أيها الإخوة المؤمنون

لقد تحدثنا في الخطبة السابقة عن خطورة أمراض القلب وبعض أنواعها، واليوم نتحدث عن أخطر أنواعها وأشدها على النفس والمجتمع على الإطلاق، ألا وهو اتباع الهوى والأهواء.

اتباع الهوى هو اتباع شهوات البطن والفرج والجاه والحكم والملك، دون نور الهداية وبصيرة العقل المستقيم، ودون مشورة لأصحاب الرأي السديد.

هذا المرض الخطير داء الأمم، وهو ما يعجل بإهلاك الأمم وفناء الحضارات على مر التاريخ؛ لأن الحضارات إنما تقام على عقل سليم أو استناداً على الوحي، أو على كليهما، كما هو الحال بالنسبة للحضارة الإسلامية، وحين يهمل العقل ويترك الوحي ولا يحتكم إلى الشرع الحنيف يكون الهلاك والدمار والخراب، ويحل الضلال ويكثر الظلام، وتعشعش الفرقة والتمزق، ثم ينشب الاقتتال بين الأمة الواحدة، ثم يجثم على صدرها الشقاق، وهذه سنة الله التي لن تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، وهذا ما عناه الله تعالى بقوله: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } في وصفه للهوى بأنه أضل سبيل، وأبعد طريق عن الرشاد، فصاحب الهوى لا حكمة له، ولا زمام لأمره، ولا قائده له، ولا إمام، إلهه هواه، أينما سارت به الأهواء سار، وحيث استقرت به الأهواء سكن واستقر، وبعدها يكون حكمه وقراره أو فتواه الفقهية، أو آراؤه العلمية تابعة لهواه أو أهواء من يقوده ويسوسه، ولن تكون نابعة من المنهج الحق والصواب، ولن تكون نابعة من الوحي والعقل المستقيم، فتأباها الفطرة السليمة، ويرفضها العقل الحكيم، وحينئذ لا يسمع متبع الهوى حقاً، ولا يرى صدقاً ولو كانت الأمور واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، ولو كانت متألقة تألق القمر ليلة البدر، ولو كانت معلومة بالبداهة والفطرة، وما ذلك إلا لأن الله تعالى قد ختم على قلبه وسمعه، وجعل على عينيه غشاوة، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}، يقول الحسن البصري: " إذا غلب الهوى على القلب استحسن الرجل ما كان يستقبحه"؛ لأنه يفتقد كل المقاييس والمعايير الضابطة، ويقيم هواه أو هوى الآخرين مرجعية وسنداً، ولأنه يبحث عن ما يرضي هواه أو يشبع غروره، وما يملأ عليه رغباته وشهواته باي وسيلة كانت، وبأي طريق كان، دون النظر في المآلات والمقاصد، ودون الاعتبار بالآثار، والاعتماد على النتائج، وإذا ختم الله على قلبه ضل عن الحكمة والرشاد، فلا يفقه إلا ما أُشرب قلبه من الشهوات والأهواء، ولا يستفيد من عبر التاريخ ولا دروسه، ويعيش في انفصام عن واقعه وعالمه، حتى يخال إليه أن كل ما يجري من حوله لا يعنيه في شيء، وهذا ما حصل أيام الربيع العربي.

عندما ثارت تونس زعم رئيسها أنها فورة وغضب وعما قريب تسكن، ثم ما لبث أن ولى هارباً لا يلوي على شيء، وكذلك ظن رئيس مصر وقال: مصر غير تونس، فما توالت إلا أيام قليلة حتى أودع السجن، وكذلك تخيل من كان في ليبيا واليمن وغيرها من البلاد التي شملها ما يسمى بالربيع العربي.

إن الذي يتبع الهوى تتعطل فيه الحواس كلها فلا يرى ولا يسمع ولا يدرك إلا الهوى، ولا يدرس التاريخ ولا ينهل من معينه، وقد أمرنا الله تعالى بالسير في الأرض، ومطالعة تاريخ أممها للاستفادة من عبرها وحياتها، { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، فإذا تدبرنا سيرة تلك الأمم خططنا وبرمجنا ونفذنا وأقمنا حضارة لا تبيد، ولن تبنى الحضارات باتباع الأهواء والشهوات، روى مسلم في صحيحه:" تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ".

إذا انتشر هذا المرض الخطير على مستوى الأفراد والجماعة والدول نزلت بهم البلايا عامة ولا تخص أهل الهوى فقط، و لا يجوز لعامة الشعب ولا للعماء أن يسكتوا عن الأخطاء، ولا سيما إذا وصلت الأخطاء إلى مرحلة الخطيئة، وإلى انتهاك المحرمات وإهمال الواجبات، وخرق الثوابت الشرعية التي تأسست الدولة الإسلامية عليها؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد روى البخاري عن علي رضي الله عنه قال:" بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَغَضِبَ فَقَالَ أَلَيْسَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا فَجَمَعُوا فَقَالَ أَوْقِدُوا نَارًا فَأَوْقَدُوهَا فَقَالَ ادْخُلُوهَا فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا وَيَقُولُونَ فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النَّارِ فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتْ النَّارُ فَسَكَنَ غَضَبُهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ" فالطاعة تكون في المعروف، وبالمعروف، وفي هذا الحديث رد على بعض العلماء الذي تنحو فتاواهم كما يميل هوى ولي الأمر والحاكم، وغدا هؤلاء العلماء مفزعاً لك مفترٍ، ومأوى لكل مبطل، ومستشاراً لكل طاغية، وفتة لكل جاهل، بآرائه الباطلة، وأدلته الزائفة، حيث أصبحنا نرى ما كان حراماً بالأمس مباحاً اليوم، وما كان كفراً وإثماً غدا معروفاً ودعوة وهداية، يضلون الناس بتلك الفتاوى التي حرفوا فيها الكلم عن مواضعها، وأولوا الآيات والأحاديث حسب أهواء ولي الأمر، وأتوا بدعاً من الدين ما أنزل الله بها من سلطان؛ إرضاء لرغبات وإشباعاً لشهوات.

إن ولي الأمر إما أن يكون مجتهداً فيجتهد ويقرر، فيكون اجتهاده موضع التقدير والاحترام ويوضع على العين والرأس، وإن كان غير مجتهد فعليه أن يرجع إلى الذين وهبهم الله القدرة على استنباط الأحكام، إذ المرجعية الأولى في إدارة الأمن والخوف هي لولي الأمر في السياسة والدولة، ومرجعية الترجيح والاجتهاد فلا بد من الرجوع إلى العلماء الذين يقولون الحق ولا يخشون في الله لومة لائم، والذين وصفهم الله بقوله: { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}.

أين الذين يرون أن "ترامب" وفلاناً يقودان العالم الإسلامي إلى شاطئ الأمن والسلام، وتلهج ألسنتهم بالدعاء لهم بالتوفيق والسداد، ويسبحون بحمدهم ويقدسون ذواتهم، من الولاء والبراء الذي جعلوه رداً من الزمن سيفاً مسلطاً على رقاب العباد، يدخلون به من شاؤوا إلى الجنة، ويخرجون به منها من شاؤوا؟.

آثار اتباع الهوى

الهلاك والدمار، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" شُحٌّ مُطَاعٌ ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ مِنَ الْخُيَلَاءِ "، والمراد بالشح المطاع أن يكون المرء بخيلاً وفاسداً في الإدارة المالية والسياسية، فهذا يأخذ بيد الأمة إلى التهلكة؛ لأنه لا يلقي بالاً بأحوال الأمة، ولا تشغله إلا نفسه، وهمّه أن يجمع المال بأي طريق ويبخل به على عباد الله تعالى؛ لأنه أمن المساءلة القانونية ومحاسبة الشعب له، ولو علم أنه سيحاسب على كل درهم او دينار لما تطلعت نفسه إلى ما في أيدي الشعب، يفعل هذا اتباعاً لهواه في جمع المال، ورغبة في سطوة الجاه.

يبعد صاحبه عن دائرة العدل والحق، قال تعالى:{ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا }.

كبت الهوى وجماح النفس يصلان بالمرء إلى جنة المأوى، قال تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.

الامتثال لأمر الهوى والرضوخ للنفس والشهوات تبعد بالمرء عن سبيل الله تعالى، ولو كان المرء صاحب دين وخلق، قال الله تعالى مخاطباً بينه داود عليه السلام: { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}.

اتباع الهوى تهوي بالإنسان إلى الهاوية، وتنزع عنه لباس العلم والمعرفة، وتدخله في دائرة الجهلة والظالمين، قال تعالى عن بلعام بن باعوراء:{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ}.

فإياكم واتباع الهوى، فإنه فساد كبير، وشر مستطير، ووباء حطير.

الخطبة الثانية:

إن مرجعيتنا هو الله وسوله صلى الله عليه وسلم، وأمتنا ذاتية الدفع، وأقصد بذاتية الدفع أنها تلك القوة العادلة والحاكمة، والناصحة للعامة والخاصة، بالحكمة والموعظة الحسنة.

حالة الأمة اليوم هي حالة اتباع الهوى، وحالة سكوت معظم العلماء عن قول الحق، وحالة الشح المطاع، وهي فتن نسأل الله تعالى أن يجعل لنا فيها من العبر ما يعيدنا إلى رشدنا وتهب بنا من رقدتنا.

شريعة الله تعالى هي منهاج حياتنا في زمن الفتن، فهي التي ترشدنا إلى الفطرة السليمة والعقل المستقيم، علينا أن تبع أوامرها وننتهي عما نهت عنه، فإنه الفلاح والنجاح.