ، فهذا البيع صحيح ، لأن السلعة معلومة والثمن معلوم .

2ـ أن يضع عند البياع درهماً ، ويقول له : آخذ به منك كذا وكذا من التمر مثلاً ، او كذا وكذا من اللبن أو غير ذلك ، يقدر معه فيه سلعة ما ، ويقدر ثمنها قدرا ما ، ويترك السلعة يأخذها متى شاء ، أو يؤقت لها وقتاً يأخذها فيه ، فهذا البيع جائز أيضاً .

3ـ أن يأخذ الإنسان من البياع ما يحتاج إليه بسعر معلوم ، فيأخذ كل يوم وزناً معلوماً بسعر معلوم ، والثمن إلى أجل معلوم ، أو إلى العطاء إذا كان العطاء معلوماً مأموناً ، فهذا البيع جائز)  .

  وهذه النوع جائز أيضاً عند فقهاء الشافعية القائلين بصحة بيع المعاطاة ـ كما سبق ـ  وهو الراجح عند جماعة منهم فقال الأذرعي ـ في رده على كلام النووي بأن هذا لا يعدّ معاطاةً ولا بيعاً ـ : هذا الكلام فيه نظر ، بل يعده الناس بيعاً ، والغالب أن يكون قدر ثمن الحاجة لهما عند الأخذ والعطاء وإن لم يتعرضا له لفظاً  .

  والحنابلة في رواية كيفوا بيع الاستجرار ـ كما يقول المرداوي ـ على أساس ( البيع بما ينقطع به السعر … واختارها الشيخ  تقي الدين ابن تيمية ، وقال : هو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد)  .

  وهذا النوع أيضاً يمكن الاستفادة منه في التمويلات البنكية من خلال آلية معينة تذكر لها شروطها وضوابطها .