بسم الله الرحمن الرحيم
ايها الاخوة المؤمنون
لقد تحدثنا في الخطبة السابقة عن نظرة الاسلام الى المال، وأهمية الأموال في حياة الفرد والأمة والجماعة والحكومات، وقد بينا بأن الله سبحانه وتعالى جعل المال قياما للناس، اي سبباً لحركة المجتمع وسبباً لتنمية المجتمع، والنهوض بالمجتمع، وكذلك النهوض بالامة جمعاء بعد العقيدة الصحيحة، والالتزام بالقيم والاخلاق.
وفي هذه الخطبة، نحاول ان نتحدث عن المسؤولية في هذه الأموال حينما يعطي الله بسحانه وتعالى هذه الأموال للانسان، فما هو مسؤوليته أمام هذه الأموال؟ ومن هنا يأتي الحيدث النبوي الشربف حول الاسئلة التي توجه الى الانسان، وهي اربعة اسئلة اساسية، واسئلة أخرى توجه الى الاسنان وهو أمام الله سبحانه وتعالى، وأول ما يسأل فيه سؤالان يخصان جانب المال ، كيف اكتسب الانسان هذا المال؟ وفيما انفقه؟ لذا يجب على كل انسان مسلم ان يعد نفسه لهذا اليوم العصيب، الذي فيه ترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد في هذا اليوم العظيم، في هذا اليوم المشهود يسأل الانسان هذين السؤالين، الأول: كيف اكتسبت هذا المال؟ والثاني: فيما أنفقته؟ ، في أي شئ أنفقته؟ ومن هنا يكون حديثنا اليوم حول الاجابة الشرعية التي يجب علينا أن نعدها لذلك اليوم حول هذين السؤالين الخطيرين العظيمين.
الاجابة على السؤال الاول: من اراد أن ينجو في ذلك اليوم، وأن ينال رضاء الله سبحانه وتعالى، فيجب عليه ان يلتزم بأوامر الله سبحانه وتعالى في اكتساب الأموال، بأن يكتسب المال بأوجه شرعية، بأوجه مشروعة، بطرق مشروعة وهي كثيرة وليست قليلة، ولكن النفس الامارة بالسوء ووراءها الشيطان هي التي تدفع الانسان الى ارتكاب المحرمات في الأموال، مع أن المحرم في الأموال لم يجعل الله سبحانه وتعالى فيه البركة لا في ذاته، ولا في صاحبه، ولا في عمر صاحبه، ولا في أهله الا اذا تابوا الى الله سبحانه وتعالى.
لذا يجب على كل مسلم ان يكون لديه معلومات كافية حول اساليب الرزق، وكيفية اكتساب الرزق، فإن كان تاجرا فيجب عليه أن يعلم الحلال والحرام فيما يخص جانب المال والتجارة في الأموال، واذا استشكل عليه يجب عليه أن يسأل أهل العلم (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وهذا واجب عظيم كانت الدولة الاسلامية تشارك في تحقيق هذا الواجب، مثل سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه كان يقف عند الاسواق، ويسأل التاجر بعض الاسئلة حول الحلال والحرام في البيع إن كان بائعاً، وكيف تؤجر، وكيف تكون سمسارا، وما هي الواجبات الشرعية، فاذا كان البائع له العلم بذلك سمح له ان يتاجر في اسواق المسلمين، وان لم يكن كذلك فحينئذ يمنعه وبقول له: تعلم الحلال والحرام في الأموال قبل ان تاتي الى الاسواق، حتى لا ترتكب المحرمات.
المال الحرام ليس حراما فقط ،وانما له آثار خطيرة على عباداتك وعلى تعاملك وعلى دعائك وتقربك وتضرعك عند الله سبحانه وتعالى، فاذا كان المال حراما وقد انفقته حينئذ لن يكون هناك قبول عند الله سبحانه وتعالى، واذا قمت بالحج به او بالاعتمار به حينئذ كما ورد في بعض الاثار يقول الحاج لبيك وسعديك، ويقال له لا لبيك ولا سعديك فمالك حرام ونفقتك حرام وراحلتك حرام وكسبك حرام وطعامك حرام، ان كنت صادقا في كلمة لبيك- اي استجابة لك يا رب – فكان المفروض ان تستجيب لاوامر الله سبحانه وتعالى في كسب الأموال ونواهيه في ما حرم الله سبحانه وتعالى، فإذا كنت لم تستجيب لأوامر الله، فلن يستجيب الله لك حينما تقول لبيك وسعديك، وهكذا ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الامام مسلم بالنسبة للشخص الذي يدعو الى الله ويتضرع ويقول يا رب يا رب يا رب ويتضرع ويلح، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول أنّ يستجاب له، مأكله حرام وملبسه حرام ومشربه حرام، ومن هنا يجب علينا جميعا ان نعود الى الله، ونتوب اليه، وان نطهر أموالنا ونخلص اموالنا من هذه المحرمات. ومن هذه المحرمات: الربا والغش والاحتكار والاستغلال وكذلك الخيانة والغرر وأكل المال للناس بالباطل وغير ذلك مما حرم الله ،وكذلك تطفيف في الميزان، وكذلك الغش في عرض الاشياء وفي بيعها وتقديمها وتسويقها، فالمحرمات في هذا الباب كثيرة ولا بد على كل من يتاجر في الأموال ان يكون عالما بها، او ان يسأل عنه، بل ان الله سبحانه وتعالى يطالبنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجتنب الانسان ليس من المحرمات فقط وانما الشبهات كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم “فمن اتقى الشبهات فقد استبرا لدينه وعرضه” .
البركة في الحلال، واسباب الحلال كثيرة واسباب كسب الحلال كثيرة، لم يُضيق الله سبحانه وتعالى علينا ابدا في كسب الأموال، بل فتح الله علينا، وقيد هذا الاكتساب بمجموعة بسيطة مهمة من القضايا التي تقيدنا وهي في حقيقتها لصالح المجتمع، ولصالح الانسان نفسه، فما حرم الله سبحانه وتعالى شيئا من هذا المجال الا اراد الله بذلك خيرا لصاحبه وخيرا كذلك لأمته ومجتمعه.
فهذا هو الواجب الذي يجب علينا وعليكم ان نفكر فيه، والامر ليس محصورا في التجار، بل كذلك في بقية من يعمل في الدوائر، والمدارس أو في أي حقل من الحقول الزاعية، أو الصناعية، او التعليم او التوظيف او غير ذلك ، فكل ذلك يجب ان يكون لها مواصفات وقيود شرعية فإن كنت موظفا يجب ان تكون مخلصا في عملك، وان تكون مؤديا عملك بإخلاص وإتقان، وان تبذل كل ما وسعك لإنجاح هذا المشروع، حتى لو ظلمك رب المال فإنه مادامت رضيت بهذا العقد فلا يجوز لك ان تتهاون. وقد سمعت كثيرا حينما يسألونني بأن أرباب المال يظلموننا ولا يعطوننا حقوقنا، فهل لنا ان نطيغهم بقدر ما يعطوننا؟ وأقول: بل يجب عليك ان تعطيهم بقدر ما تعاقدت معهم ” يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود”، ومن أهم الشروط لكون مال الموظف او الأستاذ او المدرس حلالا، بعد الاتقان وبعد الاخلاص وبعد التجرد وبذل كل الامور، ان يلتزم بالوقت المحدد الذي حدده العمل، فإذا كا الموظف قد حددت له الحكومة ست ساعات في اليوم، فإن أية دقيقة من هذه الساعات او الدقائق حينما يأكلها يصبح جزء من امواله ومرتبه محرما، هذه الأموال قسموه على اوقات العمل، ولا يجوز كذلك ان ينفق وقته حتى في السنن والتطوع الا بقدرالرواتب وقد حددها العلماء بركعتين، بل ان الامام الشافعي رحمة الله عليه سُؤل عن أجير، وهو مصطلح اسلامي للموظف خاصا او عاما، صلى الظهر ونسي انه بدون وضوء، ثم بعد ذلك تنبه انه صلى بدون وضوء، فاعاد الوضوء وصلى فقال الشافعي رحمة الله عليه: ان كان الشخص يريد ان تكون اجرته حلالا يجب ان يعوض صاحب العمل بمقدار قضاء صلات ظهره، لأن هذا ليس من واجبك ان تعمل وقت الصلاة فقط، وليس صلاة الظهر مرتين ، فالصلاة التي تستثنى من الوقت هي صلاة الظهر مرة واحدة .
ولكن انظروا الى اموالنا ليس فيها بركة ، انظروا الى الموظفين يأتون متأخرين، ثم يذهبون مبكرين، يبلعون ساعة او نصف ساعة، ولا سيما في الدوائرالحكومية لذا اقول لكم ان اموال الحكومة اشد الحرمة من الأموال الخاصة، لأنه اذا انت اكلت مال الشخص تستطيع ان تذهب اليه وتستسمحه، ولكن اذا اكلت مال الحكومة بدون وجه الحق فأين تذهب؟ فمن هنا يأتي الكثير من الغش، وكذلك الامور الاخرى، وشرعا اذا رضيت بالعقد سواء كان الراتب قليلا او كثيرا يجب عليك الالتزام به او ان تقدم استقالتك.
كثير من الناس يتساهلون فيها تماما، ولا سيما في اوقات العمل، انت تاخذ مرتبا عشرة الاف او اكثر في مقابل ست ساعات يوميا فاذا قللت ساعة واحدة هذا يعني 15% من نسبة اموالك محرما، وان صدر منه ذلك، يجب عليه ان يعوض بخدمات اخرى او ساعة اخرى، وهذا بافقاق الفقهاء، وحتى لو لم يكن هناك عمل يأديه أثناء وقت العمل، فيجب عليك ان تلتزم بالوقت، فإن وُجِد عمل فيجب ان تشتغل به، وان لم يوجد، فعليك ان تلتزم بالوقت، وهناك من يجلس الوقت المحدد للعمل،ولكنهم امام شاشة العرض يتاجرون في الاسهم، وهنا ارتكب الشخص الذنب مرتين، فالاول: قصر في حق صاحب العمل دولة ام شركة، والامر الثاني: استعمل اموال الدولة او كومبيوتر الدولة في صالح عمل نفسه، وليس صاحب العمل، فاصبح هذه التجارة محرمة، واصبح المرتب الذي يأخذه ان لم يكن كله محرما اصبح الجزء الذي يساوي هذا الوقت محرما.
مسائل الحلال والحرام في غاية من الاهمية، ولذلك ربط الله سبحانه وتعالى به العبادات من حيث القبول، وكذلك الدعاء من حيث التضرع الى الله سبحانه وتعالى، فلينظر كل منا الى نفسه، ليتوب الى الله سبحانه وتعالى توبة نصوحا، ويبدأ على اقل تقدير من اليوم، حتى يكون الجواب جاهزا عند ملاقاته الله سبحانه وتعالى، فإذا سألك: كيف اكتسبت ؟ فتقول: من الوظيفة. فيقال لك: ما أديت حق الوظيفة. وكذلك ان كنت مدرساً، انك تهمل في التدريس حتى يحتاج أولياء الامور والطلبة الى الدروس الخصوصية، فهذه خيانة عظمى، بل خيانتان: خيانة في حق الطلبة ووظيفتك، وخيانة في حق امتك.
يجب علينا الاتقان والاخلاص ، هذه الأمة لا تنهض بهذا العمل، انظر ماذا تعمل الدول المتقدمة، فساعات عمل اليوم في اليابان 9 ساعات وفي كوريا الجنوبية 10 ساعات، ولذلك كوريا الآن ينافس امريكا في ادق الاشياء، مع انه تطور من خلال عشرين سنة، واكبر دولة اسلامية عملت فيها الاحصائيات بالنسبة للعمل الحقيقي، فكان 20 دقيقة عمل! اين المسؤولية ؟ اين حب الوطن ؟ فإن كنت تدعي حب الوطن، فاعمل لوطنك. فلذلك نصيحت لأخواني وأخواتي ان يعملوا بجهد واجتهاد وان يبدعوا وإلا الامة تصبح عالة على انفسنا وعلى الدولة.
ولذلك الاسلام يحثنا على العمل، انظر مسألة يوم الجمعة في القرأن، الله سبحانه وتعالى نزل فيه اربع اوامر، أمران في الصلاة وأمران في العمل “يا أيها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع ” فهذا امران في الصلاة ، اي اتجهوا الى الصلاة واتركوا البيع في فترة الخطبة، ثم بعدها مباشرة يقول الله سبحانه وتعالى ” وإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله” انتشروا للرزق ومن ثم ابتغوا من فضله اي عمل له ارباح وليس عملا فاضيا او عاديا بل عمل جدي يتحقق منه نتائج ، ففضل الله يعني ارباح متحققة والانتاج ماديا ومعنويا.
الخطبة الثانية
ايها الإخوة المؤمنون
مسألة الحلال والحرام هي خصوية لهذه الامة، في جميع مجالات الحياة، وهي الدافع وراء تقدم هذه الامة، حينما كانت ملتزمة بالحلال والحرام في كل مجالات الحياة، واذا كنا قد تحدثنا عن الحلال والحرام في جانب بسيط من جوانب المال، وهو كيف اكتسبت هذا المال، نتحدث عن علاقة الانسان بأخيه الانسان من حيث نفسه وروحه ، وكيف حرم الله سبحانه وتعالى هذه النفس وجعل الاعتداء عليها وقتلها بمثابة قتل الناس جميعا “من قتل نفساً بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعأ” ومن هنا جاءت الآيات القرآنية بشكل يفهم منها أن من قتل عمداً لا تقبل توبته، وهذا هو رأي امام عباس رضي الله عنه، في رواية منه، إلا اذا قدًم نفسه واقتص منه أو عفي منه، ويستشهد بقول الله سبحانه وتعالى “ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاءه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا أليماً” لا توجد في القرآن الكريم آية تذكر هذه الشدة الخلود واللعنة والغضب والإعداد إلا لمن يقتل مؤمناً متعمداً. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” لا يزال المؤمن في فسحة “الا اذا اراق دم امرئ مسلم”.
واليوم اذا نظرنا الى هذه الايات والحلال والحرام في هذا المجال ، ما الذي يحدث في عالمنا ، تقتل الابرياء وتراق دماءهم بعقلية باردة وعقلية دكتاتورية غريبة، وفي كل يوم يقتل هؤلاء الشباب والاطفال في سوريا وفي اليمن ، تراق دماءهم لأجل شخص أو نظام فاسد وصل الى الحكم بطريق غير شرعي، وحتى لو أتى بطريقة شرعية، فاراقة الدماء على هذا المستوى، يفقد شرعيته بإتفاق العلماء، لأن المقصد الشرعي من الامام او من خليفة المسلمين او من أي حاكم هو حماية المسلمين فإذا تحول من الحماية الى القتل أصبح فاقدا للشرعية تماماً، وهذا الذي يجري مع الاسف الشديد، والوضع الذي عليه بعض الشعوب الدول العربية، والعالم ساكت، والجامعة العربية تريد أن تقدم مشروع مصالحة، ولكن أي مصالحة؟ ومع من؟ انت تصالح حينما القاتل عرفا وشرعا تسلم نفسه و|أن يكون مستعداً ان يُقتل هو لأنه قد قَتل واحدا أو اثنين ، فكيف تصالح لأبقاء الظالم ليعث في الارض فسادا اكثر وأكثر؟ فلذلك نحن نوجه نداءنا الى امتنا الاسلامية والعربية، والى الحكام والعلماء ان يقفوا مع اخوانهم، مع الشعب السوري، والشعب اليمني، ليس للمصالحة فقط ،وانما لإزالة هذا النظام حتى ترتاح هذه الشعوب وتقرر مصيرها، وهي حق أعطاها الله للإنسان والشعوب، كما أعطته الدول والامم المتحدة لكل الشعوب أن يختار الانسان من يمثله.