أولاً : العلاج الجين ، من منظور الفقه الإسلامي

مقدمة

إن العالم اليوم يسير بسرعة هائلة نحو الاكتشافات العلمية العظيمة في شتى مجالات الحياة بل تقفز قفزات كبيرة على مختلف الأصعدة ، وأصبح يعيش ثورات بيولوجية هائلة وثورات في عالم الالكترونيات والكومبيوترات ، والانترنيت ، والاتصالات ، فما تمّ إنجازه خلال العقود الأخيرة قد يعادل جميع الإنجازات العلمية التي تحققت في القرون السابقة .

وقد خطا العلم خَطوات كبيرة في عالم الخلايا والجينات حتى اكتشفت الخريطة الجينية للإنسان ما يقرب من سنتين ، وبذلك قد فتحت آفاق جديدة وانتصارات عظيمة على كثير مما تعانيه البشرية ، حيث يمكن عن طريقها التعرف على كثير من أمراض صاحب الخريطة وصفاته ، واكتشاف أمراض الجينات ، وعاهات الأجنة في وقت مبكر ، إضافة إلى تحسين الإنتاج وتكثيره في عالم النبات والحيوان ، والاستفادة منها لزراعة الأعضاء ونحوها .

والبحوث والمختبرات العليمة قد خَطت خُطوات متقدمة نحو العلاج الجيني عن طريق إصلاح هذه الجينات ، أو استئصال الجين المسبب للمرض وتغييره بجين سليم ، ومع هذا التقدم الكبير يقول العلماء : إنه لم يكتشف من أسرار DNA سوى 10% وصدق قوله تعالى : ( وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا )[1] .

وبما أن الشريعة الإسلامية خالدة ودائمة وشاملة فإنها استطاعت بنصوصها العامة ومبادئها الكلية وقواعدها وضوابطها أن تستجيب لكل المستجدات وتحل جميع المشاكل وتضع لها الضوابط التي تحقق المصالح وتدرأ المفاسد.

وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية النظر والبحث في أسرار النفس الإنسانية والكون كله ، فقال تعالى : ( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فوربّ السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون )[2] . بل بيّن الله تعالى أنه يريهم آيات وأسراراً عن النفس ، والكون يوماً بعد يوم حتى يتبين لهم أن الله هو الحق المطلق ، وأن قرآنه صدق لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لأنه تنـزيل من عزيز حكيم حميد فقال تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد )[3] .

وحقاً إنه مع التقدم العلمي الرهيب وكل مجالات الكون والإنسان والحياة لم يظهر أي تناقض بين قول إلهي ثابت في الكتاب والسنة الصحيحة وبين قاعدة وحقيقية علمية ثابتة ، بل إن القرآن الكريم قد تطرق إلى مجموعة من الحقائق العلمية اكتشف بعضها العلم الحديث فوجدها في غاية من الدقة سواء كانت في مجال مراحل الأجنة وكيفية خلقها ، أو في مجالات كيفية خلق الكون ، وأصله وعناصره الأساسية ونحو ذلك ، وهذا دليل آخر على وجود الله تعالى وصدق رسالته .

وكما كانت آيات الله تعالى سبقت العلم الحديث في كشفها حقائق علمية وأسرار النفس ، فإن شريعته كذلك قادرة على التواصل مع هذه الحقائق ، وذلك لأن كل ذلك يعود إلى أمر الله تعالى الشامل للأمر التكويني ، والأمر القولي ، ولذلك لم تجد الأمة الإسلامية منذ نـزول هذه الشريعة مشكلة استعصت عن الحل والعلاج الناجح على الرغم من اختلاف الحضارات التي قابلها الإسلام ، وعلى الرغم من تقدم العلوم وظهور المشاكل المعاصرة ، وهذا دليل آخر على صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان ، وعلى شموليتها وقدرتها على البقاء والاستمرار ، ومواكبة العصر مهما تطور وتقدم .

ونحن في هذه الدراسة المتواضعة نلقي الأضواء على موضوع جديد جداً وهو ( العلاج الجيني ـ من منظور الفقه الإسلامي ) حيث نتطرق إلى التعريف بالعلاج الجيني ، وأنواعه ، والحكم الشرعي للعلاج الجيني وأنواعه ، والآثار السلبية الاجتماعية والأخلاقية وكيفية تفاديها ، والضوابط الشرعية للعلاج الجيني ، والله نسأل أن يكتب لنا التوفيق والسداد ويجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم إنه مولانا فنعم المولى ونعم النصير .

اعلى الصفحة

تمهيد :

أراد الله تعالى للإنسان أن يكون خليفة في الأرض من دون الملائكة وغيرهم أجمعين ليعمر هذا الكون ، فقال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة )[4] ولما استفسر الملائكة عن أسباب هذا الاختيار مستغربين من اختيار هذا الصنف الذي يقع منهم الكفر والعصيان ، والقتل وسفك الدم، والفساد … أجاب الله تعالى بقوله : ( إني أعلم ما لا تعلمون )[5] ثم علم آدم الأسماء كلها ، فتبيّن من ذلك أن أحد أسباب هذا الاختيار يعود إلى أن الله تعالى أعطى لهذا المخلوق عقلاً قادراً على التعلم والاكتشاف والاستنباط ، وبهذا ميّزه عن سائر المخلوقات ، ومن ذلك اليوم الذي نـزل فيه آدم على الأرض ظل يبحث عن معرفة نفسه ومحيطه ، وتطوير عقله ومعارفه وعلومه ، وأصبح يميط كل يوم لثاماً ويكتشف في كل ساعة أسراراً ، فاستطاع أن يفك أسرار الحروف ويفهم الكتاب المقروء ، كما بذل كل جهده لفك أسرار الكون الذي هو في حقيقته كتاب كامل عظيم معقد يحتوي من الأسرار مالا يعدُّ ولا يحصى ، بل حينما التفت نحو نفسه التي هي أقرب الأشياء إليه وجدها أيضاً تحتوي من الأسرار والغرائب التي يعجز اللسان عن التعبير عنها .

وظل الإنسان كادحاً مجاهداً باحثاً عن الحقائق الكونية والشرعية ، كاشفاً في كل يوم عن بعض الحقائق ، ساعد في ذلك الوحي الإلهي ولا سيما في صورته الأخيرة المتمثلة بالإسلام ، حيث وضعه على الطريق الصحيح ليس على نطاق أمور الدين ، بل حتى في نطاق اكتشاف أسرار النفس والكون ، لذلك سار المسلمون على المنهج التجريبي الذي قفز بالحضارة والعلوم قفزة هائلة ، ثم أصابهم الجمود ، فجاء دور الغربيين فبنوا على هذا المنهج التجريبي الكثير ، ودفعوا بالعلوم إلى مراحل متطورة نستطيع القول بأن ما حصل عليه الإنسان من العلوم والإبداعات في القرن الأخير يزيد على كل ما حصل عليه في تأريخه الطويل بل إن المعرفة الإنسانية في العقود الأخيرة تتضاعف كل خمس سنوات ، فمن عصر الثورة الصناعية إلى عصر ثورة المعلوماتية ، إلى عصر الكومبيوترات والانترنيت وثورة الاتصالات .

قراءة حروف الإنسان:

ومما أولى له العلم الحديث اهتمامه الكبير هو البحث عن قراءة الإنسان قراءة عميقة بحيث يقرأ كل جزئياته وجيناته كما يقرأ الكتاب بحروفه وحركاته وسكناته وأصواته ومخارج حروفه ، فتقدمت علوم التشريح واخترع المجهر الذي بيّن أن أنسجة الجسم كلها تتكون من خلايا ، وفي كل خلية نواة هي المسئولة عن حياة الخلية ووظيفتها ، وأن نواة كل خلية تشمل على الحصيلة الإرثية من حيث الخواص المشتركة بين البشر جميعاً،أو بين السلالات المتقاربة ، ومن حيث الصفات المميزة لكل شخص لا يشترك معها فيها شخص آخر[6] .

وهذه المادة الإرثية المعبأة في نواة الخلية تتكون من ستة وأربعين كرموسوماً ، ثلاثة وعشرون منها من الأب ، وثلاثة وعشرون من الأم ، كما عبر القرآن الكريم عن هذا الخلط بقوله تعالى : ( من نطفة أمشاج )[7] .

فالأسرار الوراثية كامنة فيما يعرف بالجينات ، التي هي جزء من الحامض النووي منـزوع الأوكسجين DNA الموجود في الكروموسوم ، فالجين يحوي كل المعلومات لتكوين سلسلة من الأحماض الأمينية ( الببتايد ) أو جزء من البروتين ، وبما أن الخمائر (الأنزيمات) نوع من البروتين ، فإن الجين هو المسؤول عن صنع هذا البروتين ، فمثلاً يتم صنع الأنسولين بواسطة جين معين موجود في سلسلة (الدنا) على الكروموسوم رقم (611) ،و(الدنا) مكون من زوجين نايتروجينين هما:دنين وثايمين،والجوانين والسايتوزين بواسطة قواعد هيدروجينية ، كما يتصل كل واحد منهما بأحد السكريات الخماسية الناقصة الأوكسجين كما يتصل بمجموعة فسفورية ، ويقدر مجموع (الدنا) في كل خلية بشرية على شكل شريط من كاسيت طوله 2800كم ، ويتكون الجين من سلسلة من هذه القواعد النـتروجينية بتوابعها ( السكر الخماسي ، والمركب الفسفوري ) تبلغ في المعدل ثلاثين ألف زوج قاعدي نـتروجيني ، فتصل مجموع القواعد النـتروجينية إلى ستة بلايين ، وأن السلاسل المكونة للحامض النووي منـزوع الأوكسجين (الدنا) مزدوجة ،وأن ما هو موجود في سلسلة واحدة يمثل ثلاثة بلايين من الأزواج القاعدية،فالجينات تشكل ما يقرب من 70%من مجموع طول (الدنا) ولا تـزال وظائف البقية الباقية منه مجهولة .

وهذه السلاسل تكوّن الكروموسومات ( الصبغيات ) التي تصل في الإنسان إلى ثلاثة وعشرين زوجاً منها زوج واحد يختص بالذكورة والأنوثة ، وأما غيره فيختص ببقية وظائف البدن[8] .

وتـتراوح عدد الجينات الأساسية داخل خلية واحدة ما بين ستين وسبعين ألفاً وأن 20% منها تعمل وتقوم بالوظائف الحيوية المشابهة ، في حين تختلف 80% حسب الوظيفة والموقع والزمن .

اعلى الصفحة

مشروع الجينوم البشري[9] :

يبذل العلماء جهود مكثفة لمعرفة الجينات البشرية ، واكتشاف مزيد من أسرارها يستعينون لتحقيق هذا الهدف العظيم بالمختبرات الحديثة المزودة بأحدث التقنيات ، وأضخم الكمبيوترات ، وهو مشروع رصدت له أمريكا خمسة مليارات من الدولارات ، وقد تحق كثير من النتائج العظيمة حتى الآن ، وآخر هذه النتائج هو كشف الخريطة الجينومية للإنسان.

ولا يمر يوم إلاّ ويتم فيه معرفة عدد هذه الجينات وموقعها على الخريطة الجينومية وحجمها وعدد القواعد النـتروجينية المكونة له ، والبروتينات التي يصنعها بأمر خالقه ، وعدد الأحماض الأمنية المكونة لهذا البروتين ، ووظائفه ، والأمراض التي تصيب الإنسان عند نقص ذلك البروتين .

وقد شاء الله تعالى أن يؤدي أي خلل يسير في تسلسل القواعد النـتروجينية في الجين المتحكم في البروتين إلى مرض خطير ، ولكن لا يظهر المرض إلاّ عندما يرث الشخص هذا الجين المعطوب من كلا الأبوين ، أما إذا كان لديه جين واحد مصاب والجين الآخر سليماً فإنه يعتبر حاملاً للمرض فقط ، ولا تظهر عليه أي أعراض مرضية ، ولكن عندما يتزوج هذا من امرأة حاصلة على هذا الجين تكون نسبة ظهور المرض في ذريتهما 25% أي واحد من أربعة ، وهنا يأتي دور الفحص الطبي .

ولكن هناك العديد من الأمراض الوراثية تنتقل عبر جين واحد منتقل من أحد الأبوين،أو كليهما،حيث حصرها بعض العلماء عام 1994م في(6678) مرضاً وراثياً،غير أن(4458)مرضاً منها يصاب نصف الذرية،و(1750) مرضاً يصاب ربع الذرية ، وأوصلها العلماء في عام 1998م إلى اكثر من ثمانية آلاف مرض وراثي[10] .

اعلى الصفحة

خطوات المشروع :

وقد تظافرت جهود مئات العلماء من 18 دولة بوضع حجر الأساس لمشروع الجينوم البرشي ، وبتمويل مشترك من أمريكا ، وغيرها حيث مرّ بالخطوات الآتية :

فك رموز المنظومة الوراثية عام 1992 ، ثم فك الخارطة الوراثية لميكروب الانفلونزا في عام 1995 ، ثم للخميرة عام 1996 ثم الذبابة الفاكهة في عام 1997م ، ثم للبكتريا المسببة للسل في عام 1998 ثم انتهى المشروع باستكشاف الخريطة الكاملة للجينات في أمريكا عام 2000 .

العمل الجاد لمعرفة خريطة الجينات التي تتضمن حوالي ثلاثة بلايين قاعدة لتفسير آلاف الجينات وانتهى باستكشاف الخريطة الكاملة للجينات في عام 2000 .

العمل لتحديد موقع الجينات ودور كل جين بالتفصيل ، ونشاطه ومسؤوليته[11] .

اعلى الصفحة

أهداف المشروع :

يستهدف مشروع الجينوم إلى ما يأتي :

قراءة تسلسل القواعد النيتروجينية في الحامض النووي DNA أي قراءة ثلاثة بلايين حرف (قاعدة) لثلاثين ألف إلى أربعين ألف جين .

وضع هذه القواعد والحروف في أماكنها المناسبة لقراءة كل جين على حده .

المعرفة التامة بكل جين ووظيفته ، ونشاطه ، ودوره في الاختلاف البشرية ، ووظائف الإنسان[12] .

أهمية المشروع وآثاره الايجابية والسلبية :

لا شك أن إدراك أسرار الجينات يحقق مصالح كبيرة للبشرية ، ولكنه مع ذلك إذا أطلق عنانها دون ضوابط ، منها أنه لو اشترطت جهات العمل الكشف الجيني لأدى ذلك إلى أن المصابين بالأمراض المحققة أو المحتملة لن يتم تعيينهم ، والأمر أشد في التأمين الصحي ، أو التأمين على الحياة ، ومنها كشف أسرار الإنسان ، وغير ذلك من السلبيات ، لذلك لا بدّ من وضع ضوابط دينية وأخلاقية في هذا المجال[13] .

وصدرت توصية من الندوة الحادية عشرة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية التي عقدت في الكويت في 23 ـ 25/جمادى الآخرة 1419هـ الموافق 13 ـ 15/10/1998م نصت على : ( أن مشروع قراءة الجينوم البشري ـ وهو رسم خريطة الجينات الكاملة للإنسان ، وهو جزء من تعرف الإنسان على نفسه ، واستكناه سنة الله في خلقه وإعما