إذا تحقق الدين في ذمة أوقاف فإننا ننظر إلى ذلك حسب التفصيل السابق في الفقرة السابقة ، حيث ذكرنا خلافاً في ذلك ، فمن الفقهاء من اعتبر ذمة الأوقاف كلها ذمة واحدة ، وبالتالي لا حاجة حينئذٍ إلى مسألة الديون ، وإنما يمكن ما يسمى بالمناقلة (نقل مبلغ مخصص لحساب إلى حساب آخر) ثم عملية المقاصة (ولو قرضاً) الجبرية عند اتحاد الدينين جنساً ، وصفة وحلولاً وقوة وضعفاً ، او الاختيارية (أي بتراضى الطرفين) عند عدم توافر أحد هذه الشروط المطلوبة في الجبرية[2] .
ومن الفقهاء من اعتبر ذمة كل نوع من الوقف ، بل كل فرد من أفراده ذمة مالية مستقلة ، وعلى ضوء ذلك يعتبر ما يصرف من ريع أي وقف على وقف آخر ديناً في ذمته ، وحينئذٍ تكون المقاصة حقيقية (وليست فرضية كما في الحالة السابقة) لوجود ذمتين ماليتين مستقلتين ، وحينئذٍ نطبق المقاصة الجبرية عند اتحاد الدينين جنساً ووضعاً ، وحلولاً وقوة وضعفاً ، والمقاصة الاختيارية بتراضى متولى الوقفين ،أو إدارة الوقفين (ولو اعتبارياً) عند عدم توافر أحد الشروط الخاصة بالجبرية على تفصيل وخلاف بين الفقهاء في المقاصة ليس هذا مجال بحثه[3] .
والمقاصة كما يمكن أن تكون بين وقف دائن ، ووقف مدين ، فقد تكون بين وقف دائن وشخص آخر مدين ، أو بالعكس ، وحينئذٍ تطبق المقاصة الجبرية عند توافر شروطها ، أو المقاصة الاختيارية.
وقد نص الحنفية على أنه إذا أجر ناظر وقف أهلي ـ انحصر ريع الوقف المزبور فيه نظراً واستحقاقاً ـ أراضي الوقف المذكور مدة معلومة بأجرة المثل إجارة صحيحة ممن له عليه ، وقاصصه بذلك تجوز المقاصة قياساّ على الوصية ، كما أن الوصي لو باع مال الصغير ممن له عليه دين يصير قصاصاً ، إذ الوقف والوصية أخوان ، وإذا كان الناظر مستحقاً للأجرة كلها ، وتمت المدة ، والدين من جنس الأجرة فلا خفاء في صحة التقاصّ بالاتفاق ، وإن كان مستحقاً لبعضها ووقع التقاص بها فالتقاص صحيح عند أبي حنيفة ومحمد ، يضمن الناظر ، وقال أبو يوسف : لا يصح التقاص[4] .
رهن الأصول الموقوفة في ديون الوقف :
الأصل عدم جواز رهن الأصول الموقوفة في ديون الوقف أو غيرها ، لأن المقصود من الرهن أن يباع ويستوفى الحق منه ؛ ولأن مآله إلى البيع في حالة عدم دفع الديون في وقتها المحدد ، حيث يجب على الراهن حينئذٍَ بيع المرهون لأداء دينه ، وإن امتنع عن ذلك باعه الحاكم عند جمهور الفقهاء ، أو ضغط عليه بكل الوسائل حتى يبيعه الراهن بنفسه عند الحنفية[5] ، ولذلك ففي حالة جواز بيع الموقوف (بشروطه وضوابطه عند من أجازه بشروط ميسرة ، او متشددة)[6] يجوز حينئذٍ رهن الموقوف ، وفي حالة المنع يمنع الرهن .
وفيما عدا هذا التفصيل والخلاف الفقهي فإن رهن الموقوف لا يجوز كقاعدة عامة إلاّ في الحالات التي تكون هناك ضرورة ، أو مصلحة كبيرة معتبرة ، أو درء لمفسدة أكبر من الرهن ، وحينئذٍ يجوز ذلك بشرط أن يبذل المتولى أو إدارة الوقف كل الجهود المتاحة لحماية الموقوف من البيع وذلك من خلال رد الديون قبل أن يعرض الموقوف المرهون للبيع .
جاء في فتاوى قاضيخان : (ولو أن القيم أراد أن يرهن الوقف بدين لا يصح ، لأن في ذلك تعطيلاً للوقف ، وكما لا يصح ذلك من المتولى لا يصح من أهل المسجد أيضاً ، فإن رهن القيم داراً للوقف وسكن المرتهن فيها قالوا : يجب عليه أجر المثل سواء كانت الدار معدة للاستغلال ، أو لم تكن احتياطاً لأمر الوقف)[7] .
ويفهم ن هذا النص الفقهي عدم جواز رهن الموقوف ، عند الحنفية ، ولكن في حالة ما إذا حدث ذلك لأي سبب فعلى القيم أن يسعى بكل الوسائل لعدم تعطيل الوقف من خلال إبقاء أجرته إن كان عقاراً او نحوه مع أن الحنفية يشترطون أن يبقى المرهون محبوساً لا ينتفع به الراهن ولا المرتهن[8] ،ومع ذلك أجازوا في الوقف أن يسكنه المرتهن ، وحينئذٍ عليه أن يدفع أجرة المثل حتى ولو لم تكن الدار معدة للاستغلال (احتياطاً لأمر الوقف) .
أثر التقادم في المطالبة بديون الوقف :
التقادم لغة : مصدر تقادم ، يقال : تقادم الشيء أي صار قديماً[9] ، ونصت المادة 1660 من مجلة الأحكام العدلية على أن التقادم هو مرور الزمان .
واصـطلاحاً:هو مـرور زمن طـويل(على اختلاف الفقهاء في تحديده)على الحق،أو الدعوى .
والتقادم في الشريعة الإسلامية لا يسقط الحقوق الثابتة في الذمة ، ولكنه يمنع سماع الدعوى من القاضي بعد مرور ثلاثين سنة عند قدماء فقهاء الحنفية ، أو خمس عشرة سنة على رأي المجلة ، إلاّ إذا وجدت أعذار مبيحة لسماع الدعوى مثل صغر ، بأن كان صاحب الحق صغيراً،أو غائباً غيبة طويلة،أو المدعى عليه له سلطة وشوكة يخاف منه [10].
والذي أرى رجحانه أن التقادم (على الرغم من ان تأثيره ليس محل اتفاق) لا يجوز أن يكون له تأثير حتى على سقوط الدعوى ، او عدم قبولها في باب الوقف ، لأن الفقهاء ـ كما رأينا ـ احتاطوا في أمر الوقف في كثير من المسائل ، فمثلاً الغبن غير مؤثر في عقود المعاوضات عند جمهور الفقهاء ، ومع ذلك قالوا : إنه مؤثر في العقود الخاصة بالوقف بل إن بعض الفقهاء جعلوا الغبن اليسير مؤثراً أيضاً في هذا الباب[11] .
ومن جانب آخر أن الوقف الخيري هو جهة عامة ليست العناية به مثل عناية الإنسان بأموال نفسه ـ كقاعدة عامة ـ ولذلك حصل إهمال كثير ، وضاعت أوقاف كثيرة على مر العصور ، وتحايل بعض النظار ، والقضاة والسلاطين في السيطرة على أموال الوقف بشتى الوسائل[12] ، لذلك ينبغي أن يغلق هذا الباب ، وتسد هذه الذريعة للوصول إلى السيطرة على أموال الوقف ، وإعطاء الشرعية لمغتصبي أموال الوقف عن طريق التقادم.
حكم خطاب الضمان البنكية بأرصدة الأموال الوقفية:
خطاب الضمان البنكي يقصد به : تعهد كتابي يتعهد بمقتضاه البنك بكفالة أحد عملائه (طالب الإصدار) في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث ، بمناسبة التزام ملقى على عاتق العميل المكفول ، وذلك ضماناً لوفاء هذا العميل بالتزامه تجاه ذلك الطرف خلال مدة معينة ، على أن يدفع البنك المبلغ المضمون عند أول مطالبة خلال سريان خطاب الضمان رغم معارضة المدين[13] .
وخطاب الضمان هو بأنواعه الابتدائي والنهائي لا يخلو إما أن يكون بغطاء أو بدونه :
فإن كان بدون غطاء فهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة غيره فيما يلزم حالاً ، أو مآلاً ، وهذه حقيقة ما يعني في الفقه الإسلامي باسم الضمان أو الكفالة .
وإن كان بغطاء فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مصدره هي الوكالة[14] .
وحينما يقوم متولى الوقف (أو الإدارة) بوضع أرصدة الوقف وأمواله لتغطية خطاب ضمان بنكي ، فإن هذا يعني أن هذه الأموال ستكون معرضة لدفعها إلى المضمون له في حالة تحقق موجبات ذلك الدفع .
ومن هنا ننظر إلى خطاب الضمان المغطى هذا ، فإن كان صادراً لأجل استثمارات الوقف واعتماداته المستندية وتجارته المسموح بها شرعاً فإن إصدار ذلك الخطاب جائز ، لأن هذا جزء من مقتضيات التجارة والاستثمار ، ولأن هذه الأموال لم تذهب إلى خارج نطاق الوقف وضوابطه ، بل هي من مصالحه ، ولكن مع أخذ الحيطة والحذر ومراعاة الشروط والضوابط المطلوبة لاستثمار بعض أموال الوقف والحدود المسموح بها من قبل الواقف ، أي في صكه ، أو ضمن أغراض الوقف أو المسموح بها شرعاً في غير ذلك .
أما إذا كان خطاب الضمان المغطى صادراً لغير الوقف ومصالحه فإن ذلك غير جائز شرعاً ، من حيث المبدأ لأن ذلك يعني إعطاء الدين والقرض من الوقف إلى غيره وقد ذكرنا حكم استدانة الوقف لغيره فيما سبق.
وكذلك الحكم الشرعي في حالة إصدار خطاب الضمان غير المغطى ، لأن مآله إلى التزام بدفع الديون المضمونة .
تقديم تسديد الديون التي على الوقف على المستحقين في الريع :
فقد ذكرنا في مبحث الاستدانة أن تسديد الديون من غلة الوقف مقدم على المستحقين حماية لأصل الوقف واستمراريته ؛ ولأن حق الدائن حق عيني ثابت فهو مقدم على حقوق المستحقين التي لا تثبت إلاّ عند ثبوت الغلة خالصة .
ونقول هنا تفصيلاً وهو أن على متولى الوقف (أو إدارته) أن يبذل كل الجهود لجعل سداد الديون مقسطاً (أي على أقساط) وحينئذٍ يدفع القسط السنوي او الشهري ، او نحوه ، ويوزع الباقي على المستحقين حسب حصصهم وحسب شروط الواقف أما إذا لم يستطع تقسيط الديون الواجبة على الوقف فإن تسديدها مقدم على حصص المستحقين ، وقد ذكر الفقهاء ذلك بوضوح ، قال قاضيخان : (يرجع بذلك ـ أي الدين ـ فيما يحدث من غلة الوقف)[15] ومثل ذلك في الفتاوى الهندية ، وغيرهما[16] .
مسؤولية الناظر تجاه ديون الوقف ، أو الديون عليه :
إن الناظر عليه المسـؤولية الكـاملة أمــــام ديـــــون الوقـف او الديـون التـي عليـه:
أما بالنسبة لديون الوقف فعليه ما يأتي :
أن لا يدفع الديون لأحد إلاّ حسب الضوابط التي ذكرناها في السابق .
أن يأخذ كل الضمانات الكافية لاسترداد الدين .
أن يسعى بكل جهوده المتاحة لاسترداد الدين بأقرب فرصة ، بما في ذلك التخاصم والتقاضي.
أما بالنسبة لديون الغير فعلى الناظر ما يأتي :
أن لا يأخذ الديون على الوقف إلاّ حسب الضوابط التي ذكرناها في السابق .
أن يسعى لتقسيط هذه الديون (جدولتها دون فائدة) بقدر الإمكان.
أن يقوم برد هذه الديون إلى أصحابها.
إعطاء ديون الوقف حق الامتياز عند المطالبة بها على غيرها من الديون :
بما أن الوقف جهة عامة ، وأن أمواله لصالح الجهات العامة ينبغي أن يكون لديونه الأولوية وحق الامتياز ، وذلك تقديماً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة وقياساً على ديون اليتامى وديون الحكومة ونحوهم من وجوب الرعاية والعناية لأموال هؤلاء وقد نصت المادة (78) من مشروع قانون الوقف الكويتي على أن (لديون الوقف ما لديون الحكومة من امتياز على أموال المدينين ، ويتم تحصيلها بنفس الطرق المقررة لتحصيل أموال الدولة) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) المقاصة : لغة مصدر قاصّه إذا كان له دين مثل ما على صاحبه ، فجعل الدين في مقابلة الدين ، يراجع : لسان العرب ، والمعجم الوسيط مادة (قصّى) .
وفي الاصطلاح : هي إسقاط دين مطلوب لشخص على غريمه في مقابل دين مطلوب من ذلك الشخص لغريمه ، وهي طريقة من طرق قضاء الديون ، انظر مرشد الحيران المادة 224 وقال ابن جزى في القوانين الفقهية ص 297 : (المقاصة هي اقتطاع دين من دين ، وفيها مشاركة ، ومعاوضة ، وحوالة) ، ويراجع : المنثور في القواعد للزركشي (1/391) والموسوعة الفقهية الكويتية (38/329)
([2]) يراجع لمزيد من التفصيل : حاشية ابن عابدين (4/239) والفتاوى الهندية (3/230) والدسوقي على الشرح الكبير (3/227) والأم (8/59) والمنثور في القواعد (1/391) والمغني (9/447)
([3]) المصادر السابقة أنفسها
([4]) تنقيح الفتاوى الحامدية (1/224)
([5]) يراجع : حاشية ابن عابدين (5/95- 310) وشرح الزرقاني (5/153) ونهاية المحتاج (4/238) وشرح المحلى على المنهاج (2/274) وكشاف القناع (3/342) والمغني (4/474)
([6]) يراجع : حاشية ابن عابدين (3/388) شرح الدرالمنتقى في شرح الملتقى (1/736) وشرح الخرشي (7/95) والمدونة (4/342) والنهاية للرملي (5/395) ومغني المحتاج (2/392) والمغني (5/575)
([7]) فتاوى قاضيخان (3/398)
([8]) يراجع لتفصيل ذلك : حاشية ابن عابدين (5/310) وحاشية الطحاوي (4/236)
([9]) لسان العرب ، والمعجم الوسيط مادة (قدم)
([10]) يراجع لتفصيل أحكام التقادم : حاشية ابن عابدين (4/343) وشرح مجلة الأحكام العدلية ص 983- 998
([11]) يراجع لمزيد من التفصيل : د.علي القره داغي : مبدأ الرضا في العقود ، ومصادره المعتمدة ط.دار البشائر الإسلامية ببيروت (2/730- 758)
([12]) يراجع الشيخ أبو زهرة : محاضرات في الوقف ط.دار الفكر العربي ص 24- 28
([13]) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية (2/309)
([14]) مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي :ع2 ج2 ص 1035 ، وقرار المجمع رقم 12(12/2)
([15]) فتاوى قاضيخان (3/298)
([16]) الفتاوى الهندية (2/424)