أيها الإخوة المؤمنون

حين ننظر إلى تشريعات الله تعالى في القرآن الكريم وآياته العظيمة، وكذلك سنن النبي صلى الله عليه وسلم المطهرة نجد أنها تركز على مسؤولية الإنسان وعلى متابعته ومراقبته في الدنيا والآخرة حتى يكون صالحاً بكل ما تحمل الكلمة من معنى الصلاح، صالحاً في نفسه، صالحاً في مجتمعه، صالحاً لتحمل الأمانة، صالحاً لتعمير الكون والاستخلاف في الأرض، صالحاً للأخوة الإيمانية، صالحاً للأخوة الإنسانية، قائماً بالقسط والعدل، وهذا جزء من العقائد العظيمة التي جاء بها الإسلام.

وقد ذكرنا في الخطبة السابقة آثار الإيمان بالله تعالى وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا على سلوك الإنسان وتصرفاته، ومن أهمها الصفات المشتركة التي يمكن أن يتحلى بها الإنسان في سلوكه، ومنها الرحمة والعدل.

واليوم نتحدث عن ركن آخر من أركان الإيمان، وهو ركن لا يقل أهمية عن الأركان الأخرى التي يجب على المرء الإيمان بها، ألا وهو الإيمان باليوم الآخر؛ إذ يركز هذا الركن والإيمان به على مسؤولية الإنسان مسؤولية تامة عن تصرفاته القولية والفعلية والعملية، وأنها لا تنتهي في الدنيا وإنما تتصل باليوم الآخر من حيث الجزاء الأوفى والثواب.

إن الإيمان باليوم الآخر يشمل الإيمان بالبعث والنشور، والإحياء وأن الله تعالى يحيي الكائنات كلها، وأنه يحيي الإنسان بعد موته، وأن يحشرهم إليه جميعاً، ويشفع الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعته العظمى، ثم توضع موازين القسط والعدالة، فلا تظلم نفس شيئاً، وإن كان مثقال حبة من خردل، ثم يقسم الناس إلى فريقين؛ فريق في الجنة، وفريق في السعير، وغير ذلك مما هو في عالم الغيب.

والجدير بالإشارة هنا أنه لا يجوز أن ينسب إلى عالم الغيب ما لم يثبت بدليل شرعي ثابت صحيح، حتى لا يجوز الاعتماد على الأحاديث الضعيفة في التحدث عما هو غيب وما يكون في الجنة من نعيم  وما يكون في النار من جحيم، وليس للعقل سبيل إلى اكتشاف ذلك، بل العقل حجة في إثبات ذلك اليوم ودالٌّ عليه، وهو يوجب الإيمان باليوم الآخر وأنه حق لا ريب فيه وأن هذا ثابت شرعاً وعقلاً.

فلا يجوز التساهل في نقل الأخبار والأحكام والقصص التي لم تثبت بنص صريح صحيح من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بذلك، ولا يجوز نشرها في وسائل التواصل الاجتماعية ولا تداولها ولا تكرارها، ومن فعل ذلك أثم إثماً عظيماً.

إن المتتبع لآيات الله تعالى ليجد أنها أولت عناية قصوى باليوم الآخر وبالإيمان به، حيث لم يذكر الله تعالى في كتابه العزيز الإيمان به إلا وقرن به في الغالب أو الأكثر الإيمان باليوم الآخر، منها قوله تعالى: { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ }[1].

ومن الآيات الدالة على أن الإيمان باليوم الآخر حق وأنه لا ريب ولا شك فيه، ما قصه الله تعالى علينا في سورة يس، في قوله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ }[2]، حيث روى المفسرون وأهل السير في سبب نزل هذه الآية، "أن أبي بن خلف أو العاصي بن وائل مرَّ برمة بالية فأخذها، وقال: اليوم أغلب محمداً، وجاء إليه، فقال: يا محمد، أنت الذي تزعم أن الله يعيد هذا كما بدأه، وفتته بيده، حتى عاد رميماً"[3]، فأنزل الله تعالى جاوباً قاطعاً { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }[4]، فالذي أنشأها من العدم قادر على أن يعيد إنشاءها وقد بقيت آثاره، و هو ما يسمى بعجب الذنب.

وإن الله تعالى ليضرب لنا مثلاً في ذلك مشاهداً لا يمكن إنكاره، وليس لعاقل أن يجحده، وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[5]، فكذلك إحياء الإنسان وبعثه بعد موته.

والآيات في ذلك كثيرة مبثوثة في القرآن الكريم.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الإيمان بالله تعالى إلا وثنى بالإيمان باليوم الآخر، من ذلك الحديث الصحيح الثابت الذي فصل فيه عليه الصلاة والسلام مراتب الإسلام، حين جاءه جبريل عليه السلام، سائلاً ومعلماً، حيث قال جبريل عليه السلام: " فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"[6].

إن هذا الركن لازم وناتج عن الإيمان بالله تعالى، وعن الإيمان بعدل الله تعالى المطلق، لأنه من المشاهد على مر التأريخ أن هناك ظلمة عاثوا في الأرض الفساد، وتجبروا وتكبروا على العباد، وطغوا في البلاد، وعاشوا حياة الرفاهية، ثم ماتوا دون أن يقتص منهم على ما اقترفوا من الإجرام في حق العباد والبلاد، ولم ينالوا عقوبتهم الكبرى التي يستحقونها، ولو لم يكن هناك يوم يعادون فيه للحساب والعقاب لما تحقق فيهم عدل الله تعالى، وعدل الله تعالى يقتضي أن يجازى كل إنسان على ما سعى وقدم، إما في الدنيا وإما في الآخرة، والمؤمن يجزى في الدنيا والآخرة، وأما الكافر فإنه يجزى في الدنيا على ما قدم من خدمات للإنسانية من خلال المال والشهرة، ويحاسب في الآخرة على ما أساء، ويكون من الأخسرين إذا بلغته الدعوة الإسلامية صحيحة ولم يؤمن بها، أما إذا لم تبلغه الدعوة الإسلامية بالشكل الصحيح فأمره إلى الله تعالى، فالإيمان باليوم الآخر وما فيه من الجزاء والعقاب والثواب والحساب، وما فيه من العدل، أمر تقتضيه الفطرة السليمة، والعقل المستقيم.

فإذا ترسخ هذا الإيمان في نفس الإنسان سارع إلى الصالحات، وابتعد عن المنكرات، وتقرب إلى الله تعالى بامتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه، لأنه يعلم يقيناً أن الله تعالى لم يخلقه عبثاً، و أنه لم يخلق الدنيا إلا اختباراً له وامتحاناً، ولتكون مزرعته إلى الآخرة.

إنه يدرك أن ما يزرعه اليوم في الدنيا من ورد وزهر وخير يحصده يوم القيامة عنده الله تعالى أضعافاً مضاعفة، وما يزرعه من شوك وأذى ومعاصٍ وإثم يحصده يوم القيامة خزياً وعاراً.

ليس الإيمان بالتمني، وليس مجرد كلمات تلوكها الألسن، وإنما ما وقر في القلب، وصدقه العمل، و من العمل الواجب على العاقل المؤمن باليوم الآخر أن يستعد لسفر لا بد منه، وهو الرحلة إلى الآخرة، فكما أنه لا يرضى أن يسافر في رحلة دنيوية إلا بعد الاستعداد التام، والتزود بالزاد والراحلة، وبما يحقق له الأمن في الطريق والاستقرار عند الوصول إلى وجهته، فكذلك الرحلة إلى الآخرة التي هي خير وأبقى، وخير زاد يتزود به هو التقوى.

فتأهبوا ـــ أيها المؤمنون ـــ للذي لا بد منه، واستعدوا لسفر طويل لا يدرك أمده، ولا يعلم منتهاه، في يوم تقفون فيه بين يدي الله تعالى فرادى، لا ينفع مال ولا بنون، ولا يغني جاه ولا سلطان، ولا يملك أحدنا لنفسه فتيلاً ولا يحسن قيلاً، إلا من أذن له الرحمن.

ليكن إيماننا بالله واليوم الآخر دافعاً نحو الخير محفزاً للتزود بالتقوى، رادعاً عن الشر والفحشاء والمنكر والبغي والعدوان.

الخطبة الثانية

إن الإيمان باليوم الآخر يجعل الدنيا في نظر المؤمن كجناح بعوضة، لا قيمة لها، لأنه يؤمن أنه مهما طال عمره، ومهما عاش في هذه الدنيا فإنه مفارقها ومدركه الموت، إنه لا يخرج من الدنيا وسعتها إلا بشيء يسير من الحنوط والكفن.

ولتكن قلوبنا متعلقة بالله تعالى وبما عنده، ولنعمل في الدنيا وفق إرادة الله تعالى، ولتكن تصرفاتنا مرضية لله تعالى حتى نسلم في سفرنا إلى الآخرة، وفي رحلتنا إلى الله تعالى.

وليكن الإيمان مؤثراً في قلوبنا وجوارحنا، فلنتحابب في الله تعالى، ولنترك التنافس على الدنيا والتناحر فيها، وليكن شعارنا { إنما المؤمنون إخوة } حتى لا يقف أحدنا يوم القيامة موقف المفلس، إذ يأتي بكثير صلاة وصيام والصالحات، ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وسفك دم هذا، فيُعطى الكل من حسناته، وخيراته، وكأنه يعطيها لمن عاداه في الدنيا وآذاه.

وليكن الإيمان بالله واليوم الآخر دافعاً نحو الإحساس بمآسي إخواننا الذين تربطنا بهم روابط الدين، ولنقدم لهم ما تجود به أنفسنا طيبة، ولنؤثرهم على أنفسنا في جزء مما عندنا حتى تدوم الألفة والأخوة الإيمانية نابضة في مجتمعاتنا الإسلامية.

اللهم أصلح أحوالنا.

 


[1] سورة آل عمران، الآية: 114

[2] سورة يس، الآية: 78

[3] أحكام القرآن لابن العربي ( 4 / 23)

[4] سورة يس، الآية:79

[5] سورة الزمر، الآية: 21

[6] رواه البخاري برقم( 50 و 4499)  ومسلم برقم ( 8 ) واللفظ لمسلم.