نتيجة البحث :


1 ــ بعد هذا العرض ، والتطواف في أجواء القرآن الكريم والسنة المشرفة ، وأقوال الصحابة والتابعين والفقهاء المعتبرين أن السنة الصحيحة الثابتة ــ من الناحية التشريعية ــ مثل القرآن الكريم ، ولا يضير ذلك أن القرآن معجزة ، ومنزل بلفظه ومعناه ، والسنة منزلة بمعناها ، أو مقررة، وأن القرآن قد وصل كله إلينا بالتواتر ، والسنة قد وصلت إلينا عن طريق التواتر ، وعن طريق الآحاد ، لكنهما من حيث الدلالة على الحكم الشرعي سواء ، باعتبار أن الحكم لله وحده لكنه أذن لرسوله أن يبين حكم الله تعالى . ثم إنه ما دام ذلك حكم الله ودينه فإنه لم يضِّيع منه شيئاً ، بل قد حفظ إلينا .


2 ــ فعلى ضوء ما سبق أن علاقة السنة بالتشريع تتبين إذا وضحنا المراد بالشرع ، فإذا أردنا به : هو ما أنزله الله تعالى على رسوله لهداية الناس إلى صراط الله ، فيكون القرآن والسنة كلاهما هو ذلك الشرع ، وكل واحد منهما صنوه ، وحينئذ فكما لا يقال : السنة منها ما هو للتشريع ، ومنها ما هو لغيره ، وذلك لأن كله شرع الله تعالى ، بل يكون هذا التقسيم عبثاً لا طائل تحته ، فالسنة مثل القرآن فيها العقائد ، والأحكام التكليفية ، والأخلاق ، والسلوك ، والقصص وأحوال الأمم بالإضافة إلى الجانب العملي للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .


وإذا فسَّرنا الشرع والتشريع بالأحكام الشرعية التي تختص ببيان الأوصاف الشرعية لأفعال المكلفين ، والتي تشمل الأحكام التكليفية الخمسة ــ أي الإيجاب والندب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة ، وزاد الحنفية : الفرض ، وكراهة التحريم ــ والأحكام الوضعية الخمسة ــ أي السبب ، والمانع ، والشرط ، والصحة والبطلان ، وزاد الحنفية : فحينئذ فإن من السنة ما هو يتعلق بفعل المكلف ، ومنها ما لا يتعلق به بل يتعلق بذات الله تعالى ، أو بالملائكة ، أو بالكون ، أو نحو ذلك فحينئذ نقول : السنة منها ما يؤخذ منها الأحكام التكليفية والوضعية ، ومنها ما لا يؤخذ منها ذلك بل يؤخذ منها أمور أخرى ، وحينئذ يجري هذا التقسيم في القرآن نفسه ، فمنه ما يتعلق بفعل المكلف ، ومنه ما لا يتعلق به ، بل يتعلق بذات الله تعالى ، أو بكيفية خلق الإنسان والسموات والأرض ، وإن كان كل هذه الآيات والسنن من الصادق المعصوم يجب الإيمان به .


3 ــ فعلى ضوء ذلك نقول : إن السنة جميعها بما فيها الأقوال والأفعال ، والتقارير ، والصفات الخلقية ــ بضم الخاء ــ كلها تدل على التشريع ، ولكن لفظ التشريع يشمل كل هذه الأحكام العشرة ، أو الثلاثة عشر ، أو الأكثر ــ حسب اصطلاح الأصوليين ــ إلا إذا دل دليل على الخصوصية .


4 ــ وبسبب عدم تحديد معنى التشريع وقع خلط كبير بين بعض المحدَثين ــ بفتح الدال ــ حيث فهموا منه الإلزام والوجوب ــ كما ذكرنا بخصوص الدهلوي والشيخ محمد عبده وغيرهما .


5 ــ وفي اعتقادي هكذا كان فهم الصحـــابة الكرام فلم يفهموا مما يصدر من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قولا ً ، أو فعلا ً ، أو تقريراً ، إلا أنه للتشريع ، وإن كان ربما يقع خلاف فيما بينهم هل هذا للوجوب ، أو الندب ، أو الإباحة ــ إلى غير ذلك ــ فيقول بأحدهما بعض ، ويقول بالحكم الثاني الآخر .


فقد روى البخاري وغيره بسندهم عن ابن عمر رضي الله عنهما قـال : ” اتخذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خاتماً من ذهب ، فاتخذ النــاس خواتيم من ذهب فقـال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :” إني اتخذت خاتماً من ذهب ” فنبذه ، وقال :” إني لن ألبسه أبداً فنبذ الناس خواتيمهم ”    . قال الحافظ ابن حجر : ” والأصل فيه … عموم الأمر في قوله تعالى : (( وما آتاكم الرسول فخذوه )) ، وقوله تعالى : (( فاتبعوني يحببكم الله )) وقوله تعالى : (( فاتبعوه )) فيجب اتباعه في فعله ، كما يجب في قوله حتى يقوم دليل على الندب ، أو الخصوصية ، وقال آخرون : يحتمل الوجوب ، والندب والإباحة ، فيحتاج إلى القرينة ، والجمهور على الندب إذا ظهر وجه القربة . ثم قال :” اقتصر على هذا المثال لاشتماله على تأسيهم به في الفعل والترك ، قال ابن بطال : بعد أن حكى الاختلاف في أفعاله ( صلى الله عليه وسلم ) محتجاً لمن قال بالوجوب بحديث الباب ، لأنه خلع خاتمه فخلعوا خواتيمهم ، ونزع نعله في الصلاة فنزعوا ، ولما أمرهم عام حديبية بالتحلل تأخروا عن المبادرة رجاء أن يأذن لهم في القتال وأن ينصروا فيكملوا عمرتهم ، قالت له أم سلمة : اخرج إليهم واحلق واذبح ففعل فتابعوه مسرعين فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول ، ولما نهاهم عن الوصال قالوا : إنك تواصل ، فقال : إني أطعم وأسقى فلولا أن لهم الاقتداء به لقال :” وما في مواصلتي ما يبيح لكم الوصال ، لكنه عدل عن ذلك وبين لهم وجه اختصاصه بالمواصلة ”   .


وقد ترجم البخاري باب الاقتداء بسنن رسول الله ، ثم أورد فيه كثيراً من الآيات والأحاديث ، منها ما رواه بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : ” إن أحسن الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد … ” ، وما رواه عن أبي هريرة وزيد بن خالد قالا :” كنا عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال :” لأقضين بينكما بكتاب الله ” ، وما رواه عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال :” كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا : يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى ” وما رواه بسنده عن جابر بن عبد الله يقول :” جاءت ملائكة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو نائم ……  فقـالوا :” فمن أطاع محمداً( صلى الله عليه وسلم ) فقد أطاع الله ، ومن عصى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فقد عصى الله ” ومنها ما رواه عن أبي وائل قال : جلست إلى شيبة في هذا المسجد ، قال : جلس إليَّ عمر في مجلسك هذا فقال : هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين . قلت : ما أنت بفاعل . قال : لِم ؟ قلت : لم يفعله صاحباك . قال : هما المرآن يقتدى بهما    قال ابن بطال :” أراد عمر قسمة المال في مصالح المسلمين ، فلما ذكره شيبة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر بعده لم يتعرضا له لم يسعه خلافهما ، ورأى أن الاقتداء بهما واجب ” قال الحافظ ابن حجر :” وتمامه أن تقرير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منزل منزلة حكمه باستمرار ما ترك تغييره فيجب الاقتداء به لعموم قوله تعالى : (( واتبعوه )) وأما أبو بكر فدل عدم تعرضه على أنه لم يظهر له من قوله( صلى الله عليه وسلم ) ولا من فعله ما يعارض التقرير المذكور ولو ظهر له لفعله ولا سيما مع احتياجه للمال … ”   .


وقد ذكرنا ــ سابقاً ــ شواهد كثيرة وأدلة قاطعة على أن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما كانوا يخالفون أوامره ، ونواهيه حتى ولو كانت لا تتفق مع ما يرونه مصلحة في نظرهم ، فقضية عمر في صلح الحديبية ــ وهي مسألة حربية ــ أكبر دليل على ذلك حيث صعب جداً على عمر وعلي غيره هذه المعاهدة ، لأن فيها في نظرهم تعسفاً وإجحافاً لحق المسلمين ، ولا سيما قد رأوا أن أبا جندل جاء فرده إلى قريش ، ومع ذلك خضعت لها أعناقهم ورضوا بها ، روى البخاري عن سهل بن حنيف قال :” يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم ، لقد رأيتني يوم أبي جندل ، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لرددته ”    قال الحافظ ابن حجر :” والحاصل أن المصير إلى الرأي إنما يكون عند فقد النص ”    .


ويقول البخاري :” وكانت الأمة بعد النبي( صلى الله عليه وسلم ) يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فإذا وضح الكتاب ، أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي … ”   . فقد كانوا حقاً عضوا على السنة بالنواجذ   ، ولم يخالفوها ، وإن كانت الأفهام قد تختلف في فهم معاني بعضها .


فما يقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وما يفعله ، ويقره حق لا باطل فيه يقول الحافظ ابن حجر :” ووقوع ذلك ــ أي الكلام الذي لا يقتدى به بدون فائدة ــ مستحيل لأنه معصوم لقوله تعالى : (( ومــا ينطق عن الهوى )) ولقـوله ( صلى الله عليه وسلم ) :” إني لا أقول في الغضب والرضا إلا حقاً ”   . يقول الغزالي :” اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة والاقتداء لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جميع مصادره وموارده وحركاته وسكناته ، حتى في هيئة أكله ، وقيامه ونومه … ” .


6 ــ ثم إن أقوال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيها ما يدل على الوجوب ، أو الندب أو التحريم ، أو الكراهة ، أو الإباحة ، أو السبب ، أو الشرط إلى آخر الأحكام الشرعية .


وتعرف هذه الدلالات من خلال القرائن ، وقد وضع علماء الأصول ضوابط لها ــ نذكرها في القسم الثاني إن شاء الله ــ وأما أفعاله ، فقد اتفق العلماء على عصمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وباقي الأنبياء عن الكبائر ، وعن رذائل الأخلاق ، وأن المحققين منهم على عصمتهم عن الصغائر أيضاً ، وحتى الذين قالوا بجواز وقوع الصغيرة منهم اتفقوا على أنهم تابوا وأنهم لا يقرون عليها ، كما اتفقوا على أنهم معصومون أيضاً عن الخطأ الذي لا يصحح لهم ، فحتى لو وقع منهم خطأ فلا يقرون عليه   ، فعلى ذلك فليس في فعله محرم ، ولا مكروه ، وإنما أفعاله إما للإباحة ، أو للوجوب ، أو للندب ، والقرائن هي التي تعيِّن ذلك حسب الضوابط التي ذكرها . وكذلك الأمر في تقاريره ، وصفاته الخلقية ــ بضم الخاء ــ .


فالخلاصة أن جميع ما يصدر منه يؤخذ منه حكم شرعي ما دام يتعلق بفعل المكلف والله أعلم .


7 ــ ثم إذا وجد النص من الكتاب أو السنة الصحيحة الثابتة ، فلا يجوز العدول عنه ، ولا الاجتهاد معه للوصول إلى مخالفته ، ولكن ذلك لا يعني عدم جواز الاجتهاد فيه ، فقد كان الصحابة والفقهاء يجتهدون في النص ويختلفون في معانيه ، ولكنهم لا يجتهدون معه وهم يطرحون النص عرض الحائط ، فعلى هذا يفسر رأي عمر في المؤلفة قلوبهم ، حيث فسر عمر المؤلفة بشكل لا يشمل هؤلاء الذين جاؤوا إليه ، وكذلك آية السرقة فسرها بأن السرقة لا تتحقق مع الضرورة التي تبيح المحظورات وهكذا   .


والله أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل .  


 اعلى الصفحة