أيها الإخوة المؤمنون
إذا نظرنا إلى أحوال هذه الأمة العظيمة، الأمة الإسلامية لوجدنا أن أكبر مشكلاتها، وأكبر مصائبها، وأعظم فتنها تعود إلى " تفرقة لا متناهية " التي أصبح بها المسلمون يتفرقون يوماً بعد يوم، من أمة واحدة إلى أمم شتى مختلفة، من حيث القوميات، ثم من حيث المذاهب والطوائف وغير ذلك، ثم أكثر من ذلك حتى أصحاب الدعوة، أو المنتسبون إلى الإسلام يتفرقون تفرقات هائلة.
غريب أمر هذه الأمة، رغم وجود الرسالة الخالدة، القرآن الكريم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرته العطرة، وكل ما في الكتاب والسنة يركز على قضية الوحدة والجماعة، وأن يكون الجميع جسداً واحداً، ويداً واحدة، كأنهم جميعاً في سفينة واحدة، الهدف واحد، والمصير واحد، كل ذلك لا يؤثر كثيراً في هذه الأمة، ولا يترك فيها أثراً، بل تزداد الأمة تفرقاً وتخلفاً، وتزداد حراباً وحرباً واقتتالاً.
هنا يرد سؤال يفرض نفسه على كل قارئ للكتاب والسنة، وعلى كل متابع للسيرة العطرة، وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين، لماذا تزداد الأمة تفرقة؟
والذي يطلع عن كثب على واقع الأمة اليوم، ويقارنها بما كانت عليه الأمة في عهد الرعيل الأول، ليجد بوناً شاسعاً وفرقاً كبيراً بين ما كانت عليه الأمة، وما هي عليه اليوم، وليدرك تماماً أن أمة اليوم ليست هي الأمة المرجوة، التي أخرجها الله تعالى للناس أجمعين، بما آتاها من خصال حميدة، وشمائل مجيدة، على رأسها الرحمة للعالمين عامة، وبالمسلمين خاصة.
وبعد ان يستريح من عناء المقارنة يضع يده على الجرح، ويتيقن أن ما حدث من فجوة بين حالَي الأمة سلفها وخلفها راجع إلى قضية التربية، وهنا يستكشف موضع الخلل، ويضع يده على مكامن التفرقة والضياع، فيعلن أن الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى العودة إلى التربية التي تربى عليها سلف الأمة، وتعلو عقيرته أن عودوا جميعاً ــــ أفراداً وأسراً وجماعات ــــ إلى تلكم التربية الناصعة التي قدمت القدوة الصالحة، وأسست الأسوة الحسنة.
الخلل لا يأتي مباشرة إلى التصرفات والأفعال والأعمال، فما هي إلا نتائج تصورات وعقول، وثمار تربية تربت عليها الأمة، ويستحيل أن يصل الإنسان العاقل الذي تربى تربية إسلامية صحيحة صالحة إلى انحطاط في الفكر، وإلى تبني التفرق والتمزق.
تربيتنا اليوم تركز على تربية العقلية الفردية وتقديس الذات، على مستوى الفرد والأسرة والقبيلة والقومية، وفي هذه التربية معاناة كبيرة، فهي لا تريبي مجتمعاً ولا أسرة، ولا فرداً، ناهيكم عن بناء الأمة الواحدة.
إن الله تعالى يريد لهذه الأمة أن تتربى على بناء العقلية الجماعية، التي تهدف إلى حب الخير لكل فرد في المجتمع، من خلال ربط المصالح المرجوة للأمة بالعقيدة الصحيحة وبالحكمة والعقل السليم، ولا يريده أن يتربى على العقلية الجمعية النفسية التي تنمي في الفرد الأنانية المفرطة، والحب الطاغي الذي يردي بالأمة، ولا يكون لها إلا أثر سلبي أو عكسي.
ولما قامت التربية اليوم على العقلية الجمعية انعكست آثارها على الأمة، فغدت أمة هشة ضعيفة، غير قادرة على التأثير.
الذي يريده الإسلام من المسلم أن يعتقد أن التربية القائمة على الوحدة والجماعة فريضة شرعية، وعقيدة إسلامية، يجب الإيمان بها، وأن الوحدة قضية أخلاقية، يجب التحلي بها، ويلزمه ربطها بجوانب المصلحة الحقيقية والحكمة، وأن يتربى النشء على ذلك من خلال الكتاب والسنة، لأن عكس الوحدة لا يجلب على الأمة إلا البغيضة والحقد والحسد، ولا يقدم للأمة إلا الضياع.
لا تخفى على عاقل حصيف حاجة الأمة إلى التربية الشاملة لكل جوانب الحياة، الشاملة للروح؛ حيث يتمتع كل فرد في الأمة الإسلامية بروح جماعية إنسانية خيرة عالية، يشمئز من الروح النازلة الهابطة الضعيفة الذليلة، إذ الروح الذليلة لا يرجى خيرها.
كما أن الأمة بحاجة إلى تربية شاملة للقلب والنفس، حتى يغدو القلب سليماً من الإحن والعداوات والشحناء، إذ الملاحظ اليوم أن أكثر القلوب يعشعش فيها الحقد والحسد والكراهية والبغضاء، حتى على مستوى الأسرة الواحدة، فكيف تثمر تربية مصابة بانفصام بين الروح والقلب والنفس، لا تقلي بالاً إلا بالظاهر.
أما الأجيال التي سلفت وخلت ما كانت تفرق بين ظاهر وباطن من حيث وجوب التربية والاعتناء، بل كانت تتصالح بقلوبها السليمة الصافية، قبل المصالحة بالجوارح والأموال، وفي قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه خير دليل على التربية الحسنة لتلك الأجيال، حيث تولى منصب القضاء مدة عامين في عهد الخليفة الراشد الأول، سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، فما اختصم إليه أحد، فذهب إلى أبي بكر الصديق و طلب إعفاءه من منصبه في القضاء و الحكم بين المسلمين، و قال له : يا عُمر أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء ؟
فقال عمر: لا يا خليفة رسول الله، و لكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين عرف كل منهم ماله من حق فلم يطلب أكثر منه، وعرف ما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحبه لنفسه إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب واسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون يا خليفة رسول الله؟.
إن الأمة اليوم بحاجة إلى تربية مثل هذه، تربية مبنية على أسس الكتاب والسنة، مستقاة من قوله تعالى: { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فالكتاب كل مقروء، ولا سيما القرآن الكريم، والحكمة كل ما تنتجه العقول السليمة.
ولم تصل أوروبا إلى الوحدة في عصر الديانة المسيحية، ولكنها وصلت إليها عن طريق المصالح الاقتصادية.
فالربط بين قضية الوحدة والتربية وصناعة العقل الجماعي أمر مهم لا بد منه، ولو ملك العرب والمسلمون هذا الشعور لما سقطت هيبتها، ولما تفرق سؤددها، ولبقيت أمة تقود العالم، وتسوده.
على كل فرد في الأمة أن يحس بالمسؤولية، وأن يدرك أننا جميعاً أمة واحدة في جلب المنافع ودرء المفاسد، أمة واحدة في الشراكة في الخير والشر، ووحدتنا ليست قائمة على المصالح الشخصية، نتحد عن المصالح ونتآلف، أما إذا قضيت تلك المصالح أو فنيت كدنا لبعضنا، وتأجج الخلاف والخصام، ولقد أجاد تعبيراً عن هذه الحالة الشاعر عمرو بن الحارث:
وإذا تكون كريهةٌ أُدعى لها … وإذا يُحاس الحَيسُ يُدعَى جُنْدبُ
وإن لنا في قصص الأولين في الحفاظ على الوحدة لخير مثال، إن الله تعالى ذكر لنا قصة استخلاف موسى أخاه هارون على بني إسرائيل، واتخذ بنو إسرائيل من بعده العجل إلاهاً، ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا، وبدأ بمعاتبة أخيه هارون، كانت حجة هارون أنه أراد الحفاظ على الوحدة، ثم يمكن تصحيح العقيدة، قال تعالى حكاية عن ذلك : { إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ }.
كما أن العلماء ذكروا أن سبب نزول قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } أ أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ، وذلك أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة ، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب ، ففعل ، فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم ، وتواعدوا إلى الحرة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ " وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا ، وألقوا السلاح.
ثم ذكر الله تعالى العلاج الناجع للفرقة، ألا وهو كتاب الله تعالى وتلاوته حق التلاوة، ووجود السنة المطهرة بين أجيال الأمة، والعمل بهما، { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ }.
ولئن تشاءم أكثر فقال: لم تعد هذه الوسائل نافعة لجيلنا، قلنا له: فلنكن أكثر تفاؤلنا بالأجيال القادمة، حيث تربى على العقلية الجماعية النابعة من معين الكتاب والسنة، وليس على تفسير النصوص بما تقتضيه أهواء النفوس، ولا تفسير الأحوال بما تقتضيه المصالح الفردية أو الأنانية.
حاجة الأمة اليوم إلى هذه التربية أشد من حاجتها إلى الطعام والشراب، لا تغني عنا كثرتنا شيئاً، بلغ عد د المسلمين اليوم إلى مليار وسبعمائة مليون، ولا شيء يوحدهم، ولا أهداف تجمعهم، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يقدمون لحل مشاكلهم وعلاج قضاياهم فتيلاً ولا قطميراً، ليس لهم في الميادين إلا قيل وقال، وهدر للطاقات وإسراف للأموال، أما اليهود فكما يزعمون أنهم بلغوا إلى العدد ستة وثلاثين مليوناً في العالم، ولكنهم يملكون زمام كل شيء، ويتحكمون في مصير كل شيء، وإن هذا لمن المفارقات العجيبة، أن يتسلم قيادة كل شيء شرذمة قليلة من شذان الآفاق، وليس لأمة المليار وسبعمائة مليون من الأمر شيء.
كم هو مفرح أن يتحد ولو مائة مليون من المسلمون على كلمة سواء، ولو اتحدوا ولحلت كل قضايانا، ولاستلمنا عرش الوجود من جديد.
الأمل في الله كبير، ونفوض أمرنا إليه إنه بصير بالعباد.
الخطبة الثانية:
قوة الأمة في وحدتها وحضارتها وتقدمها وعلومها، ولكن القوة المادية المتمثلة بالحضارة والتقدم أيضاً مرتبطة بأن تكون الأمة واحدة لها خططها واستراتيجياتها.
اليوم أمة المليار و سبعمائة مليون ليس لها أي مشروع استراتيجي، ولا برامج نافعة ، ولا مناهج متحدة، بينما هناك خطط ومشروعات لكل شعب ولكل أمة.
لو اجتمعت الأمة العربية لاستطاعت أن تحل قضاياها، ولكن البعض منهم ما يزال ينتظر أن يأتي الحل من هيئات دولية، أو يأتي الأمر من منظمات عالمية.
أمتنا مهددة بكل ما تعني الكلمة، إذا لم تتحد على كلمة سواء، وهي مشغولة بنفسها في شتى بقاع العالم الإسلامي، تتنازع بناء على الاختلاف في الفكر والرأي.
أليست هناك كلمة تجمعنا؟
أليس الإسلام كافٍ لوحدتنا؟
أليست بيننا مصالح مشتركة تؤلف بيننا؟
اللهم وحد كلمتنا، وأصلح أحوالنا.