أيها الإخوة المؤمنون

إذا قرأنا تاريخ الأمم والحضارات، وتاريخ الأنبياء عليهم السلام مع أممهم ومع الطغاة، لوجدنا أن أهم أسباب الفساد والطغيان في الأرض، هؤلاء الذين يستكبرون على الناس، وكأنهم يعيشون عن طريق القوة والغلبة والاستعلاء، ولذلك كان الاستعلاء وصفاً خطيراً لهؤلاء المفسدين في الأرض، لأن العلو الحقيقي الكامل لله سبحانه وتعالى، فمن نازعه في علوه فقد خصمه وقد غلبه وقد أهلكه.

وهذا السبب يبدأ من الشيطان الرجيم، الذي استكبر واستعلى وظن أنه أفضل وأعلى خلقة من سيدنا آدم عليه السلام، ولذلك لم يسجد ولم يستمع لأمر الله سبحانه وتعالى، (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ)، فالله سبحانه وتعالى قال له أنا خلقتك وخلقت آدم بيدي ونفخت فيه من روحي، لماذا لا تسجد ولا تطيع أمر الله سبحانه وتعالى؟

الشيطان كان من العابدين الذاكرين الساجدين قبل ذلك. ولكن عندما دخل الاستكبار والاستعلاء قلبه امتنع عن السجود لآدم ولم يطبق أمر الله سبحانه وتعالى، (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ(.

ولذلك فإن قدوة المستكبرين والمستعلين في الأرض هو الشيطان الرجيم، والذي لعنه الله سبحانه وتعالى، وجعله مرجوماً، وأنه من الخاسئين الأذلاء في الدنيا والآخرة، وهكذا يكون مصير هؤلاء الطغاة المستعلين المستكبرين على مرّ التاريخ وإن طال زمنهم.

ومن الذين جعلوا الشيطان قدوة لهم وذكرهم القرآن الكريم، نمرود وفرعون وقارون وغيرهم.

ومن هؤلاء الذين خصص لهم القرآن الكريم الذكر الكثير لكثرة استعلاءه واستكباره، فرعون، حيث ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة القصص والتي تبدأ بقصة فرعون وتنتهي بقصة قارون.

ففرعون طغى واستكبر بسبب الجاه والملك، وقارون طغى بسبب العلم والمال، وكل واحد منهما كان نصيبه الموت، فالأول أغرقه الله سبحانه وتعالى، والثاني خسف الله سبحانه وتعالى به وبداره الأرض.

الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نقرأ القرآن الكريم بتمعن، لأننا إذا مررنا عليه مرور الكرام لما استفدنا إلا إذا وقفنا عليه وقرأناه بتدبر كي نستفيد منه، ولوجدنا فيه الصفات الأساسية لهؤلاء الطغاة من خلال قراءتنا لهذه الآيات عن هؤلاء الطغاة كي نستفيد منها ونبتعد عنها، وإن هذه الصفات تُطبق على كثير من الطغاة اليوم وإن انتسبوا إلى الإسلام بالاسم.

فالله سبحانه وتعالى يقول في وصف فرعون في بداية سورة القصص: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ) حيث إن العلو من أهم صفات فرعون الخطيرة، لذلك ادعى بأنه (فَحَشَرَ فَنَادَىٰ 23 فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) حيث إنه وصل إلى مرحلة ادعاء الألوهية، (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

فبين الله سبحانه وتعالى أول صفة من صفاته: الاستعلاء والاستكبار، ثم ينتج من هذه الصفة، الطغيان والفساد، ثم بعد ذلك يقوم بالقضاء على كل معارض، سواء كان نبياً أو غير ذلك.

والخطوة الأولى حيث قام بجعل قومه شيعاً أي متفرقين متمزقين، لأنه بدون تفرق الشعوب لن دولة ما ولا أي فرد مهما كان أن يتغلب على الشعوب، وإن شعار (فرّق تسُد) الاستعماري الذي كان ولازال سائداً ومطبقاً في وقتنا الحالي، شعار فرعوني اهتدى إليه من خلال كيفية السيطرة على شعبه وقومه في مصر.

بالإضافة إلى الاستخفاف والإذلال، (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) أي جعل قومه خفيفاً ضعيفاً ذليلاً من خلال التخويف.

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) متفرقين متمزقين، حيث مزقهم شر ممزق ليسود عليهم، وهكذا فعل.

فيضرب هذا بهذا، وذاك بذاك، كما نراه اليوم، وكيف أن بريطانيا منذ بداية التاريخ الاستعماري استطاعت السيطرة على معظم الدول واستعمرتها من خلال ذاك الشعار، واستطاعت السيطرة على شبه القارة الهندية، من خلال إنشاء شركة الهند الشرقية وجمعت الأموال الكثيرة من الشعب، من خلال شركة مساهمة، ثم أنشأوها في الهند.

وقد كانت الهند تحت سيطرة الأمراء المسلمين، ولكنهم كعادتهم كانوا مختلفين، فقامت بريطانيا بضرب بعضهم البعض من خلال الأموال، ومن خلال تقوية الهندوس والسيخ عليهم، استطاعت بريطانيا في فترة قصيرة السيطرة على معظم شبه القارة الهندية.

ومن خلال أموال وجنود شبه القارة الهندية سيطرت على معظم المناطق في العالم.

ثم لما وجدو أن العالم الإسلامي تحت إمرة خليفة واحد، ضربوا العرب بالأتراك، وضربوا الأتراك بالعرب، من خلال إنشاء القومية الطورانية بقيادة الصهاينة، وإنشاء القومية العربية بقيادة المسيحيين، وتبعهم مع الأسف الشديد معظم العرب، ولا سيما في الجزيرة والشام وغيرها، أملاً من العرب أن تكون لهم دولة الخلافة بعد الخلافة العثمانية.

وقاموا بتمزيقهم من خلال اتفاقية سايكس بيكو، كما مزقوا بقية الشعوب وخاصة الشعب العربي والشعب الكوردي.

وإن الدول الاستعمارية حينما يستعلون في الأرض يجعلون أهلها شيعاً، كما فعل فرعون.

وما نراه اليوم من التمزق والتفرق، من تقسيم المقسم وتجزئة المجزء، جزء من السياسية الفرعونية الشيطانية الخطيرة، (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا).

ثم بعد التفريق والتمزيق والقضاء على قوة الوحدة، حينئذ تستعمل الدكتاتورية وتُستغل الشرطة والعسكر في سبيل إبقاء العلو، ( يذبح أبناءهم) من لم يطع فرعون أو يخضع له يذبح، (وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) يبقون على نساءهم للعمل والخدمة واللعب واللهو وما إلى ذلك، (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

فلذلك إننا نمر على هذه الآيات دون أن نستفيد منها هذه الاستفادة، وكم ذكّرنا الله سبحانه وتعالى بخطورة المكر.

حينما تحدث الله سبحانه وتعالى عن الاستعلاء تحدث عن المكر أيضاً: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ)، لأن المكر والأفكار الشيطانية تأتي مع الاستعلاء والاستكبار.

ويذكر أيضاً أن كل من خالف يُقتل ويُذبح، إلا أنهم يبقون على النساء للهو والاستمتاع بهنّ في سفرهم وحضرهم.

(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) حيث يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان عكس ما يريده فرعون.

وإن من سنن الله سبحانه وتعالى في الناس من المسلمين وغير المسلمين من أراد أن يكون إماماً أ, قائداً هيئ الله سبحانه وتعالى لهم أسباب ذلك، فيكون الفوز لغير المسلمين في  الدنيا وللمسلمين في الدنيا والآخرة.

(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً)، قادة كما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكان العرب مفرقون وممزقون قبل الإسلام شر ممزق، و كانوا تحت إمرة الروم بجزء كبير منهم، وأيضاً كانت الفرس تستغل جزءاً منهم، وكانوا يضربونهم بعضاً ببعض، وكانوا فيما بينهم أيضاً مشغولون بحروب طاحنة لأسباب تافهة، كحرب الأوس الخزرج بتحريك اليهود لهم، ولكنها انتهت بدخولهم في الإسلام، وأراد اليهود أن يعيدوا هذه الحرب ويفسدوا بينهم بعد الإسلام ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام أدركهم وقال لهم: أبدعوة الجاهلية تدعون.

جعل من هذه الأمة المفرقة أئمة، (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).

أصبحوا قادة العالم حينما التزموا، ثم لما تركوا هذه القيادة وعادوا إلى القومية والقبلية والعنصرية، أصبحوا كما نراهم اليوم، أسوء مما كانوا عليه أيام الجاهلية، حتى القيم الجاهلية اليوم فُقدَت من خلال الحصار.

ثم بيّن الله سبحانه وتعالى في قوله: (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ).

سيدنا موسى عليه السلام مع قومه كانوا قوماً مستضعفين وحينما طبقوا والتزموا نجاهم الله سبحانه وتعالى وجعلهم أئمة وقادة، ولما تركوا رسالتهم تفرقوا ورأوا ما رأوا.

واليوم كما نرى عاد اليهود إلى العلو الاستكبار (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) وهذا العلو كما نراه والله أعلم إحدى هاتين المرتين كما ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء.

ومن عظمة القرآن الكريم وإعجازه أن هذه السورة تبدأ بطغيان واستعلاء الجاه والقوة وأما آخر السورة استعلاء العلم والمال.

واليوم اليهود عندهم العلم والمال والإعلام، وأن أمريكا التي كانت وراءهم أصبحت جزءاً من سياستهم في عهد هذا الرئيس الجديد.

وقضية نقل السفارة إلى القدس طلب اليهود أن تكون قبل موعدها لتتزامن مع ذكرى لهم، وهي ذكرى الاحتلال وتكوين الدولة الإسرائيلية، فيكون الاحتفال بالذكرى ونقل السفارة في الوقت ذاته. ونفذوا أمر اليهود وسيكون نقل السفارة إلى القدس في 14 مايو 2018م، كما أمروا.

 

إذا أين أمة الإسلام؟

أمة الإسلام مشغولة بعضها ببعض.

إذا كان فرعون يقتل ويذبح أبناءه فالمسلمون أيضاً يفعلون ذلك، كما نرى ما يفعله طاغية الشام وغيره من الطغاة أيضاً، حيث فاقوا فرعون في طغيانهم.

وذكر الله سبحانه وتعالى قارون، حيث إنه كان من قوم موسى عليه السلام، أي إنه كان من المسلمين المؤمنين في البداية، ولكنه طغى، وهذا دليل أن الطغيان والاستعلاء ليس بالضرورة أن يكون من الكفار بل يمكن أن يكون أشدّ عند بعض المسلمين.

إن القرآن الكريم ذكر لنا، ونور لنا، وشرف لنا، ولكن بشرط الالتزام به والاستفادة من دروسه وحكمه، حيث جمع الله سبحانه وتعالى لنا بين دفتيه العالم من بداية نشأته إلى نهايته، ووضعه أمامنا في تقرير صادق مصدق وهو القرآن الكريم.

 

الخطبة الثانية:

إخوتي الأحبة:

من سنن الله سبحانه وتعالى أنه لا يترك هذه الأمة الإسلامية، ولكنه يؤدبها بالمصائب والمآسي والمشاكل، حتى تعود إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك في النهاية فإن هذه الأمة لا بدّ أن تعود ويُهيئ لها قادة يقودون هذه الأمة إن شاء الله نحو الخير، ولكن سيكون شرف هذه القيادة لمن يساهم في ذلك، حيث إن صلاح الأمة من صلاح أفرادها.

حيث علينا أن نُعوّد أنفسنا ونطوعها لخدمة هذا الدين الحنيف وأن نخضع لله سبحانه وتعالى، ونكون ربانيين لا منقادين نحو هذا وذاك، ونتبع هذه القومية أو تلك. بل أن نكون مع الحق، فالحق هو الله سبحانه وتعالى.

(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) أهم شيء أن نكون على الطريق الصحيح، والصراط المستقيم، وعلى المنهج الصحيح وأن تكون قلوبنا سليمة وطاهرة وفيها الخير ومتواضعة ليس فيها كبر ولا استكبار ولا علو.

 

 

اللهم أصلح أحوالنا

2 / 3 / 2018م