بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الإخوة المؤمنون

لقد تحدثنا في الخطبة السابقة عن أن الإسلام يقيم العلاقات الإنسانية وحتى العلاقات بين الانسان وبين الله سبحانه وتعالى على أساس الحقوق المتبادلة، وليس على أساس الحقوق المحضة فقط من طرف دون طرف، ولا على أساس المسؤوليات وحدها دون أن يكون في مقابلها حقوق، فلا بد أن تكون هناك حقوق وواجبات وهذا ما سمي في المصطلح الاسلامي بالحقوق المتقابلة.

ونحن في هذه الخطبة نتحدث عن هذه الحقوق المتقابلة بين الوالدين والأولاد بعدما تحدثنا في الخطبة السابقة عن الحقوق المتقابلة بين المسلمين بعضهم مع بعض، بين كل فرد وآخر من هذه الامة الاسلامية.

بين الله سبحانه وتعالى في كثير من الآيات حقوق الوالدين على الأولاد، ولخصها قوله سبحانه وتعالى (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، ونحن لا نفصل في هذه الحقوق، ولكن نتحدث عن الحقوق المفصلة بشئ من الايجاز، الحقوق التي أوجب الله سبحانه وتعالى على الوالدين بالنسبة للأولاد، هذه الحقوق تدل عليها كذلك آيات كثيرة واحاديث صحيحة ، ومن هذه الآيات الكريمة قوله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، هذه الآية الكريمة هي الجامعة لكل الحقوق التي أوجبها الله سبحانه وتعالى على الوالدين نحو الأولاد، ولخصها القران الكريم كعادته في الايجاز الجميل بالوقاية، بأن هذا الحق يقتصر وينحصر في أن الوالدين هما المسؤولين عن الأولاد، بأن يحافظوا على هذا الولد، ذكرا أو أنثى، حفاظاً شاملاً لدينه ولعقله ولروحه ولقلبه ولبدنه ولصحته، وقاية شاملة عن المحرمات، وقاية شاملة ودافعة نحو الاندفاع للواجبات، والآداب الطيبة، ولكل ما يجب أن يحمي الانسان به نفسه، فيجب على الوالدين والمسؤولين أن يقوموا بهذه الحماية، فقد جمع الله سبحانه وتعالى هذه الأمر بالوقاية، بواو العطف، “قوا أنفسكم وأهليكم نارا” فالواجب واحد جامع بين هذه الوقاية، فمن لم يحمي ولم يقي أولاده وأهله من كل ما ذكر من المحرمات والمؤذيات للدنيا والآخرة فإنه قصّر في حق الله سبحانه وتعالى، وقصّر في حق أهله، وهو يحاسب عند الله سبحانه وتعالى، ويُسأل عن هذه الأولاد كما يُسأل عن نفسه وعما فعله وعما قام به خلال حياته ، فالسؤال وإن كان مترتباً على أمرين أساسيين ولكن غير قابل للفصل بينهما، فكما تجب عليك وقاية نفسك يجب عليك وقاية أهلك من الزوجة والأولاد والأحفاد وكل من يقع تحت مسؤوليتك أمام الله سبحانه وتعالى.

ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصا على هذه التربية لأمته، وكذلك كان لأولاده وأحفاده فقد رأى يوما أن الحسن بن علي رضي الله عنهما وعليهما السلام أن أكل تمرة من الصدقة فرأه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كخ كخ. أما علمت أنا لا نأكل الصدقة) فهذا أيضا دليل بأن على الوالدين أن يربوا الاولاد عل حب الطيبات، والابتعاد عن المحرمات منذ الصغر، وأن لا يستهين بهذه المسألة سواء كان لنفسه أو لغيره، وأن أي لحم نبت من الحرام فالنار أولى به”، وحتى الآداب المطلوبة التي يجب على الطفل أو على الصغير ان يتعلمها علمها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قدوة لنا فقد روى البخاري ومسلم بسنهما عن أبي حفص عمر بن أبي سلمة وهو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم أي ابن زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم أم سلمة فقال: كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك(، فقال ابو حفص، كان ذلك طعمتي أي صفة أكلي منذ أن سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام. فلا يجوز للوالدين أن يتركا أولادهما حينما يريا منه شيئاً يخالف الأدب في الكلام أو الأكل أو المشي أو التعامل، بل يجب على الوالدين أن يربي الأطفال منذ الصغر على هذه الآداب العظيمة.

 وربما سورة لقمان وقصة لقمان تدل على ذلك، حيث إن هذه القصة خلّدها القران، وتدل على ما يحب على الوالدين من ان يقوما به أول ما يقومان به، وهو غرس العقيدة الصحيحة في نفوس الاولاد، وربط الأولاد بالله سبحانه وتعالى، وزرع الخشية والمراقبة في نفوسهما، وهذا ما قاله سيدنا لقمان (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، هذا دليل  على غرس الايمان بأن الله مطلع عليك وأن الله يراك في كل ما تفعل به، فليكن عندك الخشية والخوف من الله سبحانه وتعالى، واذا زرعت هذه الخشية وهذه العقيدة الصحيحة فإن ذلك حماية عظيمة لهؤلاء الاولاد، كما فعل ذلك سيدنا يعقوب مع سيدنا يوسف رباه على هذه العقيدة، وعلى هذا الخوف، وحينما عرضت هذه المرأة الجميلة، صاحبة المال والجاه، وهي سيدته، وغلقت الأبواب، وقالت هيت لك، حينئذ قال يوسف وهو لا يزال غلاماً (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)،

 هذه البداية الصحيحة لتربية الأولاد، ثم بعد ذلك التعليم على الأحكام الشرعية والواجبات من الصلاة والصيام، وهذا ما ورد في الأحاديث الصحيحة حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم “مرّوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها لعشر وفرّقوا بينهم في المضاجع”، فحينما يبلغ الأولاد عشر سنوات حينئذ يجب على الوالدين أن يقوما بتعليمهما، وحثهما على الصلاة، بل الصلاة في المسجد والجمعة والجماعة، واذا امتنع فلا بد من التربية بكل الوسائل بما فيها الضرب التأديبي وليس الضرب للإيذاء كما يحدث لبعض الناس.

إن هذه الحقوق هي من أعظم الحقوق، وهي ليست حقوقاً خاصة بالأولاد، وإنما هي حقوق الله سبحانه وتعالى على الوالدين، بأن يقوما بهذا الواجب، بل إنها حقوق المجتمع، وحق المجتمع على الوالدين، لأنه هذا يترتب عليه تربية الأجيال، فإذا لم نربي الأجيال الصالحة فإن ذلك يؤدي الى الفساد، فواجب كل جيل أن يقوم بتربية الناس المصطفين، الناس المختارين، كما يقول الله سبحانه وتعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)، فإذا قصّر الوالدان هذا الحق فإنه يكون ايضا محاسباً أمام الله أولا ثم أمام المجتمع وأمام التاريخ، وأن كل ما يفعله الأولاد سيكون للولدين أثر سلبي أو أثر ايجابي، فمن الصدقات الجارية: الولد الصالح الذي يدعو لك أو يعمل عملاً صالحاً فإن الله سبحانه وتعالى يكتب لك بذلك الخلود، ولذلك ورد في بعض الآثار حينما تسلم الصحيفة للإنسان بيمنه، يشكر الله على ذلك، ويقرأ ثم ينتهي من أعماله، ويأتي بعد ذلك أعمال لم يعملها، وكتب له أجر مسجد أو اجر تعليم أو كذا وكذا، ويقول فرحا يا ربي أني لم أفعل هذا وأنى لي بهذه الخيرات، فينادي المنادي من السماء: بأن هذا من آثار فعلك، مما فعله اولادك، وقُرأ بعد ذلك (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)، فمن أعظم الآثار الذي يتركها الانسان خيرا أو شرا هو الأولاد، فإذا ربيت الأولاد على العمل الصالح فكل ما يفعله هو و أولاده من بعده ثم ما يفعله كل من يتأثر به فهو قد كتب لك مثل أجورهم دون أن يُنقص من أجور الأولاد والأحفاد والمتاثرين بأولادك شيئاً، وكذلك الأمر في الشرور والسيئات اذا قصّرت، أما اذا لم تُقصر فإن الهداية بيد الله سبحانه وتعالى كما فعل سيدنا نوح، بذل جهده مع احد أولاده ولكنه لم ينفعه وعصى ولم يطع الله سبحانه وتعالى، حينئذ نال جزاءه في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بنار جهنم.

إن هذه المسؤولية عظيمة تبدأ حتى قبل الزواج، فقد جاء رجل الى أحد فقهاء العظام المربين وهو محمد بن سحلول وشكا اليه سوء تصرفات أولاده، وقال إنك قد تأخرت. وقال الرجل: ما تأخرت، فأولادي ما يزالون في سن الثالثة والرابعة والسادسة. قال: لو أتيت قبل ذلك لكنت قد وصيت لك الزوجة الصالحة التي تنجب اولاداً صالحين. اذا المسؤولية تبدأ حينما تفكر في الزواج فقد يكون بعض الناس يعتمدون على معيار الجمال أو الجاه أو النسب دون معيار الدين، فحينئذ يضيع الاولاد بسبب سوء أخلاق الزوجة وكذلك بسبب إهمال الزوجة أو المشاكل الزوجية.

وتستمر هذه المسؤولية قبل الزواج وحينئذ عليك ان تختار الزوجة الصالحة، الزوجة العاقلة والهادئة والقادرة على تربية الأولاد، وأنت تشارك معها، ولا يجوز لك أن تترك الحبل على الغارب وأن تنشغل بمجلسك أو أصحابك أو تجارتك وتترك المسؤولية على الزوجة أو على الخادم والخادمة.

ليس هناك شئ أهم من اولادك وأهلك، هم الأهم شرعا وطبعا ونتيجة وأثراً، وأنت مسؤول عنهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ” كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، كل انسان عليه المسؤولية ، فالله سبحانه وتعالى يسألك عنها وهذه المسؤولية تمتد الى ما نهاية، الى أن يموت الانسان أو أن يموت الولد، فأنت مسؤول عن هذا سواء كان الأولاد صغارا أو كبارا، لأن النصح يبقى، والمسؤولية كذلك تبقى، ولا يجوز للإنسان أن يترك ولده إن تزوج، بل أنت مسؤول بقدر ما تستطيع، تنصحهم وترشدهم وربما توبخهم بإسلوب جيد، وتستعمل الأساليب المؤثرة لحمايتهم.

هذه المسؤولية ليست مسؤولية دينية فقط، وإنما أنت مسؤول عن بدنهم وعن صحتهم وعن عقولهم وكذلك عن قلوبهم، حتى تتربى على القلب السليم البعيد عن الكبر والمشاكل وحب المال، ويجب علينا أن نعلم بأن المال ليس كل شئ، وإن المال وباء إحيانا على الانسان، بل إن الفقر في معظم الاحيان يدفع بالأنسان ان تكون أفضل في حالة الفقر، حينما تكون الغناء وباءاً لأن الفقر يدفع الى التعليم ويدفع الى التنافس، وقد رأيت أحد المسلمين في كوريا الجنوبية وقال لي إنني أُعلّم أولادي بأن يذاكروا ليس أقل من تسع ساعات. وقلت: لماذا. قال: لأنه إن لم يكن متفوقا لا يعيش، وليس القضية كما عندكم في الخليج يجد العمل، وقد لا ينظر الى علمه بل الى نسبه وجاهه، فالتنافس عندنا هو التنافس على الأفضل وهذا ما بينه الله سبحانه وتعالى ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا) .

الخطبة الثانية

ونحن نتكلم عن حقوق الاولاد، فعلينا ايضا أن نذكر أولاد المسلمين الذين يعانون من القتل والتعذيب والجوع والتشريد في معظم بلادنا الاسلامي، ولا سيما في فلسطين، حيث مرت علينا خلال هذه الايام الذكرى 64 من هذه النكبة، التي اصابتنا جميعاً، ولكنها اصابت اخواننا الفلسطينيين خاصة، هذه النكبة التي بدأت بغرس هذه الدولة الصهيونية أو الجرثومة في قلب العالم العربي وفي قلب العالم الإسلامي، في ابرك مكان بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، تلك الأرض المباركة التي فيها الأقصى، التي بين الله سبحانه وتعالى بركة الله في الأقصى وما حول الأقصى، وهؤلاء اخوانا الأسرى يعانون اشد المعاناة من ايذاء وتصرفات إجرامية نحوهم، وأكثرهم معتصمون وممتنعون عن الأكل لأنهم يرون أن الموت أعز مما يعانون كما يقول الشاعر: ذا أظمأتك أكف اللئام كفتك القنَاعة شِبعا وريا، فكن رجلا رجله في الثرى وهامة همته في الثريا أبيًّا لنَائل ذي ثروة تراه بما في يديه أبيا فإن إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيا.

هؤلاء لا يرعون ابدا، لا حقوق الله ولا حقوق العباد، ولا القوانين، فعلينا على أقل التقدير أن ندعو لهم بالتضرع الى الله سبحانه وتعالى لأن ينصرهم نصرا عزيزا.

كذلك نتذكر اطفالنا في سوريا يقتلون ويشردون ويعدمون مع ابائهم وامهاتهم في هذا الظلم البائن، وهذا الجور الواضح، دون أن تتحرك الامم المتحدة أو الدول الإسلامية تحركا مؤثرا، ولو كانت القضية تخص اليهود أو تخص النصارى لكانت النتيجة شيئا آخر، وأقاموا وما أقعدوها. فعيلنا بدعم إخواننا في سوريا بكل ما نستطيع إعلاميا ومالياً وأن نضغط من خلال وسائل الإعلام على حكوماتنا حتى تقوم بواجبها، وإن كانت، وللحق نقول، أن دولة قطر لا تألوا جهدا في هذا المجال ونحن ندعو لها أن تستمر في دعم هؤلاء المظلومين والمضطهدين.

ولا يسعنا إلا أن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يوفق مصر، التي هي حقيقة عزتها عزة الجميع، وقوتها قوة للعرب والمسلمين، ونسأل الله العظيم أن يوفقهم في إختيار رئيس يقوم بتحقيق العدل، ويقوم على اساس العدل والقيم، وإعادة الدور العظيم لهذه الدولة العظيمة، التي كانت لها تاريخ ولا زال لها تاريخ، وعلينا أن نقف وأن ندعو  إخواننا المصريين بأن يختاروا ما هو الأصلح دون النظر الى أي أدعاءات مغرضة التي توجه ضد الاسلاميين بشكل خاص، وهم أي المصريين جربوا الاشتراكيين وجربوا الشيوعيين وكذلك القوميين وقد فشلوا جميعا، فليعطوا المجال للإسلاميين ولمن هو أفضلهم دون أن نخصصهم، هم أعلم بذلك، وشعب المصر أقدر على ترشيح من هو مناسب، ولكن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يسدد خطاهم، وأن يسدد إنتخاباتهم، ويسسد أختيارهم نحو الأصوب والأحسن.