إن من المتفق عليه بين الفقهاء أن مقاصد الشريعة تكمن في تحقيق المصالح والمنافع والطيبات ودرء المفاسد والمضار والخبائث عن الانسان فرداً أو جماعة ، في الدنيا ، والآخرة ، فقال تعالى ( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ )[1] .
كما أنهم اتفقوا على أن هذه المصالح على ثلاث مراتب :
أولها وأهمها : المصالح الضرورية المتعلقة بالدين ، والنفس ، والعقل ، والمال ، والنسل ، وأضاف بعضهم العرض أي شرف الإنسان وسمعته وكرامته ، والآخرون أدخلوه في النسل ، وبذلك أصبحت الضروريات هي ما لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا ، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ، بل على فساد وفوضى ، وفوت حياة ، وفي الآخرة ، فوت النجاة والنعيم ، والرجوع بالخسران المبين[2] .
يقول الإمام الشاطبي : ( والحفظ لها يكون بأمرين : أحدهما : ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود ، والثاني : ما يدرأ عنها الاختلال الواقع ، أو المتوقع فيها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم……… )[3] .
المرتبة الثانية للمصالح هي الحاجيات ، ومعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تراع تتحقق المشقة في الجملة .
المرتبة الثالثة هي التحسينات والتكميلات ، ومعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات ، فهذه ليس فقدانها بمخلّ بأمر ضروري ولا حاجي ، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين[4] .
وقد وضع القرافي خمس ضوابط في هذا المجال في غاية من الأهيمة وهي :
أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي .
أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين باطلاق
أنه لا يلزم من اختلال الحاجي والتحسيني اختلال الضروري
أنه قد يلزم من اختلال التحسيني باطلاق اختلال الحاجي بوجه ما ، ومن اختلال الحاجي باطلاق اختلال الضروري بوجه ما .
أنه ينبغي المحافظة على الحاجي ، وعلى التحسيني للضروري
ثم قال : ( إن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة ، وكذلك الأمور الاخروية لا قيام لها إلاّ بذلك …. )[5] .
وهذا يدل بوضوح على أهمية هذه المراتب الثلاث التي هي في حقيقتها متواصلة ومرتبطة ، لا تتكامل ، ولا تترابط إلاّ بالحفاظ عليها جميعاً ، وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على النظرة الشمولية .
الضروريات الثماني في نظرنا :
لم أرَ من سبقني أن ذكر من الضروريات إلاّ الخمس أو الست ، وهي : ( الدين ، والنفس ، والعقل ، والمال ، والنسل ، والعرض ) .
ولكن بالتعمق في هذه الضروريات وجدنا أن معيارها هو الأهمية ( بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ) ، ووجود عقوبات شرعية محددة لكل واحدة منها ( أي الحدود والقصاص ) حيث وضع على الارتداد ( أي الاعتداء على الدين ) عقوبة الردة ، وعلى الاعتداء على النفس القصاص ، وعلى الاعتداء العقل حدّ الشرب ، وعلى الاعتداء على المال حدّ السرقة ، وعلى الاعتداء على النسل حدّ الزنا ، وعلى الاعتداء على العرض حدّ القذف .
فإذا كان المعيار هو وضع الحدود فإن هناك أمرين لهما أهمية قصوى لا تقل عما سبق ، وأن على الاعتداء عليهما الحدّ ، وهما :
ضرورة الحفاظ على أمن المجتمع ، حيث وضع الاسلام عليه أشد العقوبات ، والحدود ، وهي حدّ الحرابة والفساد في الأرض حيث يقول تعالى : ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )[6] .
ضرورة الحفاظ على أمن الدولة الشرعية واستقرارها ، ولذلك وضع الإسلام عقوبة شديدة على من يخرج بالسلاح على الدولة ، وهي حدّ البغاة ، وهو القتل إلى أن ينتهوا ويفيئوا إلى الصلح والسلام ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )[7] .
وبذلك أصبحت أنواع الضروريات ثمانية وتتبعها الحاجيات ، والتحسينات الثمانية المرتبطة بكل واحدة منها ، وهي في حقيقتها تمثل البنية التحتية للمجتمع ، والدولة في نظر الشريعة الاسلامية الغراء ، وهي تشمل البنية التحتية بنوعيها الصلبة والمرنة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) سورة النحل / الآية 30
([2]) الموافقات للشاطبي ط. دار المعرفة / بيروت (2/324)
([3]) المصدر السابق (2/324-325)
([4]) المصدر السابق نفسه
([5]) المصدر السابق (2/331) مع تعديل طفيف على فقرة (4)
([6]) سورة المائدة / الآية 33
([7]) سورة الحجرات / الآية 9