أيها الإخوة المؤمنون

أكرم الله تعالى هذه الأمة في هذا الشهر الكريم بفضائل لا اعد ولا تحصى، وقد بين الله تعالى ذلك في آيات الصيام التي ذكرها في سورة البقرة، { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[1]، تشكرون الله تعالى أن هداكم إلى التوحيد المطلق والحق، وتشكرونه أن وفقكم لأداء العبادات والشعائر على أتم وجه وأكمله، وتشكرونه بقلوبكم بحيث تصبح القلوب عامرة بذكر الله تعالى، منشغلة به عمن سواه، وبحيث تكون ألسنتكم رطبةً بذكر الله تعالى، وتمنح جوارحكم الخير وتعمله مع الفقراء والمساكين حتى يتشارك المجتمع الإسلامي كله في فرحتي الإفطار والعيد.

ولقد بين الله تعالى مجموعة كبيرة من العبر والحكم والغايات والمقاصد المرتبطة بالصيام، والتي يجب على المسلم أن يجنيها من صيامه وقيامه في هذا الشهر الفضيل، ومن أهم هذه المقاصد التقوى.

التقوى، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[2]، والتقوى كلمة جامعة لكل الخيرات، وهي الوقاية أي أن ينزم الإنسان عزماً حازماً واثقاً صادقاً على أن يحقق التقوى، وهي كلمة هينة ولكنها تحمل معاني عظيمة وكبيرة، في الأساس في المعاملات والعبادات، وهي المقربة إلى الله تعالى، وقد رتب الله تعالى عليها أكثر من 25 ثمرة وخصلة، من أهمها:

  • معية الله تعالى، فالله تعالى مع المتقين يقيهم ويحميهم مما يحذرون ويخافون، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[3].
  • ولاية الله تعالى لهم، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[4].
  • التوسع في النعم، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[5].
  • جعل التقوى سبباً للخروج من كل مأزق، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[6].

فحين يربط الله تعالى الصيام بهذه الكلمة العظيمة يدل على أهمية الصيام ودوره في بناء الإنسان التقي الذي لا يخشى في الله تعالى لومة لائم، وهذا هو مقصد جامع لكل المقاصد، وهو أم الغايات والحكم.

ولكئن كانت التقوى بهذه الأهمية، فما هي التقوى؟

التقوى أصلها من الوقاية، وهي الحماية، وهي وقاية لك، ولغيرك، أما الوقاية لك فهي التي تحميك من الوقوع في المعاصي والآثام، وهي التي تبعدك عن مواطن الفساد، وهي التي تنأى بك عن الشرور والمحرمات، ثم تستقر في نهاية

المطاف في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وأما الوقاية لغيرك فلا تضر أحداً ولا تؤذي أحداً، ولا تعتدي على أحد، ولا تأكل أموال الناس بالباطل، إلى غير ذلك من المنكرات.

والتقوى التي يريدها الله تعالى، ليست محصورة في أداء أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، وإنما أن يكون الإنسان عبداً لله تعالى بما تحمل هذه الكلمة من معنى، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام، حين جاء يسأل عن الإسلام والإيمان، والإحسان، فقال:" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"[7]، وفي رواية " أن تخشى الله" وفي رواية أخرى" أن تفعل لله".

حتى كلمة العبادة المقصود بها القيام بكل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى عنه، وما أمر الله تعالى به ليس خاصاً بالقيام بالشعائر على الرغم من أهميتها، وإنما يشمل أمْر الله تعالى كل ما يصدر عن الإنسان على مستوى الفكر والتصور، والعقل والسلوك والأفعال، والأنشطة الاقتصادية والسياسية، والاجتماعية، وإن الأوامر التي جاءت في مجالات غير الشعائر أكثر بكثير من التي جاءت في مجال الشعائر، على الرغم من أساسيتها وأهميتها، ولكنها ليست كل الإسلام.

ولقد تتبعت القرآن الكريم فوجدت أن الأوامر والنواهي التي تتعلق في مجال العبادات والشعائر ما بين 250 إلى 300، بينما وجدت أن الأوامر والنواهي التي تتحدث عن مجال غير الشعائر قد تجاوزت 1200 أمرا ونهياً، ومعظم المسلمين يترك الكثير من أجل القليل رغم أهمية القليل.

إذا لم يثمر صيامنا هذه التقوى تحول الصوم من عبادة إلى عادة، وكثيراً ما نشاهد من يؤدي شعائر الدين على أتم وجه وأكمله، ولكنه فور الانتهاء من أدائها يتحول إلى وحش كاسر لا يعلم عن الأخلاق شيئاً.

حتى الدول التي تحاصرنا، فيها الصائم والقائم والمؤدي لكل شعائر الدين بكل تفاصيلها، ولكنه في جانب حسن الجوار والتعامل مع المسلمين ومعنا استحوذ عليه الشيطان وتحول إلى إنسان نزعت الرحمة من قلبه، ولا يعرف عن رحمة الدين وحسن المعاملة شيئاً.

فليكن شعارنا في هذا الشهر" {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[8]،ولنعش مع التقوى، ولنحاسب أنفسنا عليها؛ لعلنا نجني خصال المتقين.

ولقد ذكر الله تعالى لنا قدوات كثيرة، وأوجب علينا اتباعها حتى نسلم من الآثام، فهذا سيدنا يوسف عليه السلام، قدوة لكل شاب عفيف، حين هيأت زوجة العزيز ما هيأت، وغلّقت الأبواب، وظنت أنها حصلت على مأربها، {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ }، فما كان من يوسف عليه السلام، وبدون تردد، ومباشرة دون تلكؤ، إلا أن قال: { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }[9].

وهنا سؤال يفرض نفسه على أرض الواقع، هل وصلنا إلى التقوى؟

إن المتأمل لحال الأمة الإسلامية ليدرك تماماً أن معظم المسلمين لم يصلوا في تعاملهم مع الله تعالى ومع المجتمع إلى التقوى، وعليهم أن يعيدوا النظر في التعامل مع الله تعالى حتى تصبح التقوى ملكة تتحكم في جوارحهم، فإذا أصبحت التقوى ملكة قلبية ونفسية لكل مسلم تحكمت التقوى في نواحي حياته، دون تفرقة بين أخلاقه في المسجد، وبين أخلاقه خارج المسجد.

إن الإسلام يعطي الرخص في أداء العبادات، ولا يسمح بها في مجال العقيدة، ففي مجال العبادة ربط الصوم بالتقوى، وفي مجال الأداء والتنفيذ قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[10]، حيث أباح لأهل الأعذار الفطر في رمضان، ورتب على ذلك القضاء والكفارة، كل حسب عذره المبيح للفطر.

فأسمى غاية يحل عليها المسلم هو تقوى الله تعالى، وهو خير زاد يلفى به ربه سبحانه تعالى راضياً عنه غير غضبان، فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، تسعدوا في الدنيا والأخرى.

الخطبة الثانية:

هذا الشهر شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، والرحمة تقتضي منا أن نكون أعزة على الكافرين، أذلة على المؤمنين رحماء بيننا، وهي توجب منا عدة أمور:

الأول: الرحمة بالمسلمين في كل مكان من عالمنا الإسلامي، وهو أن نشعر بمآسيهم فنجود بما تفضل الله تعالى به علينا من الخيرات والنعم.

الثاني: الرحمة بسكان بلاد عالمنا الإسلامي المنكوبة، فلسطين التي يواجه شعبها بصدر عارٍ أقسى أنواع الأسلحة، سورية التي ترك شعبها يجابه حرباً ضروسة ضد أسد كاسر لا يرحم، ليبيا التي تفرق أهلها ولم يعرف الاستقرار، واليمن التي تشتت شملها.

كل يجود بحسب مكانته، فصاحب المال يساهم بالمال، وصحاب الفكر والقلم يكتب الفكر وينشر القضية، وصاحب السياسة يسعى بسياسته لحل القضايا.

الثالث: الرحمة بالقريب المسلم وحسن الجوار.

للأسف الشديد بعض بني جلدتنا رفع شعاراً يخالف كل المعايير والقيم، جاد بمئات المليارات في سبيل إذلال المسلمين، وباع قبلتنا الأولى وثالث الحرمين، وساهم بكل ما أوتي من قوة ومال لنقل سفارة أمريكا إلى قدسنا الشريف.

ولا أدري كيف يؤتمن على ثاني القبلتين وحرم المدينة المنورة، من لم يصن القبلة الأولى، والحرم الثالث؟

ولا أدري أي شرع تبنته دول الحصار حتى أجازت لنفسها محاصرة دولة قطر؟

أوجه نداء باسم علماء المسلمين إلى قادة دول الحصار، ولا  سيما قادة المملكة العربية السعودية، أن يتعاملوا بالرحمة القرآنية في هذا الشهر الفضيل مع المسلمين في كل مكان، وبخاصة جيرانهم المسلمين، وأن يرفعوا الحصار البيئي والاجتماعي عن شعب قطر وعن المقيمين على أرضها، وأن لا يربطوا الحصار بأداء المناسك، أما الحصار السياسي فهو بين الساسة يحل بينهم بالحوار.

إن من التقوى التراحم والتعاطف والتكاتف والتآلف، ومن لم يتحل بهذه الشائل العظيمة فلا تقوى له.

أهم ما ترشد إليه الخطبة:

  1. التقوى أم الغايات.
  2. من التقوى التراحم والتعاطف.
  3. وجوب الاقتداء بالأنبياء والصالحين.
  4. من معاني التقوى الوقاية والحماية.
  5. بيان ثمار التقوى التي يجب على المسلم جنيها.
  6. الإحساس بالمسلمين في كل مكان من أهم معاني الرحمة.

اللهم أصلح أحوالنا.

الجمعة 18 / 5 / 2018

 


[1] سورة البقرة، الآية 185

[2] سورة البقرة، الآية 183

[3] سورة البقرة، الآية 194

[4] سورة يونس، الآيتان 62، 63

[5] سورة الأنعام، الآية 96

[6] سورة الطلاق، الآية 2

[7] – رواه البخاري يرقم: 50، ومسلم برقم: 8.

[8] سورة البقرة، الآية 183

[9] – سورة يسوف، الآية: 23.

[10] سورة البقرة، الآية 185