تبين لنا من خلال العرض السابق أن الاستجرار له نوعان أساسيان هما : تقديم الثمن إلى البائع ، أو تأخيره ، ولكل واحد منهما صور ، ونحن نذكر هذه الصور بإيجاز مع إمكانية تطبيقها عن طريق البنوك الإسلامية ، وجعلها من صور التمويل المتاح .

 

النوع الأول : الاستجرار الذي يؤخر فيه المشتري الثمن ، أي أن يدفعه فيما بعد ، وهذا له صور كما ذكرنا ، ونحن هنا نذكر الصور الممكنة للتطبيق .

الصورة الأولى : الاستجرار عن طريق بيع الأشياء المنضبطة بسعر السوق ، دون بيان من البائع ثمن البضاعة عند كل أخذ ، ولكن يتفقان على سعر السوق ، وذلك بأن يكون المبيع يمكن ضبطه بمعيار معلوم ، بحيث لا تتفاوت آحادها ، ولا أسعارها وليست خاضعة للمساومات مثل الصحف اليومية والمجلات .

  والبيع بسعر السوق فيه خلاف كبير منعه الجمهور ـ كما سبق ـ ولكن نحن هنا حددناه بالضوابط السابقة التي تمنع الجهالة المفضية إلى النزاع ، وهذا ما ذكره المحقق ابن همام ، وقيدّ جوازه بعدم التفاوت ، فقال : ( ومما لا يجوز البيع به : البيع بقيمته ، أوبما حلّ به ، أو بما تريد ، أو تحب ، أو برأس ماله ، أو بما اشتراه ، أو بمثل ما اشترى فلان ، لا يجوز ، وكذا لا يجوز بمثل ما يبيع الناس ، إلاّ أن يكون شيئاً لا يتفاوت كالخبز واللحم)  .

  وعلى ضوء ذلك (( ينعقد البيع عند أخذ المشتري المبيع كل مرة إذا كان سعره معروفاً منضبطاً بمعيار معلوم يؤمن معه النزاع في تعيين الثمن))  .

وكذلك الأمر في نظري في كل الأشياء التي تحدد لها الأسعار لمدة زمنية معروفة سواء كان التحديد من الحكومة ، أو من الشركة نفسها .

  فمثلاً لو أن جمعية استهلاكية ( أو سوبر ماركت أو نحوها ) حدد جميع أسعار موجوداتها ، وقالت بأنها لا تتغير خلال ستة أشهر ـ مثلاً ـ فإنه يجوز حينئذ التمويل وإجراء بيع الاستجرار .

والتمويل البنكي يتم من خلال الآلية الآتية :

1ـ اتفاقية بين البنك والجميعة على شراء الكميات المحددة الموجودة في الجمعية أو المخزن ، وهذا جائز ما دام الثمن معلوماً ، والبضاعة موجودة وحتى إذا لم تكن قد رآها العاقدان فإن العقد جائز وكل ما للآخر الذي لم يرها هو خيار الرؤية ، وان لم يدفع البائع الثمن ، لأن الممنوع هو الاتفاق على تأجيل الثمنين .

2ـ ثم القيام ببيع تلك الكميات المشتراة إلى العميل بالمرابحة مباشرة بعد العقد الأول .

3ـ وعد بالشراء مع طلب الشراء .

4ـ وجود توكيل من البنك للعميل باستلام البضاعة نيابة عن البنك ، وتوكيل البنك لأحد الأشخاص الموجودين في الجمعية لبيع البضاعة للعميل مرابحة ، أو أن يتم عن طريق الوكالة مع حق الشراء لنفسه .

5ـ ترتيب العقود والملاحق اللازمة لتوضيح هذه العملية .

 

الصورة الثانية : مثل الصورة الأولى ولكن المبيع مما لا ينضبط بمعيار محدد ، وذلك بأن يكون سعره في السوق يتفاوت تفاوتاً كبيراً ، وبالتالي يمكن أن يقع الاختلاف في تحديده ، فهذا لا يجوز إجراء البيع من قبل ، لأنه بيع فيه جهالة للثمن وكمية المثمن ، بل قد ينطبق عليه بيع المعدوم ، إذا كان المبيع غير موجود وقت العقد .

ولكن إذا تم الايجاب والقبول ، أو المعاطاة عند أخذ الكمية فحينئذ يصح العقد .

 

الصورة الثالثة : الاستجرار عن طريق بيع المعاطاة  ، وذلك يتم من خلال تفاهم مشترك بين المشتري (البنك) والبائع (صاحب المحل ، مثل سوبر ماركت أو نحوه) حيث يبين البائع ثمن البضاعة المأخوذة ، كلما يأخذ منه المشتري ، فالبيع ينعقد صحيحاً عند كل أخذ ، وهذا بإجماع من يقول بجواز التعاطي ، وتقع تصفية الحساب بعد أخذ مجموعة من المبيعات  ، علماً بأن القائلين بجواز المعاطاة هم : الحنفية ـ ما عدا الكرخي ـ والمالكية ، والحنابلة ـ ما عدا القاضي ـ وبعض كبار علماء الشافعية  .

وآلية هذه الصورة كالآتي :

1ـ التفاهم المشترك أولاً بين البنك والجمعية الاستهلاكية ( أو سوبر ماركت مثلاً ) على أن كل من يأتي من طرف البنك وكيلاً عنه يأخذ البضاعة بثمنها عن طريق (المعاطاة) .

2ـ ترتيب وكالة للعميل بالشراء لصالح البنك .

3ـ وعد بالشراء مع الطلب .

4ـ قيام العميل بالاتصال بمندوب البنك لاتمام الصفقة الثانية قبل استهلاك المبيع.

  ويمكن الاستغناء عن الفقرة الأخيرة إذا تمت الوكالة على أساس الوكالة ، ثم الشراء لنفسه مباشرة بعد إتمام الصفقة الأولى ، وشراء الوكيل لنفسه جائز عند مالك والأوزاعي وأحمد في رواية  وذلك بأن يقول : بعت وكالة عن البنك البضاعة لنفسي بمبلغ كذا ، وقبلتها .

5ـ ترتيب العقود والملاحق المطلوبة

 

النوع الثاني : الاستجرار مع تقديم مبلغ من المال أي أن المشتري يقدم مبلغاً من المال عند البائع .

وهذا النوع يحتمل حالتين :

 

الحالة الأولى : أن يضع الشخص مبلغاً من المال عند صاحب المحل ليأخذ بدله من البضائع الموجودة لديه شيئاً فشيئاً ، وبعبارة أخرى : لا يتفقان على جعل المبلغ ثمناً ، وإنما يكون تحت الحساب ، وهو يكيف على أساس الأمانة ، أو القرض المشروط للبيع حسب النية والاتفاق .

  وفي هذه الحالة يتم البيع عند أخذ المشتري البضاعة التي حدد ثمنها البائع عند البيع ، وبسعرها المعروف عند البيع ، وبالتالي فإن المبلغ المذكور ان كان أمانة فيأخذ البائع منه بقدر ما باعه ، أو بعد عدة صفقات ، وإن كان قرضاً فتقع المقاصة بين الثمن وبين الدين الموجود في الذمة .

  فإذا تم ذلك دون الايجاب والقبول اللفظيين أو المكتوبين فيكون بيع المعاطاة ، وإلاّ فيكون البيع العادي .

وآلية التمويل البنكي تتم كالآتي :

1ـ تفاهم مشترك مع وضع البنك مبلغ مائة ألف ريال مثلاً عند المحل تحت الحساب لشراء بضاعة معينة ، أو عدد منها .

2ـ طلب بالشراء مع الوعد من العميل بالشراء.

3ـ قيام البنك بتوكيل العميل لشراء البضاعة من المحل نيابة عنه .

4ـ اتصال العميل بمندوب البنك لشراء البضاعة .

  ويمكن الاستغناء عن الفقرة الأخيرة إذا كانت الوكالة تتضمن حق الشراء من النفس    ـ كما سبق ـ .

 

الحالة الثانية : أن يضع البنك المبلغ كثمن للبضاعة وذلك بأن يتم الاتفاق بيه وبين صاحب المحل على شراء ألف طن مثلاً من الاسمنت الموجود كله عنده ، وهذا بيع صحيح لا خلاف في جوازه إذا تمت رؤيته ، وإنما الخلاف في بيع الغائب الموصوف ، وهذا أيضاً جائز على الراجح مع خيار الرؤية  ، ثم بعد حيازته الحيازة الشرعية ، يبيعها للعميل عن طريق المرابحة أو المساومة ، ويستلمها العميل شيئاً فشيئاً ، وليس كلامنا في هذه الصورة.

وإنما نذكر صورتين أخريين ، وهما :

 

الصورة الأولى : أن لا يكون المبيع كله موجوداً وقت العقد ، وفي هذه الحالة يكون الحلّ عقد السلم حيث يتم فيه وصف المبيع وصفاً نافياً للجهالة مع دفع الثمن في مجلس العقد ، أو خلال ثلاثة أيام عند المالكية  .

 

الصورة الثانية : أن يكون بعضه موجوداً ويراه المشتري ، ويتم البيع للباقي على أساس الانموذج الذي يعبر عن الجميع ، فإن ذلك أيضاً جائز عند جمهور الفقهاء على تفصيل فيما بينهم  .    

 

هذا والله أعلم بالصواب ، وهو الموفق الهادي إلى الصواب

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين