أيها الإخوة المؤمنون
إذا نظرنا إلى حال أمتنا الإسلامية اليوم، لوجدناها أكثر الأمم -على أقل التقدير- تفرقاً، وتمزقاً، واختلافاً، وفرقة، و ظلماً، وعدواناً على بعض، وكراهية لبعضهم البعض، على الرغم من أن الله سبحانه وتعالى أكرمهم بهذه الرسالة العظيمة، وبهذا الإيمان العظيم، وأكرمهم بهذه التجربة الفريدة، تجربة رسول الله ، التي نجحت وتابعها الخلفاء الراشدون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إذاً أين الخلل؟ لماذا هذه الأمة المؤمنة المسلمة – والتي لها قبلة واحدة ورسالة واحدة وقرآن واحد وسُنَّة واحدة – لماذا هذه الخلافات والتفرق والتمزق والكراهية والقتل والقسوة التي نشاهدها، ولو تدبرنا القرآن الكريم لوجدنا أن الخلل يعود إلى خلل كائن في التربية، وأن هذا الخلل يكمن في عدم اهتمامنا بتربية الأمة، وبناء الفرد والأسرة والجماعة، على أساس المحبة والحب لله وحب المؤمنين وحب الناس جميعاً.
الإيمان موجود والناس يصلون ويزكون وهناك صحوة طيبة، وحتى الذين يقاتلون الآخرين ويكرهون المؤمنين، قد تجدهم يصلون، وقد تجدونهم يسمون أنفسهم مجاهدين، بل في نظرهم أنهم يقيمون دولة الإسلام، وهذا الإيمان لم يمنعهم من كل هذه الأعمال. إذاً أين الخلل؟.
الإيمان يكون إيماناً حقيقياً إذا بُنِيَ على أساس الحب والمحبة، وليس المقصود كما فهم البعض بأن الحب في الله والكره في الله أنْ نكره كل من يفسق ويفجر في نظرنا، ليس هذا المقصود أبداً، إنما الحب الذي يريده الله سبحانه وتعالى ورسوله أن يجمع الأمة، الحب هو الرابط، وأكسير الحياة الذي يجمع الناس كافة.
يقول الرسول ( أوثق الإيمان الحب في الله والبغض في الله ) هذه المحبة وجدت عند البعض بمفهوم خاطئ، فحرفت مدار هذه الكلمة، ووجهت بوصلتها إلى مكان غير صحيح، وضيقت دائرة هذه المحبة حتى تحول هذا الحب إلى كراهية من يخالفنا، ثم جعلوا له تأصيلاً شرعياً بفسق أو فجور الآخر.
ولكن الله يبين لنا أن المؤمن يحب حتى للكافر ما يحبه لنفسه، هذا مقتضى قوله تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
المؤمن يحب للكافر كما كان الرسول ، فأبو جهل يعذبه بالنهار، ويفعل معه ما يفعل، والرسول يدعو له بالليل ( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) ( اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون) نحن حولنا هذه المحبة إلى صراعات من خلال مفهوم خاطئ للولاء والبراء، ولقضية الحب في الله والبغض في الله.
لو تدبرنا القرآن الكريم ونظرنا الى تربية الرسول على هذا الأساس، لوصلنا إلى الرابط الذي يربط الإنسان بهذا الكون هو أن الله خلق الإنسان لتعمير الكون، فيجب أن تحبه وتفعل في هذا الكون ما يحبه الله، ولا يمكن أن تُتحقق هذا الرابط بين المؤمنين، ولا بين من يشاركنا الإنسانية، ولا بين من يشاركنا الحياة في البيئة و أحضان الطبيعة إلا من خلال هذه المحبة التي هي الأساس، والحب هو أساس حتى للإيمان فلا قيمه لإيمان بدونه (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين) .
وقد ربى الرسول أمته على هذه المحبة، والله وصفه بأنه كان محباً للناس ولذلك أحبه الناس (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، فهذه كلها مبنية على المحبة لله على تربية الإنسان الناحج، والعبد الذي يستحق أن يكون خليفة على الأرض، ويكون إنساناً مبدعاً، و لا يمكن أن يكون شخصاً مبغِظاً كارهاً حقوداً ويبني، بل هذا الشخص يهدم فصناعة الحياة لا تبنى إلا على المحبة والحب.
وهؤلاء الظلمة والطواغيت كلهم من جانب العلم النفسي يعانون من مشكلة كرههم للناس، وحب الذات فقط، و يكرهون ما عدا ذلك إلا إذا سخروا لأنفسهم كل شيء مداره إلى الذات، وبذلك فعلوا ما فعلوا، بينما الإسلام يريد أن تبدأ من حبك لله إلى حب جميع مخلوقات الله، فالإنسان الذي يحب شخصاً يحب مصنوعه، ولله المثل الأعلى، فكيف أحب الله ولا أحب مخلوقاته ومصنوعاته، وممن صنعه الكافر والمسلم والوثني واليهودي والنصراني، ثم تأتي مسألة الكراهية لأعمالهم وتصرفاتهم، ففي العقيدة الصحيحة نحن لا نكره الكافر لذاته، إنما نكره الكفر والفسوق والفجور، ونتمنى لهذا الكافر مهما كان أن يكون مثلنا في حب الله، كما كان الرسول يدعو لأبي جهل، لأنه هكذا تبنى الحضارة.
الغرب استطاع أن يربي الصغار في مراحله المبتدئة على حب المواطنة، لذلك هم يصنعون مواطنين صالحين لأنفسهم، ونحن في الإسلام يجب أن نصنع الإنسان الصالح في كل مكان، في وطنه الصغير، والكبير، وكذلك للإنسانية جميعاً، ولذلك لا يختلف المسلم في أوروبا في تصرفاته وفي سلوكياته فيما لو كان في مكة المكرمة ( اتق الله حيثما كنت).
تشدد القرآن الكريم في مسألة الحب في الله، وحذر من غلبة حب الأموال والتجارة؛ لأنه يؤدي إلى فتنة ( فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) فحين يُغَلَّب حب المال والجاه على حب الله ورسوله ودينه تنحل عرى الإيمان، وتضعف وشائجه، ولذلك ختم الله الآية بقوله: { والله لا يهدي القوم الفاسقين }، فحب الله وحب رسوله هو المنطلق الأساس لحب ما خلقه الله من الكائنات والموجودات ومن كل ما له حق علينا.
والإسلام يقوم على أساس الحقوق المتقابلة، فكل من أدى لك شيئاً فله حق عليك، كما في حديث معاذ ، حينما بين الرسول حق الله على عباده، وبَيَّن حق العباد على الله، والله هو الخالق، وهو الرازق وهو الذي وفقنا، ولكن بمنه وفضله أوجب عل نفسه حقاً، حتى نعلم بأنه ما من حق إلا ويقابله واجب أو حق آخر، وبالتالي الإنسانية جميعاً لهم حق علينا وللطبيعة حق علينا أيضاً.
هذه هي العقيدة الإسلامية التي تبنى عليها عقيدة الفرد، وتبنى عليها المحبة، فيحب المؤمن الأشجار ولا يقطعها حتى في الحروب، ويحب البيئة ولا يفسد فيها، أما هؤلاء الظالمون وهؤلاء الطواغيت فحالهم كما وصفهم قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) هذه هي وظيفة الطغيان، وفي مقابله المؤمن إذا عمل في الأرض، يعمر، وينشئ، ويحافظ النسل من ضمن ما يسمى بالكليات الأساسية في الإسلام.
نجد القرآن الكريم وكذلك النسة النبوية المشرفة يركز تركيزاً شديداً على هذه المحبة، داخل الأسرة المسلمة، وداخل المجتمع الإسلامي، حتى وصل الأمر في المحبة إلى أن من يذكر أخاه لله سبحانه وتعالى يكون في ظل عرش أو في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، كما في الحديث الصحيح، ويكون في مرتبة عالية جداً فوق مرتبة الشهداء.
ومن ثم ينطلق المسلم من حبه المسلمين إلى محبة بقية الناس، نحب لهم الخير، ونحب لهم الهداية، وبيننا تعاون مشترك، كما قال سيدنا علي حينما أرسل رسالته إلى مالك النخعي في مصر قال: هؤلاء إما أخ لك في الإسلام أو نظير لك في الإنسانية، والقرآن الكريم استعمل كلمة الأخ لغير المسلمين في أكثر من آية ( إلى ثمود أخاهم هودا) فهذه الإخوة أخوة إنسانية، وهذه الإخوة لها حقوق، في أن نحبهم، وأن نساعدهم، ولا نتعامل بكراهية إلا للأعمال ولا نواجه إلا المعتدين .
لو طبقنا ما يريده الله منا من إيثار المحبة في الله، لاقتضى ذلك أن يكون المسلمون جميعاً على أحد المرحلتين. المرحلة الأولى والعظمى والأسمى: أن نصل إلى الإيثار ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)، فهذه قمة الحب والإيمان والأخوة، ولذلك كان الصحابة يؤثرون على أنفسهم لو كانت بهم حاجة شديدة.
المرحلة الثانية: أن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). فإما الإيثار أو المِثل، وإلا فلست مؤمناً حقيقياً.
أما اليوم فقد تجد المسلمين وبينهم الكراهية، ويشمت بعضهم ببعض، فانظر إلى مصر قسموا الشعب إلى شعبين، وهم مسلمون جميعاً، ولا أقول بين المسلمين والأقباط أبداً، بل بين المسلمين أنفسهم، فشعب مع السيسي وشعب مع مرسي، فالذي مع السيسي يجوز له قتل الآخرين، ولا يجوز للآخر أن يعيش، بل يجب أن يقتل، أو يصلب، أو تقطع يداه، وأرجله، وأن يجتث من الأرض، هذا ما يحدث في مصر، فما من مظاهرة إلا ويقتل أو يجرح فيها عدد أقله اثنان أو ثلاثة.
لا يمكن أن تبنى مصر على هذه الكراهية، ولا يمكن أن تبنى العراق ولا سوريا ولا أي بلد آخر.
وهناك شماتة كبيرة جداً، فليست هذه الشماتة من شيم الإنسان المسلم، ولا الإنسان المحترم، حتى لا تجوز الشماتة بالعدو، فمال بالك بالأصدقاء.
هذا البلد قطر ليست له أجندة، وما يعمل من أجل المضطهدين إلا بدافع من شهامتها، ودفاعها عن الشعوب العربية والإسلامية، وبدافع الواجب الديني، وبدافع الأمن الواحد، أنه إذا وجد الشقاق والنفاق في الدول العربية فقد يصلنا هذا الشقاق والنفاق.
فانظر ما ينال قطر بسبب مواقفه مع العدل، ومع الشعوب، ومع إرادة الشعوب من شماتة لمجرد أنبوبة غاز تفجرت، والتي أدت إلى قتلى وجرحى، والذي أحزننا كثيراً، وندعو الله أن يجعلهم شهداء، حسب الأحاديث، التي ذكرها السيوطي في كتابه أسباب السعادة في أنواع الشهادة، فيجعل الذين يموتون بالحرق والغرق شهداء، فندعو الله لهم، وأن يشفي هؤلاء الجرحى فأي إنسانية هذا؟ وأي محبة وإيمان؟ هؤلاء القتلى ليسوا في حرب، وإنما أناس أبرياء .
أتيت بمصر كمثال، ولكن الذي يحدث في العراق، أو في سوريا، أو في لبنان بني على هذه الكراهية، وهم يدعون الإسلام.
وداعش التي تدعي أنها دولة إسلامية، وهي ليست كذلك، وما هكذا تفعل الدولة الإسلامية، بل دولة مخترقة من المخابرات العالمية والأنظمة الطائفية والبعثيين وأنصار بشار، وإلا كيف يعقل أن يقتلوا المجاهدين من ورائهم، بينما المجاهدون يقاتلون النظام الأسدي في الصفوف الأمامية، وداعش تدّعى الإسلام، وكأنه الإسلام تجارة يتاجرون بها .
الخطبة الثانية
لو طبقنا هذا الحديث النبوي الشريف، ولا أقول قضية الإيثار، لأن معظمنا بعيد عن هذا الإيثار، ولكن لو طبق عامة المسلمين هذا الشرط الأساسي للإيمان لما وصلت حالنا إلى هذه المرحلة ( لا يحب أحكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
الآن هناك لاجئون في سوريا، وهم كرماء، فكيف حالهم الآن؟ إذا ما الذي بذلنا من أجلهم؟ ولا سمح الله قد يحدث لنا ما حدث لهم، يذكر الشيخ علي الطنطاوي في بداية حرب الفلسطينين مع العصابات الصهيونية، فكان هناك شخص غني، والمجاهدون كانوا بحاجة إلى أموال، فيقول الشيخ: جمعت أغنياءهم وأتى بعضهم ودفعوا ما استطاعوا للمجاهدين، والذين لم يحضروا ذهبت إليهم، فمنهم من أبى بحجج واهية، فلم يعيروا المسألة أي اهتمام، ولما حدث ما حدث من احتلال فلسطين في 48، وجدت أحد هؤلاء الأغنياء في سوريا، وهو يحاول أن يفر مني ، ثم أتاني وهو يبكي، وقال: إن اليهود أخذوا كل مالي، وأنه الآن لا يملك ما يغطي به نفسه.
أساس ديننا المحبة، وقد ينكر البعض علينا إذا تكلمنا عن الحب، ويضيق الحب إما في دائرة غير صحيحة أو في دائرة حب غير شرعي، فالحب الذي نريده هو ما يؤدي إلى التجمع والتآلف، ونربي أولادنا على هذه المحبة.