لو تدبر المسلم كتاب ربه و سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لما وجد ديناً ولا نظاماً ولا قانوناً أو شريعةً من الشرائع السابقة تولي العناية القصوى بالرحمة والرأفة مثل هذا الدين العظيم فقد افتتح الله كتابه العظيم وهو دستور المسلمين بهذه الآية العظيمة (بسم الله الرحمن الرحيم) التي تتضمن صفتين من صفات الله واسمين من أسماء الله تعالى ، الرحمن : الذي يدل على الرحمة الشاملة الواسعة (ورحمتي وسعت كلّ شئ) ، إنساناً وحيواناً، وكل ما في هذا الكون، خلقه بالرحمة ، وهداه الله بالرحمة ، ويعيش بالرحمة، ويموت بالرحمة، فالكل تناله الرحمة، أعطاهم الله الرزق والنعم التي لا تعد ولا تحصى.
الرحيم: التي تخص رحمة الله لعباده الذين يستحقون هذه الرحمة في الآخرة.
تتكرر هذه الآية الكريم في بداية كل السور ما عدا سورة واحدة وهي سورة البراءة ولكنها عوضت هذه الآية بذكرها في سورة النمل وبالتالي عدد السور 114 سورة وعدد تكرار هذه الآية الكريمة أيضاً 114 مرة.
ثم يبدأ هذا الكتاب بسورة الفاتحة والتي تبدأ بــــ {الحمد رب العالمين } والربوبية: هي تنمية الإنسان شيئاً فشيئاً حتى ينال الكائنات الكمال الذي أراده الله له أيضاً هو رحمة بل في قمة الرحمة ثم تتكرر في هذه السورة هاتان الصفتان وهذا الاسمان، الرحمن الرحيم.
ثم تتكرر هذه الرحمة بمختلف أنواعها وأشكالها وأماكنها ومراتبها في القرآن الكريم أكثر من 300 مرة ولو أضفنا إليها الكلمات التي تدل على نفس الرحمة مثل الرأفة وغيرها لبلغت الآيات الكريمة حول الرحمة في الإسلام أكثر من 1000 آية أي سدس القرآن الكريم .
ولا يكتفي القرآن الكريم بهذا الاهتمام العظيم بالرحمة وإنما أيضاً يتحدث عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ويحصر رسالته في الرحمة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
ويطبق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصفة في مسيرته وسيرته وفي تعامله مع الناس وفي رفقه بالناس بالمسلمين وغير المسلمين ما عدا المحاربين المعتدين.
فيما عدا العدوان فالرسول صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالناس، أبو جهل يؤذيه بالنهار والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو له بالليل ( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) ، وحينما أوذي الرسول صلى الله عليه وسلم إيذاءً شديداً من قبل الجهلة والغلمان ورموه بالحجارة حتى أدموا قدمه المباركة ونزل تحت الشجرة بدأ يخاطب الله سبحانه وتعالى ويقول إن لم يكن بك غضب فلا أبالي، ويأتي له ملك الجبال وأنواع من قدرات الله ليهلك هؤلاء الذين آذوا الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه لا يقبل بذلك، بل يدعو قائلأً: لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً.
ثم يربي الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على الرحمة ويربط الإيمان بالرحمة (من لا يرحم لا يُرحم) ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) ويقول ” لن تؤمنوا حتى تراحموا ” . قالوا : يا رسول الله ، كلنا رحيم . قال : ” إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ، ولكنها رحمة الناس رحمة العامة ” الرحمة العامة: تشمل الإنسان الذي أحسن إليك وتشمل الإنسان الذي أساء إليك ، هكذا ربى الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام.
ويأتي الأقرع بن حابس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فرآه يُقبِّل الحسن والحسين رضي الله عنهما فقال الأقرع: أَتُقَبِّلون صبيانكم؟ إن لي عشرة من الولد ما قَبَّلتُ أحداً منهم قط، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم: «أَوَ أملكُ لك أن نزعَ الله من قلبك الرحمة» ومن نزعت الرحمة من قلبه لا يرحمه الله سبحانه وتعالى.
فبعد القرآن الكريم والسيرة النبوية التي تحتاج إلى ساعات لما يتضمنها من الرحمة ننتقل إلى هذه الأمة التي أخرجها الله الإخراج الذي يريده (كنتم خير أمة أخرجت للناس ) هذه الأمة ليست أمة نبتت بدون رعاية وبدون عناية وإنما أمة أخرجها الله وربّاها الرسول صلى الله عليه وسلم ووقف على تربيتها 23 سنة الذي وصفه الله بأنه صاحب الخلق العظيم ( إنك لعلى خلق عظيم) ، هذه الأمة أخرجت ليست لخدمتها فقط وإنما لخدمة الناس جميعاً وأن تكون قدوة في الرحمة والرأفة القلبية واللسانية والفعلية.
الرحمة في الإسلام ليست مجرد شفقة داخل القلب أبداً إنما الرحمة التي يمتلئ بها القلب ثم تفيض هذه الرحمة على اللسان ثم تفيض على جوارحك وتكون جميع جوارحك رحيمة خادمة للناس، مقدمة الخيرات والبركات للجميع ( ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل) وكذلك الرحمة صفة عملية تنبعث من صفة قلبية ولكل شيء أصل وأصل الرحمة في القلب ثم يطبقها اللسان ثم يثمرها جميع الجوارح.
أراد الله لهذه الأمة أن تكون أخوة هي الرابط الأساس بينها ( إنما المؤمنون إخوة) فالأخ الحقيقي هو الذي يشتبك معك في الإيمان ، هذه الأخوة مبنية على رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بنا ثم رحمتنا بأنفسنا ثم الله يرحمنا ولذلك نزلت الآيات لتربية هذه الأمة التي نشأت في الصحاري ومن طبيعة هذه البيئة الجفاء والشدة فكانت التربية تحتاج إلى المزيد ليصبحوا لينين مرينين رحماء ، وقد آتت هذه التربية أكلها، فأبو ذر الغفاري تكلم بكلمة أمام سيدنا بلال وتعرض له ب”ابن السوداء” ظاناً أنها كلمة طبيعية، فما الفرق بين السواد والبياض والكل من عند الله ولكن الإسلام يمنع مثل هذه الكلمات لأنها تجرح المقابل ، فحينما أدرك أبو ذر خطأه وهو الذي رباه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وضع خده على التراب ليؤدب نفسه وحلف أن لن يرفع خده عن التراب حتى يطأه بلال بقدمه، ولكن بلالاً لم يفعل ذلك، بل غفر له وقبله وتآخيا وتصافحا.
اليوم وأمتنا فيها خير كبير ، أصبح الإسلام قشوراً بدون مغزى ومعنى عند معظم الناس، يصلي ولكن لا يربطه بالنهي عن الفاحشة ، يزكي ويبحث عن فتاوى لإعفائه ويريد أن يحتال على الله والله يقول ( وفي أموالهم حق معلوم) كيف تعفى العمارات الشاهقة من الزكوات، والمسكين العربي إذا كان عنده خمس جمال تجب عليه الزكاة بالإجماع، وهو يعيش في الصحراء، وأربعون معزة تجب فيها الزكاة ، ليس الإسلام هكذا، والله لا تخفى عليه خافية، ولا يمكن أن نحلل الحرام أو نحرم الحلال عن طريق الحيل فالله لعن اليهود لأنهم احتالوا .
إخوتي الكرام دَرستُ القرنين الخامس و السابع الهجري ، أيام الاحتلال الصليبي، فلم أجد حالة مرت على أمتنا من ظروف صعبة مثل هذه الظروف التي نمر بها، لأن الأعداء كانوا في الخارج، ولكن اليوم المشكلة في الداخل.
اليوم نقرأ آيات الرحمة مثلما قرأها الأولون ولكن هل يشفق قلوبنا على إخواننا في المخيمات الذين يتضورون جوعاً ويموتون بالبرد الشديد والثلوج التي ربما لم تشهد المنطقة منذ 30 سنة مثل هذه الثلوج، قال الرسول صلى الله عليه وسلم (ما من أهل عرصة يموت بينهم أمرؤ جائع إلا برئت منهم ذمة الله ورسوله) فكيف حسابنا أمام الله وماذا يكون جوابنا أمام الله في كل مايحدث في سوريا وفلسطين وإخواننا في غزة ليس بأحسن حال وكذلك في القدس وفي العراق فقد دمرت مدينة الرمادي وهكذا داعش تدخل مدن السنية منطقة منطقة ثم تخرج منهما واحدا بعد واحد ليتم التدمير من قبل الميليشيات، وماذا سيحدث في الموصل لو تم ضربها وفيها 4 ملايين شخص إنها الكارثة.
االمنطقة الكردية هي المأوى الوحيد لهؤلاء النازحين وهي أيضاً تأن من عدم دفع الرواتب حتى يموت الجميع فقراً. وقد شاع الفقر في أغلب بلادنا ففي اليمن الناس يموتون ويتضورون جوعاً، أدعوكم لإغاثة هؤلاء ولا نريد أن نصل إلى ما وصل إليه أبو بكر رضي الله عنه عندما دفع كل أمواله ، ولكن علينا ببذل الجهد والعمل حتى إذا سئلنا من قبل رب العالمين كان لنا جواب وحجة عنده سبحانه وتعالى.
الرحمة ليست مجرد كلمة تقال وإنما شفقة حقيقية داخل القلب وتحرك العين لتفيض دمعاً ويتحرك اللسان ليقول صدقاً وتحرك الجوارح لتدفع وتدافع لتحقق الرحمة وتحرك الإنسان ليدفع بماله لأجل إخوانه وأخواته.
ولا يمكن أن أتحدث إذا كنا تحدثنا عن أوضاع المخيمات في سوريا وفي العراق وفي فلسطين واليمن فقد شاهدتم هذه الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية في مضايا، قاتل الله هذا النظام الذي يقتل شعبه قاتل الله هذه الميلشيات الخبيثة الشديدة الطائفية التي تحاصر هؤلاء قاتل الله كل من يساهم ويساند هؤلاء الظلمة (ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتسمكم النار).
أين الإنسانية وأين ضمير الأمة الإسلامية والإنسانية وأين الأمم المتحدة وأين جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ، كل مشغول بداخله وبحروب طائفية يستفيد منها الأعداء ، والكل مسؤول أمام الله تعالى بقدر مسؤوليته وإمكانياته لذلك أوصيكم بأن نقدم هذه الرحمة حتى يرحمنا الله فمن لا يرحم لا يُرحم ، إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم انزعج حينما أُخِذ أحد فرخي عصفور فما بالك بهؤلاء الناس وهؤلاء الأطفال الذين كأنهم في القبور وهم في الظاهر أحياء، فرجائي أن يفكر كل واحد كيف يحقق هذه الرحمة التي جعله الله شرطاً لإيماننا.