أ ـ الجواب عن ذلك هو أن هذه القضية هي القضية الجوهرية في الاقتصاد الاسلامي الذي يقوم على حرمة الربا ، فالمسألة حسمت عقدياً بالنصوص القاطعة التي حرمت الربا الذي يشمل الفوائد البنكية باعتراف المجامع الفقهية السائدة في عصرنا الحاضر ، ولذلك نرى القرآن الكريم يرد على الذين فضلوا الربا على البيع و ( قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا)  يرد عليهم بهذا الجانب العقدي أولاً ، وهو أن الله هو الذي أباح البيع وحرم الربا ، فقال تعالى ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا )  وبالتالي فعلى المسلم أن يقول ( سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) .


وثانياً : أن الربا هو ظلم واختلال في ميزان المعاملات ، لأنه اجتمعت في كفة المرابي المقرض كل الجوانب الايجابية ، فما له مضمون ، وفائدته مضمونة أيضاً دون تحمل أية مخاطر ، فقد ولدت نقوده نقداً دون عناء وعمل ، في حين أن المقترض قد اجتمعت في كفته كل السلبيات ، حيث عليه الضمان الكامل لما اقترضه ، وعليه زيادة مضمونة يجب عليه دفعهما في وقته ، وإلاّ فتتضاعف عليه الفوائد مع مرور السنين ، فلم يطبق عليه    ( الغنم بالغرم ) ولا ( الخراج بالضمان ) بل الغرم عليه والضمان عليه ، في حين أن المقرض له الغنم والخراج ، بل قد لا يتحقق لهذا القرض أي خراج مع المقترض ملتزم بدفعه .


  فالاقتصاد الاسلامي هو اقتصاد الملكية ، واقتصاد المشاركة ، واقتصاد قائم على الانتاج ، وبالتالي المشاركة في الناتج الزائد عن التكلفة في حين ان الفائدة هي تكلفة اقراض النقود ، أو تكلفة تأجير النقود إلى أجل ، فهي تكلفة موجودة دائماً على النقد المقترض فتصبح عبئاً على المقرض في حالة استهلاكه ، أو عليه ، وعلى المستهلكين إن كان قرضاً انتاجياً .


  فمبدأ المشاركة والربحية يحفز على الادخار وعلى الانتاج حيث يرتبط مقدار الربح بنجاح المشروع الاستثماري ، ومن ثم فهو دخل يرتبط ارتباطاً مباشراً بالنشاط الانتاجي ، وبدراسة الجدوى ، وبالجهود الكبيرة المبذولة في سبيل انجاح المشروع وتطويره ، وببيئته الجيدة  .


  فمبدأ المشاركة من أكبر الحوافز لمزيد من التفكير والجهود لمزيد من الانتاج ، وبالتالي جذب مدخرات المستثمرين لمثل هذه المشروعات الناجحة ، حيث ينظر هؤلاء إلى العائد المتوقع ، حتى الاقتصاد الوضعي يؤكد أن الأرباح المحققة ( أو معلات الربح ) هي التي تحفز على الادخار لأجل الاستثمار ( حيث أثبتت تجارب الأسواق المالية في بلدان العام المختلفة أن الشركات المساهمة الناجحة بمؤشرات الربحية الموزعة تتمكن عن طريق اصدار الأسهم جذب ما تريد من مدخرات الأفراد لتغطية احتياجاتها )  .


  بل إن هذا المبدأ يرتبط ارتباطاً مباشراً بنظرية الكفاءة الجدية للاستثمار ، فالمشروعات الأكثر عائداً تصبح الأكثر قدرة على جذب المدخرات واستثمارها ، وبالتالي يزداد التنافس على الانتاج وكثرة الربح لصالح الجميع ( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ )  .


  ومن جانب آخر فإن عدم تحديد الفائدة يحسب لصالح البنوك الاسلامية ، وذلك لأن البنوك التقليدية تتخير عملاءها في المقام الأول وفقاً لمعيار الملاءة المالية ، لأن الأولوية لديها هي ضمان استرداد قروضها مع فوائدها ، ولذلك لا تعباً كثيراً بمن يحقق العوائد الأعلى أو الأقل  ، بل لا تولي العناية بكون القرض انتاجياً أو استهلاكياً ، وإنما المهم الضمانات الكافية لاسترداد القرض وفوائده . 


  أما البنك الإسلامي فحينما يدفع للعميل على أساس المشاركة أو المضاربة يهمه الأمران معاً الحفاظ على رأس المال بقدر الامكان ، والتعامل مع المستثمرين الناجحين الذي يحققون أعلى مستويات الأرباح ، لأنه مشارك في الربح معهم ، وبالتالي فهو أقرب ما يكون من استخدام الموارد النقدية الاستخدام الأمثل .


  وكذلك فإن البنك الإسلامي حينما يأخذ من العملاء أموالهم للاستثمار على أساس المضاربة أو المشاركة لا يتحمل ضماناً للفائدة ، ولا مخاطر رأس المال ما دام لم يتعد أو لم يقصر ولم يخالف الشروط ، وبالتالي فالمال ليس عبئاً عليه ولا فائدته ، فإن تحقق الربح فهو مشارك فيه ، وإلاّ فلم يخسر شيئاً سوى جهده ، في حين أن البنك الربوي يتحمل رد رأس المال وفوائده .


 ومن الجانب العملي فإن الدراسات الاقتصادية وتقارير البنك الدولي بينت أن سياسات ادارة أسعار الفائدة والائتمان في العقود الأخيرة من الستينيات وما بعدها كان لها تأثير سيء على المدخرين والمستثمرين ( المقرضين والمقترضين ) واساءة استخدام الموارد المالية وأدت إلى مزيد من التحيز في توزيع الائتمان لصالح كبار العملاء ، وإلى خفض كفاءة الاستثمار ، وزيادة معدلات التضخم .


  وقد نشرت الصحف أن برازيل ـ حينما عجزت عن السداد ـ عرضت على الدول الدائنة فكرة المشاركة أو المضاربة كحل لمشكلة الديون ، وذلك لأن آليات المشاركة لا تحمل المسؤوليات كلها على عاتق المدين ( الشريك ) ، ومن هنا فإن الصيرفة الاسلامية تفتح باباً جديداً لتوزيع الموارد  التمويلية على جميع المستثمرين ما داموا يعملون وفق الأصول .


 


الاشكالية الكبرى :


الاشكالية الكبرى تأتي حينما تطبق البنوك الاسلامية آليات المشاركة بعقلية نظام الفائدة ، حيث حينما تتعامل بأسلوبي المشاركة أو المضاربة لا تسير معهما إلى النهاية من حيث المشاركة الحقيقية التي تجلب لها أرباحاً كبيرة ، وإنما تقطع هذه المشاركة من حيث المآلات ، وذلك بالاعتماد في ربحها على فائدة لايبور ( زائد كذا ) وأن ما زاد عن ذلك يكون للمضارب أو المدير تحت اسم الحافز أو نحو ذلك ، وكذلك الأمر لو كان البنك هو المضارب ، أو المشارك المدير فإنه يتنازل للطرف الآخر عما زاد عن نسبة كذا .


  هنا يتحمل البنك الاسلامي مخاطر رأس المال في غير حالات التعدي والتقصير ومخالفة الشروط ، وهذا أمر جيد ، ولكنه لا يمضي في هذه المشاركة الحقيقية إلى آخر المطاف فلا يشارك في الربح بنسبة مشاركته ولا بالنسبة التي تم الاتفاق عليها ، وهنا يحدث الخلل ، لأن الفقه الاسلامي عوض هذه المخاطر باحتمالية الأرباح الكبيرة ، فحينما يحرم منها البنك الاسلامي ، ويتساوى في الوقت نفسه مع البنك الربوي في نسبة الربح من خلال آلية التنازل يختل التوازن بينما لو مضى في مشاركاته ومضارباته حسب الآلية الاسلامية الصحيحة فإن الأرباح الكبيرة في بعض المشاريع تعوضه عن بعض الخسائر إذا وجدت في بعض مشاريع أخرى .


 ب ـ الحل :


إن الحل لذلك يكمن في حل جذري ، وحل عملي :


 ـ أما الحل الجذري فيكمن في توعية الناس بالاقتصاد الاسلامي وأهدافه ، وحقيقته ، وخصوصياته ، حتى يصل الجميع إلى التطبيق الصحيح له عقيدة ومنهج حياة .


 


ـ والحل  العملي ، ومع تحريم تحديد الفائدة ( تحت أي مسمى ) في المشاركات والمضاربات فإن هناك بعض الحلول تخفف من شدة هذه المسألة ، وبدائل جيدة تعطي كثيراً من الاطمئنان للمستثمرين في معرفة الأرباح المتوقعة بشكل لا بأس به ، وهي :


 


1ـ دراسات الجدوى الدقيقة المعتمدة التي تتوافر فيها جميع الشروط المطلوبة ، ودراسة جميع الاحتمالات ( السيناريوهات ) ومع ذلك تصل إلى أن الربح المتوقع كذا .


  فهذه الدراسات للجدوى الاقتصادية التي يقدمها العميل يمكن الاعتماد عليها في جعل ما ذكر فيها هو الأصل ، وبالتالي حينما يدعي الخسارة ، أو عدم تحقيق الربح ، عليه اثبات ذلك بالأدلة المعتبرة حسب العرف التجاري .


 وهذه خطوة جيدة تحول العميل ( المضارب ، أو الشريك ) إلى المدعى الذي يحتاج إلى بينة ، وليس العكس أي أن يطلب من البنك اثبات عدم تحقيق ذلك .


 2ـ الاعتماد في المشاركة ، أو المضاربة على المشروعات الناجحة ، والاداريين الناجحين الثقات المؤتمنين الذين تكونت لهم خبرات ونجاحات متكررة من خلال دراسات دقيقة ، فهذا بلا شك سوف يوسع دائرة المؤسسات المالية الاسلامية ، وتحقق لها أرباحاً جيدة بإذن الله تعالى تعوضها عن بعض الاخفاقات لو وجدت .


وهذا يقتضي أن تكون دائرة الائتمان في البنوك


 3ـ الوكالة بالاستثمار عن طريق المرابحة بنسبة معينة ، كأن يقول البنك : أعطيك مبلغ كذا على أن تستثمر لي في المرابحات التي نسبة أرباحها 7.5% فهذا الشرط صحيح ، وبالتالي يجب على العميل أن يلتزم به ، وإذا لم يجد عميلاً بهذه النسبة للمرابحة لا يقدم على اتمام الصفقة ، وهكذا .


 4ـ الاجارة مع الوعد بالتمليك ، حيث انها تؤدي إلى معرفة الربح إلى حد كبير .


 ثانياً : صعوبات تتعلق بعدم ضمان رأس المال :


  إن عدم ضمان رأس المال يعد مشكلة في ظل النظام الربوي الذي تربى عليه الناس منذ عقود ، بل قرون عدة ، فالذين تعودوا التعامل مع البنوك التقليدية يريدون ضمان أموالهم عندما يدعونها لدى البنوك الإسلامية ، وكذلك يسعى بعض المسؤولين عن بعض البنوك الاسلامية لضمان أموالها .


 الجواب عن ذلك :


     إن عدم ضمان رأس المال في الاستثمارات يعتبر من أهم المبادئ التي يقوم عليها الاقتصاد الاسلامي في الاستثمارات حيث لا يضمن المضارب ، أو الشريك إلاّ في حالات التعدي أو التقصير ، أو مخالفة الشروط .


  اعلى الصفحة


بعض البدائل  المحققة :


  مع أهمية الحفاظ على المبدأ السابق فهناك بعض الاجراءات إذا اتخذت يمكن أن تؤدي إلى تخفيف هذه المخاطر ، وتوفير نوع من جوّ الأمان والاطمئنان ، وهي بايجاز شديد كالآتي :


1) الدراسات ، والمعلومات ، والضمانات الكافية لحالات التعدي ، او التقصير ، أو مخالفة الشروط .


 


2) ضمان طرف ثالث ـ كما صدر بذلك قرار رقم 30(3/4) من مجمع الفقه الإسلامي الدولي حيث نص على أنه : ( 9. ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاماً مستقلاً عن عقد المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطاً في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به، بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد)  .


 


3) الوكالة بالاستثمار مع تحديد جهة التعامل وطريقته ، مع حق البيع على النفس في فترة وجيزة ، فهذه الطريقة لا تؤدي إلى الضمان ، ولكن تقلل فترة تحمل المخاطر.


 


4) دراسات الجدوى الاقتصادية ـ كما سبق ـ فهي ليست ضماناً ، ولكنها قرينة قوية تجعل العميل المدعى للخسارة ، او لعدم تحقيق الربح المتوقع حسب الدراسة في محل الشك والريبة ، وحينئذ يكون عليه الاثبات لما يدعيه بالبينة ، إلاّ إذا كانت هناك أسباب ظاهرة واضحة تدل على تحقيق الخسارة ، أو عدم تحقيق الربح .


 


5) التحوط من تقلب أسعار العملات ، فالنقود الورقية السائدة اليوم أصبحت عرضة لتذبذب كبير ، ولا سيما بعد تحريرها من الغطاء الذهبي ، حتى أصبحت التقلبات في الأسعار احدى السمات البارزة في الاقتصاديات المعاصرة .


لذلك تحتاج المؤسسات المالية الاسلامية إلى نوع من التحوط ولا سيما في العقود التي تترتب عليها أثمان آجلة ، حيث يهدف التحوط إلى السيطرة على التقلبات غير المرغوب فيها في الأسعار بصورة عامة ، وفي النقود بصورة خاصة  .


 



حكم التحوط :


  التحوط بالنسبة للسلع ، أو الأسهم جاز حيث يمكن تحقيقه عن طريق عقود آجلة موازنة ، سواء عن طريق البيع الآجل ، أو السلم ، أو عقد الاستصناع .


 وإنما الاشكالية في النقود ، جيث لا يجوز بيع جنس واحد ( ريال قطري مثلاً ) بجنسه إلاّ يداً بيد ، وسواء بسواء دون زيادة ، وإذا اختلف الجنسان ( ريال بدولار ) فلا بدّ من تحقق شرط القبض في المجلس ، كما صدرت بذلك قرارات المجامع الفقهية  ، تعطى لهذه النقود الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث الربا ، والزكاة ونحوها ، ومن هنا فالتحوط الذي يجري في المؤسسات المالية التقليدية هو مواعدة ملزمة من الطرفين يحددان فيها كل ما يريدانه دون تحقيق القبض في المجلس للبدلين ، وبالتالي فهو غيرجائز في النقود بالاتفاق .


والحل هو : أن يتم عن طريق وعد واعد من طرف واحد ، أو عن طريق عقود آجلة موازية من حيث الزمن والكمية للسلع بنفس العملات التي يحتاج إليها البنك . 


 


ثالثاً ـ مشكلة المتأخرات مع عدم فرض الغرامات :


  مما لا شك فيه أن التأخر في سداد الديون يشكل عبئاً كبيراً على المؤسسات المالية الاسلامية ، مهما كان سببه ، سواءاً كان سببه المماطلة ، ، أم التعثر في السداد بسبب المعسرة ، فالنتيجة واحدة ، وهي أن المؤسسات المالية الاسلامية تخسر جزءاً من الأرباح بسبب هذه المتأخرات .


وهي مشكلة كبيرة يزيدها تعقيداً ما يأتي :


1)         عدم جواز أخذ فوائد التأخير .


2)         عدم جواز جدولة الديون بالزيادة .


3)         عدم المتاجرة في الديون إلاّ ما يخص بيع الدين بالعين .


4)         عدم تصكيك الديون .


 اعلى الصفحة