الاستجرار لغة : مصدر استجرّ ، وأصله من جرّ ، فيقال : جرّت الماشية جرّاً : أي رعت وهي تسير ، ويقال : اجترّ البعير : أي أخرج جرّته ، والشيء : جذبه : والجريرة : ما يجرّه الإنسان من ذنب ، ويقال كذلك استجرّ المال إذا أخذه شيئاً فشيئاً  .

 

   والاستجرار في اصطلاح الفقهاء المتأخرين هو أن يتفق أو يتفاهم شخص مع صاحب دكان (محل تجاري) أن يأخذ منه بنفسه أو عن طريق أهله حاجاته شيئاً فشيئاً دون مساومة ، ولا ايجاب وقبول في كل مرة ، ولا تحديد للثمن على أن يتم دفع الثمن في آخر الأسبوع أو الشهر ، أو نحوهما ، أو أن يعطيه المشتري مبلغاً من المال ليأخذ منه البائع كلما أعطى له أو لمن ينوبه شيئاً ، وقد لا يكون هناك اتفاق ، وإنما يعتمد على النية والعرف  .

 

صُوَرُهُ لدى الفقهاء :

  وحتى تتضح الصورة أكثر نذكر ما جاء في الدر المختار : ( ما يستجرّه  الإنسان من البياع إذا حاسبه على أثمانها بعد استهلاكها جازا استحساناً )  .

  وعلق عليه ابن عابدين ، وذكر لجوازه عدة تخريجات فقهية ، نذكرها لأهميتها ، ثم نعلق عليها ، حيث قال : ( ذكر في البحر أن من شرائط المعقود عليه أن يكون موجوداً فلم ينعقد بيع المعدوم ، ثم قال ومما تسامحوا فيه وأخرجوه عن هذه القاعدة ما في القنية الأشياء التي تؤخذ من البياع على وجه الخرج كما هو العادة من غير بيع كالعدس والملح والزيت ونحوها ثم اشتراها بعدما انعدمت صح ا هـ فيجوز بيع المعدوم هنا ا هـ وقال بعض الفضلاء ليس هذا بيع معدوم إنما هو من باب ضمان المتلفات بإذن مالكها عرفاً تسهيلاً للأمر ودفعاً للحرج كما هو العادة وفيه ان الضمان بالاذن بما لا يعرف في كلام الفقهاء (حموى) وفيه أيضاً ضمان المثليات بالمثل لا بالقيمة والقيميات بالقيمة لا بالثمن (ط) قلت : كل هذا قياس وقد علمت أن المسألة استحسان ويمكن تخريجها على قرض الأعيان ويكون ضمانها بالثمن استحساناً وكذا حل الانتفاع في الأشياء القيمية لان قرضها فاسد لا يحل الانتفاع به وان ملكت بالقبض ، وخرّجها في النهر على كون المأخوذ من العدس بيعاً بالتعاطي وانه لا يحتاج في مثله إلى بيان الثمن المعلوم لانه معلوم اهـ واعترضه الحموي بأن اثمان هذه تختلف فيفضى إلى المنازعة اهـ قلت ما في النهر مبني على أن الثمن معلوم لكنه على هذا لا يكون من بيع المعدوم بل كلما أخذ شيئاً انعقد بيعاً بثمنه المعلوم قال في الولوا الجية : دفع دراهم إلى خباز فقال اشتريت منك مائة منّ من خبز وجعل يأخذ كل يوم خمسة أمناء فالبيع فاسد وما أكل فهو مكروه لانه اشترى خبزاً غير مشار إليه فكان المبيع مجهولاً ولو أعطاه الدراهم وجعل يأخذ منه كل يوم خمسة أمناء ولم يقل في الابتداء اشتريت منك يجوز وهذا حلال وان كان نيته وقت الدفع الشراء لانه بمجرد النية لا ينعقد البيع وإنما ينعقد البيع الآن بالتعاطي والآن المبيع معلوم فينعقد البيع صحيحاً اهـ  قلت ووجهه أن ثمن الخبز ملعوم فإذا انعقد بيعاً بالتعاطي وقت الأخذ مع دفع الثمن قبله فكذا إذا تأخر دفع الثمن بالأولى وهذا ظاهر فيما كان ثمنه معلوماً وقت الأخذ مثل الخبز واللحم أما إذا كان ثمنه مجهولاً فإنه وقت الأخذ لا ينعقد بيعاً بالتعاطي لجهالة الثمن فإذا تصرف فيه الآخذ وقد دفعه البياع برضاه بالدفع وبالتصرف فيه على وجه التعويض عنه لم ينعقد بيعاً وإن كان على نية البيع لما علمت من أن البيع لا ينعقد بالنية فيكون شبيه القرض المضمون بمثله أو بقيمته فإذا توافقا على شيء بدل المثل أو القيمة برئت ذمة الآخذ لكن يبقى الاشكال في جواز التصرف فيه إذا كان قيمياً فإن قرض القيمي لا يصح فيكون تصحيحه هنا استحساناً كقرض الخبز والخميرة ويمكن تخريجه على الهبة بشرط العوض أو على المقبوض على سوم الشراء ثم رأيته في الأشباه في القول في مثل المثل حيث قال ومنها لو أخذ من الأرز والعدس وما أشبهه وقد كان دفع إليه ديناراً مثلاً لينفق عليه ثم اختصما بعد ذلك في قيمته هل تعتبر قيمته يوم الأخذ أو يوم الخصومة قال في التتمة تعتبر يوم الأخذ قيل له لو لم يكن دفع إليه شيئاً بل كان يأخذ منه على أن يدفع إليه ثمن ما يجتمع عنده قال يعتبر وقت الأخذ لانه سوم حين ذكر الثمن اهـ)  .  

 

فقد ذكر ابن عابدين لتخريج جواز الاستجرار عدة تخريجات :

التخريج الأول : على أساس البيع مع التسامح في كون المعقود عليه معدوماً استحساناً قائماً على العرف ، والمبرر له هو رفع الحرج ، وأنه من الأمور اليسيرة التي تغتفر في مثلها .

التخريج الثاني : انه من باب ضمان المتلفات بإذن مالكها عرفاً تسهيلاً للأمر ، ودفعاً للحرج ، ولكن هذا التخريج معيب ، لأن هذا النوع من الضمان لم يعرف عند الفقهاء ، ولا جرى به اتفاق الطرفين ، بل تم اتفاقهم العرفي على أساس البيع ، إضافة إلى أنه لو كان ضماناً لاحتاج في تقديره إلى خبير ، والحقيقة أنه لا يمكن تطبيق قواعد الضمان عليه وبالتالي فهو بيع جائز استحساناً ـ كما سبق ـ .

التخريج الثالث : تخريج المسألة على قرض الأعيان ويكون ضمانها بالثمن استحساناً ، وهذا التخريج يرد عليه ما ذكرناه سابقاً .

التخريج الرابع : تخريجها على أساس البيع بالتعاطي ، وانه لا يحتاج في مثله إلي بيان الثمن ، لانه معلوم .

  وهذا التخريج مبني على أن الثمن معلوم ، وأنه ليس من باب بيع المعدوم ، حيث أنه وارد على أنه كلما أخذ شيئاً انعقد بيعاً بثمنه المعلوم ، وقد اعترض عليه بأن هذه الأشياء تختلف ، وبالتالي تفضي إلى المنازعة ، وحينئذٍ أصبح فاسداً للجهالة الكبيرة .

  والجواب عن ذلك أن الثمن معلوم حسب العرف ، وفي عرفنا الحاضر فإن أثمان السلع معروفة حسب التسعيرة المقيدة لكل بضاعة ، وبالتالي فلا يؤدي إلى النزاع ، وحينئذ فلا تعتبر الجهالة فاحشة (كبيرة) .