التعريف بالحوار والكلمات ذات العلاقة :

أ ـ الحوار ، لغة مصدر حاور من باب المفاعلة التي هي للمشاركة التي يظهر فيها قوة الفاعل على عكس مشاركة باب التفاعل التي تدل على المساواة بين المتشاركين .

فإذا أريد التعبير عن مشاركة متساوية يعبر عنها بباب تفاعل ، فيقال : تحاور زيد وعمرو أي اشتركا في المراجعة دون أن يغلب أحدهما على الآخر في حين إذا أريد التعبير عن أحد المتحاورين يريد إلزام الآخر بالحجج والبراهين قيل : حاور زيد عمراً .

والحوار والمحاورة بمعنى المراجعة في الكلام ، وأصله : حار بمعنى رجع ، فقال تعالى : ( إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ)[1] وبمعنى التردد فيقال : حار في أمره ، وحاوره محاورة وحواراً : جاوبه ، وجادله[2] .

وقد ورد في القرآن الكريم بلفظ ( يحاوره ) مرتين في سورة الكهف : ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)[3] و ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)[4] و بلفظ تحاوركما في سورة المجادلة : (…. وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ….. )[5] .

 

ب ـ الجدال والمجادلة ، هما مصدرا جادل من باب المفاعلة أيضاً ، والجدال من الجدل وهو في أصل اللغة من : جدل الحبل إذا فتله ، ويطلق على المخاصمة والمراجعة لاظهار ما يؤمن به المجادل[6] ، قال أبو البقاء : ( الجدل هو عبارة عن دفع المرء خصمه عن فساد قوله بحجة أو شبهة ، وهو لا يكون إلاّ بمنازعة غيره ، والنظر قد يتم به وحده)[7] .

وفي الاصطلاح لا يختلف معناه كثيراً عن معناه اللغوي يقول أبو البقاء : ( والمجادلة هي المنازعة في المسألة العلمية لالزام الخصم سواء كان كلامه في نفسه فاسداً أو لا )[8] .

وقد استعمل الجدل ، والجدال وأفعالهما في القرآن الكريم 29 مرة منها قوله تعالى : (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ)[9]  وقوله تعالى : ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )[10] .

ويظهر من الآيات التي استعملت فيها هذه الكلمة أن الناس استعملوا الجدال في انواع كثيرة في الدنيا والآخرة ، وان الجدال قد يكون بالحق ، وقد يكون بالباطل ، وقد يكون بالأحسن ، وقد يكون بالأسوأ ، كما دلت على أن الجدل من طبع الانسان ، ولكن الشرع هو الذي يهذب كيفية هذا الجدال ليكون بالأحسن الذي تتوافر فيه القيم السامية والآداب الحسنة فقال تعالى : ( وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)[11] وقال أيضاً ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )[12]  كما أن الجدال قد يكون للوصول إلى بيان الحق فقط كما في قوله تعالى : ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[13] .

ونقف وقفة من أن القرآن الكريم خص الجدال مع أهل الكتاب بالجدال بالتي هي أحسن بأسلوب الحصر فقال تعالى : ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[14]  فقد قال المفسرون[15] في بيان سبب هذه الخصوصية : ان هذه الآية محكمة وليست منسوخة وأن أهل الكتاب بما أنهم مشتركون مع المسلمين في أصل الايمان بالله ، والغيبيات فيجب مراعاة ذلك ، بحيث يختار أحسن الأساليب لفظاً ومعنى ودلالة في جدالهم ، ولذلك أشار القرآن الكريم إلى القواسم المشتركة بيننا وبينهم فقال تعالى : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[16]  .

ولم يكتف القرآن بهذه الخصوصية ، بل عمم الأمر بالجدال بالتي هي أحسن لجميع أمور الدعوة ، فأمر الله تعالى نبيه بقوله : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[17] .

 

ج ـ المناظرة ، مصدر ناظر من باب المفاعلة أيضاً ، وهي من النظر بمعنى الرؤية ، أو التدبر ، والتفكير[18] .

والمناظرة في الاصطلاح هي : النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين اظهاراً للصواب وقد يكون مع نفسه[19] .

 

د ـ المناقشة ، هي مصدر ناقش ، وهي لغة من النقش ، فيقال : نقش الشيء نقشاً ، أي بحث عنه ، واستخرجه ، وناقشه مناقشة ونقاشاً أي استقصى في حسابه ، وناقش المسألة ، أي بحثها[20] .

والمناقشة في الاصطلاح هي : مراجعة الكلام بقصد الوصول إلى الحق غالباً[21] .

 

هـ ـ المراء ، والمماراة ، مصدر : مارى يمارى ، أي ناظره وجادله ، وفي التنزيل :  ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً )[22] وقوله تعالى ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى)[23] أي تتجادل وتشك ، حيث يقال : تمارى القوم أي تجادلوا ، وتمارى في الشيء أي شك فيه[24] .

قال الفيومي : ( ولا يكون المراء إلاّ اعتراضاً ، بخلاف الجدال ، فإنه يكون ابتداء واعتراضاً )[25] .

 

التعريف المختار للحوار والجدال :

الذي يظهر لي من هذا العرض أن الحوار والجدال في الاصطلاح بمعنى واحد ، وان كان لفظ الحوار أرق وأخف وأكثر دلالة على الرقة والهدوء من لفظ الجدال وبالتالي فالتعريف المختار لهما هو :

( المراجعة بالكلام ونحوه بين شخصين في الحجج والبراهين للوصول إلى ما يريدانه أو يريده أحدهما ، اظهاراً لما يعتقد صحيحاً ، او كشفاً للحقيقة ) .

 

 

الفروق بين هذه الكلمات والكلمات المتقاربة بايجاز :

نكتفي في هذه الفروق بين المناظرة ، والمجادلة ، والمكابرة ، والمعاندة ، والمغالطة ، والمناقضة بما ذكره أبو البقاء في كلياته حيث يقول : ( المناظرة هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين اظهاراً للصواب ، وقد يكون مع نفسه ، والمجادلة هي المنازعة في المسألة العلمية لالزام الخصم سواء كان كلامه في نفسه فاسداً أو لا ، وإذا علم بفساد كلامه وصحة كلام خصمه فنازعه فهي المكابرة ، ومع عدم العلم لكلامه وكلام صاحبه فنازعه فهي المعاندة ، وأما المغالطة فهي قياس مركب من مقدمات شبيهة بالحق ، وتسمى سَفْسَطة ، أو شبيهة بالمقدمات المشهورة ، ويسمى مشاغبة ، وأما المناقضة فهي منع مقدمة معينة من الدليل إما قبل تمامه وإما بعده … والمناقشة المصطلح عليها في علم الجدل هي تعليق أمر على مستحيل اشارة إلى استحالة وقوعه ….. والمعارضة هي في اللغة عبارة عن المقابلة على سبيل الممانعة  والمدافعة ….. )[26] .

ونحن لا نتحدث عن هذه المعاني والمصطلحات المنطقية والجدلية والكلامية ، وإنما نتحدث عن الجدال والحوار حسب مفهومهما القرآني ، حيث استعملهما في معنى واحد ، وجمعها في آية واحدة للدلالة على معناهما الواحد فقال تعالى : ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[27]  .

كما تبين لنا من الآيات الكريمة التي ورد فيها لفظ التحاور والجدال أو مشتقاتهما أنهما تشملان كل الصور العقلية من الجدال والحوار بالحق ، أو بالباطل ، أو لأجل بيان الحقيقة ، حتى الجدال في الدنيا وفي الآخرة ، كما أن هذه الايات تتضمن مجموعة من المبادئ والضوابط والآداب التي تتعلق بالحوار والجدال ـ كما سيأتي ـ

 

حكم الحوار :

الحوار من حيث المبدأ مشروع ، ولكن الحكم التكليفي فيه يختلف باعتبار الغاية والوسيلة فإن كانتا مشروعتين بأن كانت الغاية إحقاق الحق أو إبطال الباطل ، والوسيلة مباحة ، فهو حوار ممدوح ، ومشروع ، وحينئذ قد يكون مستحباً إذا حقق الحوار خيراً للفرد ، أو الجماعة أو الأمة ، أو درء شر لهم ، وقد يكون واجباً كفائياً للدفاع عن الحق بالأسلوب السليم ، لأنه يدخل ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعطة الحسنة ، والجدال بالأحسن فقال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[28] وقال تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[29]  .

كما ان الحوار بالحق ، والجدال بالتي هي أحسن من سنن الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ، مع أممهم ، حتى يتضح الحق ويحق الصواب ، ويبطل الباطل  ويزهق الشر ، ولا يتم ذلك إلاّ بالحجج والبراهين والأدلة التي تبرز من خلال الجدال والحوار ، وهذا هو المقصود بإقامة الحجة عليهم بالرسالات المستظهرة بالعقل والمؤيدة بالبراهين[30] .

وقد يصبح الحوار والجدال فرض عين إذا تعين على شخص ما الدفاع عن الحق ، أو إذا علم بأن الحق لا يظهر إلاّ من خلال الحوار والجدال ، فإذا تعين الوصول إلى الحق بالحوار والجدال فيصبح فرضاً على من هو القادر على ذلك .

وان كانت الغاية من الحوار هو احقاق الباطل ، او يفضي إليه ، او كان القصد منه التعالي على الخصم ، والغلبة عليه ، أو كانت وسيلة الحوار غير مشورعة فإن هذا الحوار هو الحوار المذموم المحرم ، وهذا الجدال هو الجدال المذموم المحرم ، وقد يكون مكروهاً إذا لم يصل الأمر إلى ما سبق بأن كان القصد منه حسب الظهور والغلبة في الخصومة[31] .

ولذلك وجه القرآن الكريم المسلمين إلى الجدال الممدوح بل إلى أفضل أنواع الجدال ، وهو الجدال بالتي هي أحسن ، لأن الغرض لا بدّ ان يكون احقاق الحق ، وازهاق الباطل بالبراهين والحجج للوصول إلى القناعة والرضا ، فقال تعالى : ( ….. وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ……. )[32]  في حين أن الله تعالى بين أن أهل الكفر والباطل يجادلون بالباطل فقال تعالى : (….  وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ…. )[33] .

 

 

لا تعارض بين ذمّ الجدال ومدحه :

فالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة التي يفهم منها ذم الجدال تحمل على الجدال بالباطل والجدال المحرم المذموم ـ كما سبق ـ

وأما النصوص التي أمرت بالجدال والحوار فهي محمولة على الجدال بالحق ، وبالتي هي أحسن ، إذن فلا تعارض بينهما والحمد لله .

 

 

أهمية الحوار وفوائده :

للحوار والجدال أهمية قصوى في خدمة الدين واظهاره ، وفي خدمة الجماعة والمذاهب ، والجماعات والأمة الاسلامية نذكر أهمها :

أولاً ـ الحوار بالحق والجدال بالتي هي  أحسن جهاد ، وبيان للحق ، وصدع به ، بل هو داخل في الجهاد الكبير ، وهو الجهاد بالقرآن الكريم وبيانه ، وحججه وبراهينه ، فقال تعالى : ( وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً )[34].

والحوار بالحق والجدال بالتي هي أحسن من النصحية في الدين ، وهي لها من الأهمية حتى جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم هي الدين كله فقال عليه الصلاة والسلام : ( الدين النصيحة )[35] .

والدليل على أنه من النصيحة قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام : ( وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[36]  وذلك في جواب ما قاله قومه : ( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)[37] .

قال ابن القيم في قصة وفد نصارى نجران وما اشتملت عليه من فوائد  : (  ومنها : جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم ، بل استحباب ذلك ، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من اسلام من يرجى اسلامه منهم واقامة الحجة عليهم ، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن اقامة الحجة ، فليؤد ذلك إلى أهله ( أي القادرين عليه )[38] .

وقال الشوكاني عند تفسير قوله تعالى : ( ما يجادل في آيات الله إلاّ الذين كفروا )[39] أي ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلاّ الذين كفروا ، والمراد : الجدال بالباطل ، والقصد إلى دحض الحق ، فأما الجدال لاستيضاح الحق ، ورفع اللبس ، وتمييز الراجح من المرجوح ، ودفع ما يتعلق به المبطلون ، فهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون ، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب فقال ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه )[40] .

 

ثانياً ـ ازالة الشبهات والعقبات في طريق وحدة الأمم ، حيث يتعارف بعضهم على بعض من خلال الحوار الجاد والبنّاء ، وبذلك تدرأ الحروب والفتن ـ كما سيأتي ـ .

 

أسباب الحوار ( الخلاف ) :

للحوار أسباب كثيرة متنوعة ومختلفة ، ولكن نستطيع القول انها تعود إلى الخلاف بين المتحاورين سواء كان الخلاف جذرياً وكبيراً ، أم بسيطاً وخفيفاً ، ولذلك نتحدث بايجاز عن الخلاف بمعناه الشمولي .

فالخلاف يقصد به وجود تمايز بين شخص وآخر من حيث الدين والعقيدة ، والايدلوجية ، او المذهب ، أو الفكر ، والتصور ، أو من حيث العرق والجنس ، والقبيلة ، أو من حيث اللون والشكل ، واللغة .

ومن هنا يتبين لنا أن بعض انواع الاختلاف إرادي ( أي للانسان دور فيه ) يتبع إرادة الانسان واختياره كما هو الحال في الاختلاف في الدين والعقيدة ، والمذهب ، والفكر والتصورات ، وبعضها ليس للانسان دور فيها كما هو الحال في العرق والجنس واللون ونحوها ، فهذه الأمور تعود إلى إرادة الله تعالى ومشيئته حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته.

ولذلك فأي اختلاف لا يكون للانسان دور فيه لا يجوز فيه التفاضل والتفاخر ، ومن فعل ذلك فهو عنصري منبوذ في الاسلام ، وهذا ما أكده القرآن الكريم في نصوص كثيرة من ان الناس جميعاً يرجعون إلى أب واحد وأم واحدة ، ثم إلى التراب والأرض التي خلق منها آدم ، أي وحدة أصل الانسان ، وأن الله تعالى هو الذي جعل بني آدم شعوباً وقبائل ، واعطاهم خصائص مختلفة للتكامل والتعارف فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[41].

فعلى ضوء ذلك فالاختلاف بنوعيه الارادي وغير الارادي موجود ، بل هو سنة من سنن الله تعالى فقال في الاختلاف اللاإرادي للانسان : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ)[42] ويقول تعالى في الاختلاف الارادي : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)[43] وقد قال المفسرون ان المراد بالاختلاف هنا هو اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال ، ولكنهم اختلفوا في مرجع الاشارة ( ولذلك ) والتعليل .

قال الطبري : ( يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربك ، يا محمد ، لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة ، ودين واحد ) ثم روى عن قتادة في تفسير (أمة واحدة ) أي :    ( لجعلهم مسلمين كلهم) ، قال الطبري : ( ثم اختلف أهل التأويل في ” الاختلاف ” الذي وصف الله الناس أنهم لا يزالون به ، فقال بعضهم: هو الاختلاف في الأديان (… من  يهوديّ ونصرانيّ، ومجوسي، ونحو ذلك ) ، وقالوا : استثنى الله من ذلك من رحمهم ، وهم أهل الإيمان والاسلام وأهل الحق والحنيفية ، وقال بعضهم : وهو الاختلاف في الرزق [44] .

والجمهور على الرأي الأول ، حيث قال الطبري : ( وأولى الأقوال في تأويل ذلك، بالصواب قولُ من قال: معنى ذلك: ” ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى، إلا من رحم ربك، فآمن بالله وصدق رسله، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله ، وتصديق رسله ، وما جاءهم من عند الله ” وإنما قلت ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك، لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين) ، ففي ذلك دليلٌ واضح أن الذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف الناس، إنما هو خبرٌ عن اختلاف مذموم يوجب لهم النار، ولو كان خبرًا عن اختلافهم في الرزق ، لم يعقّب ذلك بالخبر عن عقابهم وعَذابهم )[45] .

وأما قوله: (ولذلك خلقهم)، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم: معناه: وللاختلاف خلقهم ، منهم الحسن البصري حيث قال : ( خلق هؤلاء لهذه، وخلق هؤلاء لهذه )[46] أي للجنة والنار ..

ومنهم  ابن عباس حيث قال : ( قوله ” ولذلك خلقهم ” : أي خلقهم فريقين: فريقًا يرحم فلا يختلف، وفريقًا لا يرحم يختلف، وذلك قوله:  فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ  )[47] .

ومنهم عطاء وسفيان ، والأعمش ، ومالك ، وآخرون[48] .

وذهب فريق آخر إلى أن الاشارة ترجع إلى الرحمة أي للرحمة خلقهم ، منهم مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وعكرمة ، وابن عباس في رواية .

وعلق الطبري على ذلك بقوله : ( وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال: وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم ، لأن الله جل ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل، والآخر أهل حق ، ثم عقَّب ذلك بقوله: (ولذلك خلقهم) ، فعمّ بقوله: (ولذلك خلقهم) ، صفة الصنفين، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميَسَّر لما خلق له )[49] .

ثم أثار شبهة ، ورد عليها بقوله : ( فإن قال قائل: فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفون غير ملومين على اختلافهم، إذ كان لذلك خلقهم ربُّهم، وأن يكون المتمتِّعون هم الملومين؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم ، (إلا من رحم ربك) ، فهداه للحقّ ولعلمه، وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكافر، والشقي والسعيد خلقهم = فمعنى اللام في قوله: (ولذلك خلقهم) بمعنى ” على ” كقولك للرجل: أكرمتك على برك بي، وأكرمتك لبرك بي.

وأما قوله: (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) ، لعلمه السابق فيهم أنهم يستوجبون صليها بكفرهم بالله، وخلافهم أمره ، وقوله: (وتمت كلمة ربك)، قسم كقول القائل: حلفي لأزورنك، وبدًا لي لآتينك ، ولذلك تُلُقِّيَت بلام اليمين )[50].

وقال الرازي في قوله تعالى : ( ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك )[51] : (والمراد افتراق الناس في الأديان والأخلاق والأفعال ) ثم قال : ( لا سبيل إلى استقصاء مذاهب العالم في هذا الموضع ومن أراد ذلك فليطالع كتابنا الذي سميناه “بالرياض المونقة” إلا أنا نذكر ههنا تقسيما جامعا للمذاهب فنقول: الناس فريقان منهم من أقر بالعلوم الحسية كعلمنا بأن النار حارة والشمس مضيئة والعلوم البديهية كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان، ومنهم من أنكرهما، والمنكرون هم السفسطائية، والمقرون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم، وهم فريقان: منهم من سلم أنه يمكن تركيب تلك العلوم البديهية بحيث يستنتج منها نتائج علمية نظرية، ومنهم من أنكره، وهم الذين ينكرون أيضا النظر إلى العلوم، وهم قليلون، والأولون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم، وهم فريقان: منهم من لا يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلا وهم الأقلون، ومنهم من يثبت له مبدأ وهؤلاء فريقان: منهم من يقول: ذلك المبدأ موجب بالذات، وهم جمهور الفلاسفة في هذا الزمان، ومنهم من يقول: إنه فاعل مختار وهم أكثر أهل العالم، ثم هؤلاء فريقان: منهم من يقول: إنه ما أرسل رسولا إلى العباد، ومنهم من يقول: إنه أرسل الرسول، فالأولون هم البراهمة.

والقسم الثاني أرباب الشرائع والأديان، وهم المسلمون والنصارى واليهود والمجوس، وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا حد لها ولا حصر، والعقول مضطربة، والمطالب غامضة، ومنازعات الوهم والخيال غير منقطعة، ولما حسن من بقراط أن يقول في صناعة الطب العمر قصير، والصناعة طويلة، والقضاء عسر، والتجربة خطر، فلأن يحسن ذكره في هذه المطالب العالية والمباحث الغامضة كان ذلك أولى )[52] .

قال الرازي  : ( فإن قيل: إنكم حملتم قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين} على الاختلاف في الأديان، فما الدليل عليه، ولم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال.

قلنا: الدليل عليه أن ما قبل هذه الآية هو قوله: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} فيجب حمل هذا الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمة واحدة، وما بعد هذه الآية هو قوله: {إلا من رحم ربك} فيجب حمل هذا الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه قوله: {إلا من رحم ربك} وذلك ليس إلا ما قلنا.

ثم قال تعالى: {إلا من رحم ربك} احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى، وذلك لأن هذه الآية تدل على أن زوال الاختلاف في الدين لا يحصل إلا لمن خصه الله برحمته، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإزاحة العذر، فإن كل ذلك حاصل في حق الكفار، فلم يبق إلا أن يقال: تلك الرحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة.

قال القاضي معناه: إلا من رحم ربك بأن يصير من أهل الجنة والثواب، فيرحمه الله بالثواب، ويحتمل إلا من رحمة الله بألطافه، فصار مؤمنا بألطافه وتسهيله، وهذان الجوابان في غاية الضعف.

أما الأول: فلأن قوله: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} يفيد أن ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة، فوجب أن تكون هذه الرحمة جارية مجرى السبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف، والثواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف، فالاختلاف جار مجرى المسبب له، ومجرى المعل