إن من أعظم الأمور التي كلف الله سبحانه وتعالى الإنسان بها وعرضها على السموات والأرض فلم يستطعن القبول ولم يستطعن التحمل، و حينما عرضت على الإنسان قبل بها وتحملها، ألا وهي الأمانات.
الأمانات كلمة واسعة تشمل كل ما اؤتمن عليها الإنسان من التكاليف الشرعية، من هذا الدين العظيم، من حقوق الناس، ومن أمانات التي يتحملها الإنسان، بينك وبين أهلك، بينك وبين نفسك وأعضائك ، فكل هذه الأمور أمانات حُملت على الإنسان، وتحملها لأن الله سبحانه وتعالى أعطاه العقل والإرادة والاختيار، فهو قادر على أن يتحملها إلا إذا كانت هناك أهواء تحول دون حمل هذه الأمانات بحق.
يقول الله سبحانه وتعالى: ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا )، وجِلت السموات بثقلها وعظمها من تحمل الأمانة، وحملها الإنسان حينما خلقه الله سبحانه وتعالى، ونادى كل ما في الكون من سيدنا آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها من خلال الذر، خاطبهم الله سبحانه وتعالى: ألست بربكم؟ قالوا: بلا، فتحملوا الأمانة، فيجب على هذا الإنسان الذي تحمل هذه الأمانة وهو يتهيأ لحملها، و أن يكون مسؤولاً أمام الله وأمام الناس أجمعين.
وجاءت الآيات الكريمة تأمر بحمل هذه الأمانة وتأمر بأدائها( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فالله سبحانه وتعالى نهانا نهياً شديداً ونهياً عظيماً أن نخون الأمانات بيننا وبين رسولنا العظيم وبين الناس جميعاً، بل بين الإنسان ونفسه .
هذه الأمانة هي هذا الدين العظيم، الذي يجب أن نحمله بحق، وأن نوصله إلى الأجيال بصورته الجميلة، وبصورته الحقيقة والمشرقة، التي تتسم بالرحمة للعالمين، وأن لا نخون هذه الأمانة فنُدخل فيها أهواءنا مهما كانت هذه الأهواء، سواء كانت بالتشدد أوالترخص الذي ليس عليه الدليل، هذه هي أولى الأمانات التي يجب على الإنسان حملها بحق وصدق، ثم بعد ذلك الأمانة التي بينك وبين أعضائك، من النفس ومن القلب والأعضاء الأخرى من العين والأيدي والجوارح، كل هذه أمانات عند الإنسان ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، فالإنسان مسؤول عن استعمال هذه الأعضاء في الخير أو في الشر، فإذا استعملها في الخير كان مثاباً، وإذا استعملها في الشر كان معاقباً عند الله سبحانه وتعالى .
كما أن الإنسان محمل بهذه الأمانة، أمانة الوظائف والمسؤولية، التي تبدآن من مسؤولية أولي الأمر، من الخلفاء والملوك والرؤساء والأمراء والوزراء والمدراء وجميع المسؤولين، فكلهم يتحملون المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى، بأن يؤدوا هذه المسؤولية على وجهها، وأن لا يخونوا فيها لأن الخيانة فيها كبيرة عند الله، والرسول جعل خيانة الأمانة إحدى علامات النفاق ( وإذا أؤتمن خان)، والله أمرنا في القرآن الكريم أمراً ملزماً بأن لا نكون مع الخائنين، ولا نحبهم، وأن نعرضهم ونمنعهم بكل الوسائل المتاحة ,وحينما لا تحقق الأمانة وتضيع حينئذ تأتي قيامة الناس .
من هنا كلنا يسأل لماذا وصلت أحوال المسلمين إلى هذه المرحلة التي نشاهدها، ما الذي حدث لهذه الأمة، اجتمعت عليها كل المصائب من الفرقة والخلاف والفقر والموت بالجوع والاقتتال والفتن، والجواب يعود إلى هذه الأمانة، فلم تُحْمَل بصورتها الصحيحة كما يريدها الله سبحانه وتعالى، كذلك لم تحمل كما يقتضيها العقل السليم .
العقلاء من الغرب والشرق وصلوا إلى وضع القوانين الرادعة لحماية الأمانات، أمانة المال والوظائف والمسؤولية، من خلال الشورى وفصل السلطات ومن خلال مجموعة من الإجراءات الرادعة .
انظروا إلى ما حدث لولية العهد في إسبانيا، تكتشف أنها سرقت مبلغاً ليس بكبير، يهتز عرش الملك، وتهتز الدولة لأنها استعملت وظيفتها أو ولاية عهدها لشيء غير صحيح، وأتذكر أن المرشحة الوحيدة لمنصب رئاسة الوزراء في السويد عُزِلتْ بسبب مبلغ بسيط أقل من مئتي دولار، صرفتْ المبلغ ولم ترجعه، وثارت عليها الصحف والجرائد والإعلام حتى اعتذرت وأُبعِدت عن الترشح لرئاسة الوزراء .
نحن اليوم لا نسير لا على المنهج القرآني في المسؤولية والمحاسبة، ولا نسير مع العقل السليم والفطر السليمة التي تتفق مع شريعتنا، ومن هنا يقول الله سبحانه وتعالى (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لا يتوبون إلى الله ولا يرجعون إلى دينهم، ولا يذّكرون أي ولا يتعقلون، فهم لا يستعملون الدين ولا يتعقلون.
عالمنا الإسلامي اليوم لا يستعمل هذا الدين في حقيقته وجوهره في مجال الأمانات، ولا سيما أمانات الوظائف، بل نستعمل الدين في أمور الجزئيات، كما رأينا بعض الأحزاب الدينية حرمت الاحتفال بعيد الميلاد، وهذا صحيح، ولكنه يقف خلف بابا مصر للفتنة على رئيس دولة مصر، فشتان بين ذاك وذاك، وكما قال سيدنا ابن عمر لأهل عراق آنذاك: تقتلون الحسين وتحترزون عن دم البراغيث.
نحن نعظم الصغائر ونهون الكبائر، فالذين يسرقون مثل الجبال لا يُسألون، والذين يسرقون ربما شيئاً بسيطاً تقطع أيديهم، كما أن امرأة من بني مخزوم – وبنو مخزوم قوم لهم مكانة كبيرة في المجتمع القرشي – سرقت تقول عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كان يحبه حباً جماً. فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)).
وبينما النبي في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟. فمضى رسول الله يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذ قضى حديثه قال: (أين – أراه – السائل عن الساعة)؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: (فإذا ضعيت الأمانة فانتظر الساعة). قال: كيف إضاعتها؟ قال: (إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة). وهذا الأمر يشمل الخلافة ويشمل الإمارة والوظيفة، ويشمل كل مسؤولية يكلف بها الإنسان، والساعة ليست المقصود بها يوم القيامة فقط، فحينما تطلق بلفظ العموم تدل على يوم القيامة، ولكن حينما تخص قوماً، مثل قولنا: جاءت ساعة هذا القوم، أي انقلبت الأمور واضطربت كأن قيامتهم قد قامت، فلا أحد يثق بالآخر ولا تصل الحقوق إلى أهلها. لذلك شدد الله للحفاظ على الأمانات، وشدد الله في خطورة الخيانة في الأمانات ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) أي ولا تخونوا أماناتكم، وهنا جاءت كلمة أماناتكم بدون تكرار العطف ب”لا” أو بدون تكرار النفي لأهمية دخول خيانة الأمانات في خيانة الله وفي خيانة الرسول ، فمن خان الأمانات فهو الذي قد خان الله ورسوله، وورد في حديث ثابت قول الرسول 🙁 لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له) ولذلك يذكر الإمام الذهبي الخيانة ضمن الكبائر، ولكنه يقول إن هذه الكبيرة لها أوزان مختلفة: فمنها تدخل في أكبر الكبائر، ومنها تدخل في الكبائر، فمن خانك في مالك غير من خانك في أهلك ومن خانك بدرهم غير من خانك بألف درهم أو أكثر، ومن خان في أمانة الأمة التي هي العهد والإمارة والحكم غير من خان في شؤون الأفراد.
الحفاظ على الأمانات امتازت به هذه الأمة في البداية، في عصر الرسول وعصر من بعده من الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين، وخير مثال على تأصل الأمانة في قلوبهم قصة تلك الفتاة في عصر عمر تطلب منها والدتها: يا ابنتاه قومي فامزجي اللبن بالماء , فإن عمر لا يرانا ولا مناديه يرانا , فقالت الفتاة لأمها : يا أماه إن كان عمر لا يرانا، فإن الله عزّ وجل يرانا.
الدين ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: الإيمان، والثانية: الإسلام، ولكن المرتبة الثالثة المكملة لهذا الدين هو الإحسان، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا الجانب هو الذي يحمي وقد أهملناه إلى حد كبير في تريبة أبنائنا في البيت والمدارس، ومن هنا ضاعت الأمانات.
ويقول صاحب سر الرسول حذيفة بن اليمان : حَدَّثَنا رَسُولُ اللهِ حَديثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنا ( أَنَّ الأَمانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلوبِ الرِّجالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ ) ففهم الصحابة القرآن والسنة وقلوبهم كانت قوية وجاهزة ومُرَبَّاة بتربية الرسول فأخذوا هذه الأمانات، ثم يقول سيدنا حذيفة (وَحَدَّثَنا عَنْ رَفْعِها قَالَ: يَنامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُها مثل أَثَر الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقى أَثَرُها مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلى رِجْلِكَ، فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبايَعُونَ فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ).
إننا اليوم أمام أن نعيد النظر في تصرفاتنا في مجال الأمانات بكل صورها، ومنها أمانة المجالس فهي عظيمة ولكن اليوم أصبحت لا قيمة لها، ويذكر الإنسان ما يشاء ولا يعتمد أساساً أن لكل مجلس أسراراً، وكذلك أسرار الوظائف تنشر بين الناس والأمانات في ذلك لا يحافظ عليها، ظناً من بعض الناس أن الأمانات هي الصلوات أبداً! فالمفروض أن تهيئك الصلوات لتحمل الأمانات، فالرسول يقول: { إذا حدث شخص بحديث والتف ــــ فمجرد هذه الالتفاتة ـــــ أمانة }، و لا يجوز للإنسان أن يبوح بها، فما بالك إذا أؤتمن أحد على سر ثم إذا خاصمه فجر وكشف كل الأسرار، وحتى قبل الخصومة أحياناً.
نحتاج إلى إعادة النظر لأننا أمام رب عظيم، وأمام رب يحاسبنا، وأمام قبر ينتظرنا، وأمام نار وجنة، فماذا نريد لأنفسنا؟ هل نريد أن نكون ممن وصفهم الله تعالى بالخائنين، وحينئذ لا ينظر الله تعالى إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، أم أن نكون من الذين يحفظون الأمانات، ويستحقون بفضل الله تعالى الفردوس الأعلى.
الخطبة الثانية
ومن الأمانات الأساسية التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بحفظها، أن نحفظ إخواننا الذين نستطيع أن نحفظهم، وأن نعطي لإخواننا الذي نستطيع أن نعطيهم، وأن نقوم بواجبنا الإسلامي نحو إخواننا المسلمين في كل مكان، ما دمنا قادرين على ذلك، لأننا جسد واحد، كما قال الرسول ، ولأننا أمة واحدة، فالإحساس بالمسؤولية جزء من الأمانة، انظر ماذا يحدث الآن في سوريا حتى أشغلوا المجاهدين بعضهم ببعض، من خلال الأموال الفاسدة، ومن خلال المؤامرات والخيانات، وبخاصة عندما حصل الغرب على مبتغاهم من السلاح الكيمياوي، تركوا كل شيء تركوا الشعب السوري ليتحمل كل هذه الجرائم والأسلحة المدمرة، وأصبحت القضية منسية.
والآن أُشغِلنا بقضية العراق، وهي تهدد وتؤكد القضايا الخطيرة التي حذر منها أهل العقل والدين، وهي قضية الطائفية، أصبحت القضية في سوريا طائفية، وأضيفت اليوم قضية العراق؛ لتُدَمِّر العراق كما دمرتْ سوريا، ولا يستفيد المسلمون منها إلا إذا أراد الله، وإلا إذا وقفنا وقفة رجل واحد، ولكن المشكلة في خياناتِ كثيرٍ من أصحاب الأموال وأصحاب المسؤوليات، فهم يخونون الله ويخونون الرسول ويشترون الذمم ويفسدون الذمم ويشغلون بعض الناس ببعض، وكل ذلك لمصلحته وبالتالي تضيع مصلحة الشعب والوطن.