ضوابط ما يكون من السنة تشريعاً :


لقد وقع فيها خلط ولبس كبير ، واختلاف بين المعاصرين ، نوضحه فيما بعد ــ بإذن الله تعالى ــ ولا أثير هنا ما ذكره المستشرقون وأتباعهم وإنما يقتصر بحثي على آراء الكتاب المتأخرين والمعاصرين المسلمين ، مع الرد عليها ومناقشتها للوصول إلى ما هو الحق في نظري ــ والله الموفق ــ فذهب العلامة الدهلوي إلى :” أن ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ودون في كتب الحديث على قسمين ، أحدهما ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة وفيه قوله تعالى : (( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )) منه علوم المعاد وعجائب الملكوت وهذا كله مستند إلى الوحي   ومنه شرائع وضبط للعبادات والارتفاقات بوجوه الضبط المذكورة فيما سبق وهذه بعضها مستند إلى الاجتهاد واجتهاده ( صلى الله عليه وسلم ) بمنزلة الوحي لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرر رأيه على الخطأ وليس يجب أن يكون اجتهاده استنباطاً من المنصوص كما يظن بل أكثره أن يكون علمه الله تعالى مقاصد الشرع وقانون التشريع والتيسير والأحكام فبين المقاصد المتلقاة بالوحي وبذلك القانون ، ومنه    حكم مرسلة ومصالح مطلقة لم يوقتها ولم يبين حدودها كبيان الأخلاق الصالحة وأضدادها ومستندها غالباً الاجتهاد بمعنى أن الله تعالى علمه قوانين الارتفاقات فاستنبط منها حكمة وجعل فيها كلية ، ومنه فضائل الأعمال ومناقب العمال ، وأرى أن بعضها مستند إلى الوحي وبعضها إلى الاجتهاد وقد سبق بيان تلك القوانين وهذا القسم هو الذي نقصد شرحه وبيان معانيه .


 وثانيهما ما ليس من باب تبليغ الرسالة وفيه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) :” إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر ” وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في قصة تأبير النخل :” فإني إنما ظننت ظناً ولا تأخذني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لم أكذب على الله ” فمنه الطب ومنه باب قوله( صلى الله عليه وسلم ) :” عليكم بالأدهم الأقرع ”    ومستنده التجربة ، ومنه ما فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل العادة دون العبادة وبحسب الاتفاق دون القصد ، ومنه ما ذكره كما يذكر قومه كحديث أم زرع وحديث خرافة وهو قول زيد بن ثابت حيث دخل عليه نفر فقالوا له حدثنا أحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :” قال كنت جاره فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليَّ فكتبته له فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا فكل هذا أحدثكم عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ ، ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبئة الجيوش وتعيين الشعار وهو قول عمر رضي الله عنه : ما لنا وللرمل كنا نتراءى به قوماً قد أهلكهم الله ثم خشى أن يكون له سبب آخر ، وقد حمل كثير من الأحكام عليه كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) :” من قتل قتيلا ً فله سلبه ” ومنه حكم وقضاء خاص وإنما كان يتبع فيه البينات والإيمان وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي رضي الله عنه :” الشاهد يرى ما لا يراه الغائب ”   . انتهى .


ولي على هذا الكلام والتقسيم هذه المآخذ ، والملاحظات الآتية :


أولا ً : إن هذا التقسيم ليس عليه مقنع سوى اجتهاد المؤلف وهو لا يلزم غيره .


ثانياً : استدل على القسم الأول بقوله تعالى (( وما آتاكم الرسول فخذوه )) وهو استدلال مقلوب عليه ، لأن لفظ ” مـــا ” عامة فتخصيصه ببعض ما روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دون بعض تخصيص بلا دليل ، وهذا غير جائز بالاتفاق .


ثالثاً : اعتمد في اعتبار بعض الأمور أنها ليست من بـــاب تبليغ الرســـالة على قوله( صلى الله عليه وسلم ) :” إنما أنا بشر … ”   .


والجواب عن ذلك من وجوه :


الوجه الأول : أن الرسول( صلى الله عليه وسلم ) لم يأمرهم بترك التلقيح ، وإنما قال كما في صحيح مسلم :” ما أظن يغني ذلك شيئاً ” فقد أراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غرس العقيدة العميقة في أنفسهم ، وذلك بإسناد كل شيء إلى الله تعالى وأن التلقيح في الحقيقة ليس السبب الحقيقي ، وإنما هو الله وحده ، ولم يقصد الرسول ترك الأسباب الظاهرة ، وكيف يقصد ذلك وهو الذي أخذ بجميع الأسباب الظاهرة في كل حياته مع اعتماده وتوكله على الله ، ومن قرأ سيرته العطرة سواء كانت في هجرته ، أو حروبه وغزواته يرى مدى عنايته الشديدة بأخذ الأسباب الظاهرة ، ولكن القوم أخطأوا الفهم ، وفهموا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأمرهم بذلك ، فتركوا التلقيح استجـابة لذلك ، ثم لمـا حصل ما حصل بين لهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن الإسلام يعترف بإسناد كل أمر إلى من هو أهله ، فلم يأت الإسلام إلا لبيان حكم الله وتعمير الكون على ضوء منهج الله ، أما كيف تعمرونه فهذا شأن المختصين ما داموا ملتزمين بالحل والحرمة ، فقد أعطاهم درساً واعياً ، وصحح توهمهم القائم على ترك الأسباب الظاهرة ، وقال لهم لتقرير ذلك :” أنتم أعلم بشؤون دنياكم ” أي أن الأمور الدنيوية الخاصة بالفلاحة والزراعة والصناعة والتجارة أنتم أعلم بها مني ، لأن الرسول( صلى الله عليه وسلم ) لم يبعث لتعليم الناس كيف تلقح النخل ، وكيف يُصنع السلاح ، ولكن هذه الأمور الدنيوية باعتبارها نشاطاً للإنسان يتعلق بها الأحكام الشرعية ، ولذلك أمرنا الإسلام بالإعداد الكافي ، ونصَّ الفقهاء المسلمون على أن هذه الصناعات الضرورية للمجتمع من فروض الكفاية .


فقد بين الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لهم أن دين الإسلام لم يأت لفصل الأسباب عن مسبباتها ، وإنما لسان جاء لربط شؤون الدنيا بأحكام الله تعالى ، بحيث تسير على المنهج المرسوم من حيث كونها مشروعة ولذلك فالحديث يتضمن حماية للمسلمين وقاعدة عامة وهي أنه لا يقبل لكل من ينتسب إلى هذا الدين أن يتدخل في سنن الله تعالى في الكون وقوانينه بالتغيير ، ولكنه يبين الطريقة المشروعة من غير المشروعة ، أما التنفيذ فيترك لأهل الاختصاص ، ولكن مع التأكيد على عدم نسيان الجانب العقدي حتى في هذه المسألة ، وذلك بوجود الإيمان الكامل بأن الله هو الخالق وحده ، وأن السبب ليس إلا وسيلة ظاهرة أمرنا الله تعـالى بالأخذ بها ، قال تعالى : (( إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً . فأتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين … ))   .


يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :” والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منهـــا شرع ، وهو( صلى الله عليه وسلم ) لما رآهم يلقحون النخل قال لهم : ” ما أرى هذا يغني شيئاً ” وهو لم ينههم عن التلقيح لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم ، كما غلط من غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود ”   .


الوجه الثاني : أن هذا الحديث يدل على أن الصحابة قد فهموا من كل قوله وفعله التشريع ، ولذلك تركوا تأبير النخل مع علمهم القائم على التجربة الثابتة أنه ضروري وأن التمر بدون التلقيح يطلع رديئاً ، لكنهم أخطأ هؤلاء في فهم النبي هذا ومغزاه ، حيث لم يقصد أن يأمرهم بذلك .


الوجه الثالث : أن شؤون الدنيا يتعلق بها أمران :


الأمر الأول : ما يختص بكيفية هذه الشؤون من ناحية الصنع والإرادة فهذه متروكة للمختصين ، وأما الأمر الثاني فهو ما يتعلق بالناحية التكليفية من حيث الحل والحرمة فهذا خاص بالشرع حيث يبين ما هو الحلال من الأعمال والصنائع والزراعة والتجارة ، وما هو حرام ، بل ومن حيث الوجوب ، والندب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة ، حيث إن هذه الأمور الدنيوية منها ما هو واجب سواء كان واجباً عينياً ، أو كفائياً ، أو مندوباً … الخ .


إذن فهذا الحديث دل على إباحة هذه الأمور ، ودل على إسناد الأمر الخاص بالأسباب الظاهرة إلى المختصين .


والخلاصة أن فعل المكلف مهما كان وكيفما كان فهو يتعلق به حكم شرعي حتى وإن كان إباحة لأن الإباحة حكم شرعي لا شك في ذلك ــ كما سبق ــ فعلى ضوء هذا فأمور الدنيا أيضاً خاضعة للحكم الشرعي بالاعتبار السابق .


رابعاً : إن إخراج كل الأحاديث الواردة بخصوص الطب عن التشريع أمر لا يمكن قبوله ، وذلك لأن الطب أيضاً كأي نشاط إنساني من فعل المكلف ، والحكم الشرعي يتعلق بكل أفعال المكلفين بإجماع الفقهاء ــ كما سبق ــ .


فالأحاديث الواردة بخصوص الطب تدل على إباحة التداوي والتطبب ، بل على ندبه أو وجوبه حسب الأحوال ، وعلى خلاف في تفصيلاته بين الفقهاء . وما وصفه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) للمرضى لا يمكن طرحه وعدم الاعتداد به ، ولا أقل من أنه يدل على إباحة استعمال ذلك الشيء الموصوف ، وقد أثبتت المؤتمرات الطبية الحديثة أهمية الوصفات الواردة في السنة المشرفة وأوضحوا الإعجاز الطبي فيها .


ثم ماذا يقول عن الآيات الخاصة بالعسل وأن فيه شفاء ً ؟ فهل يقول أيضاً : إنه ما دام الطب مستنداً إلى التجربة ، فهذه الآيات أيضاً خارجة عن نطاق التشريع ؟!


إنه حقاً لأمر عظيم ، وفهم غريب لا يشهد أي دليل على أن أحداً من الصحابة والتابعين اعتبر ما يقوله النبي( صلى الله عليه وسلم ) ما دام في شؤون الدنيا لا يدل على أي حكم شرعي ــ أدناه الإباحة ــ .


خامساً : أما اعتبار ” ما مستنده التجربة ” خارجاً عن نطاق التشريع فلا يسلم له وذلك لأن ذلك مهما كان فهو نشاط إنساني يتعلق به حكم الشرع من حيث الحل والحرمة ، فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) :” عليكم بالأدهم الأقرع ”    يدل على إباحة أخذ هذا النوع من الخيل ، بل على استحبابه حتى عقد بعض كتب الحديث باباً بعنوان : باب ما يستحب من ألوان الخيل    .


فقد دل هذا الحديث على استحباب هذا النوع من الخيل فما المانع أن يتفق مع التجارب الصحيحة التي لا تتعارض مع السنة الصحيحة الثابتة ، والتي تكشف لنا مدى صلاحية الشيء المجرب ، أو عدم صلاحيته ، فيأتي الشرع ليبين الحكم الشرعي في ذلك ، لأن الحاكم عند جميع أهل السنة والجماعة ليس العقل ، وإنما هو الشرع


ثم إن الأمور التجريبية أيضاً يدخل فيها الحكم التكليفي ابتداء ً وانتهاء ً وكيفية ، فقد بين الشرع مشروعية إجراء التجارب ، والاعتماد عليها ، وحدد لها شروطاً ومواصفات يجب على المسلم أن يلتزم بها .


سادساً : جَعَل : ” ما فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل العادة دون العبادة ” خارجاً عن التشريع ، ونلاحظ عليه ما يأتي :


الأمر الأول : لنا أن نسأله : ما المعيار لما فعله عادة ، وما فعله عبادة ؟ وكيف نميز بينهما ؟ ولا سيما أن المؤلف لم يذكر لنا أي معيار . ولو تركنا الحبل على الغارب لاختلط الأمر ، وتدخلت الأهواء فيه ، ولكان كل شخص يدعي أن هذا الفعل الذي فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو القول الذي قاله ليس من باب العبادة ، وإنما من باب العادة ، وحينئذ فُتِحَ باب لا يمكن سده . مع أننا لا نرى الفقهاء المعتبرين أنهم ردوا حديثاً بهذا السبب ، ولو كان ذلك سائغاً لسهل على كل واحد الالتجاء إلى ذلك في أكثر الأمور ، ولا سيما أن باب العادة واسع جداً تدخل فيه جميع الأمور العادية ، حتى النكاح والطلاق ، والحيض والنفاس ونحوها .


الأمر الثاني :  أن الأمور العادية أو ليست من أفعال المكلفين ؟ وحينئذ يتعلق بها الحكم الشرعي بالإجماع ــ كما سبق ــ فكل ما فعله النبي( صلى الله عليه وسلم ) لا تقل دلالته على كونه مباحاً وهو حكم شرعي .



الأمر الثالث : أن الفقهاء متفقون على أن النية تجعل العادة عبـــادة ، فمـــا فعله النبي( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان مباحاً فلو قصد به المؤمن التأسي والاقتداء يكون مثاباً    .


سابعاً : جَعَل ما فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ” بحسب الاتفاق دون القصد ” خارجاً عن التشريع ، وهذا أيضاً يلاحظ عليه أنه لم يبين لنا معياراً لذلك ، ولا ضرب لنا مثالا ً لما فعله دون القصد .


بل إن بعض العلماء يجعلون سهو النبي ونسيانه دليلا ً على التشريع فقد روى مالك بلاغاً أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال :” إني لأنْسَى ، أو أُنَسَّى ، لأُسِنَّ ”  


ثم إنه إذا كان يقصد بلفظ :” دون قصد ” السهو والنسيان فإن وقوعهما منه ليدل على حكم شرعي ، فوقوع السهو منه ــ كما في حديث ذي اليدين   ــ دليل على صحة الصلاة مع السهو ، وأن الكلام القصير ــ بعد السلام ــ لتذكير الإمام به لا يبطل الصلاة ولا يقطع المتابعة


وإن كان يقصد به الأعمال العادية فإنها لا تخلو عن قصد ما وحينئذ يتعلق به الحكم الشرعي ــ كما سبق ــ .


ثامناً : جَعَل :” ما ذكره كما كان يذكر قومه ” خارجاً عن التشريع ، ثم قال :” كحديث أم زرع ، وحديث خرافة ” أما أم زرع فلم أجد لها ترجمة في الإصابة لمعرفة الصحابة ، ولا أدري ماذا يعني بحديثه ، وأما حديث خرافة فقد ذكره فقال :” هو قول زيد بن ثابت … ” وهذا الكلام لم أجد له أصلا ً في كتب السنة المعتمدة ، فقد بحثت في مظانه ، وفي ترجمة زيد في طبقات ابن سعد ، وفي الإصابة   وغيرهما فلم أجد من أسند إليه هذا القول . وعلى كل حال فهذا الكلام المنسوب إلى زيد مبهم فماذا يقصد بقول : ” فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا … ” فهل يقصد أنه كان يذكرها بالخير والشر كعامة الناس ، أم أنه كان يبين ما يجوز فيها وما لا يجوز ؟!


فلا شك أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا يمكن أن يذكر الدنيا والآخرة والطعام إلا لبيان ما يجوز فيها وما لا يجوز ، فقد بين ما يحل من أمور الدنيا والطعام وما يحرم منهما .


ثم إن هذا الكلام المنسوب ــ على فرض صحته ــ لا يدل على ما أراده الدهلوي ــ بل يفهم منه أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كــان يشترك مع صحــابته في التحدث عن جميع أمور الدنيا والآخرة ، فيبين لهم منهج الله تعالى ، وما هو الواجب والمندوب ، والمحرم والمكروه والمباح في كل هذه الأمور ، بدليل قول زيد :” فكل هذا أحدثكم عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ ” ، فهذا دليل على أن زيداً قد فهم أن لفظ الحديث يشمل كل حركات النبي وأفعاله المتعلقة بالدنيا والآخرة والطعام ولذلك استصعب الإجابة على هذا السؤال حينما طلبوا منه فقالوا : ” حدثنا أحاديث رسول الله ” فكأنه يقول : كيف يسع وقتكم لأحدث عن كل ذلك ؟


فأين الدلالة على ما يتعلق بأمور الدنيا والطعام ليس من باب التبليغ ؟ فالدليل مقلوب عليه ، فهو حجة لنا ــ على فرض صحته ــ .


ومن جانب آخر أن جميع أحاديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المتعلقة بأقواله وأفعاله وصفاته وحركاته وسيرته قد حفظتها كتب السنة ــ كما سبق ــ .


تاسعاً : أدخل ” ما قصد منه من مصلحة جزئية يومئذ ” في ما ليس من باب تبليغ الرسالة ، ثم قال :” وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة ، وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبئة الجيوش وتعيين الشعار ” ولنا على ذلك عدة ملاحظات :


الملاحظة الأولى : أن الدهلوي يبدو أنه فهم من ” باب تبليغ الرسالة ” السنة اللازمة بدليل قوله :” وليس من الأمور اللازمة ” في حين أن باب التبليغ يشمل السنة التي تدل على الواجب ، أو المندوب ، أو المحرم ، أو المكروه ، أو الإباحة .


الملاحظة الثانية : أن ما فعله الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من تعبئة الجيوش كان لازماً لأصحابه أن يتبعوه فما كان لأحد منهم إذا أمره الله ورسوله بالاستعداد للجهــــاد أن يتخلفوا عنه ، وقصة الثــــلاثة الذين تخلفوا معروفة للجميع ، إذن فأمره( صلى الله عليه وسلم ) بالتعبئة والجهاد واجب على المأمورين ، ثم بالنسبة لما بعد عصره يجب على الأمة طاعة خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يأمر به من التعبئة اقتداء به .


 أما كيفية التعبئة وصورة القتال التي نفذها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فليست ملزمة ، لأن الرسول( صلى الله عليه وسلم ) لم يتخذ لنفسه كيفية واحدة حتى يقال إنها واجبة بعينها ، وإنما غير الكيفية ، ففي بدر كانت عبارة عن الصفوف ففوجئت العرب حيث كانوا يعتمدون على الكرِّ والفرِّ ، وفي غزوة الأحزاب اتبع أسلوب الخندق والدفاعات الطبيعية . فكل ذلك دليل على أنه يجب على الخليفة أن يتبع في أسلوب قتاله ما يحقق المصلحة للأمة ، والنيل من الكفرة ، ولكنه لو اتبع أحد الأساليب الحربية التي طبقها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأراد به الاقتداء ، وتحققت المصلحة المطلوبة لقد فعل حسناً يثاب عليه ، كما أنه في جميع الأساليب المختلفة مثاب عليه ، لأنه مأمور من قبل الشرع بإعداد كل ما يمكن إعداده للقاء العدو .


الملاحظة الثالثة : إن ما فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لدليل على مشروعية الشعار ولا سيما عند الحرب للأفواج والألوية والسرايا ، ولا يلزم من ذلك إلزامه ، والتشريع أعم منه حيث يشمله والندب والإباحة


عاشراً : استشهد بقول عمر رضي الله عنه ما لنا وللرمل … على أن الرمل ليس من باب التبليغ والتشريع ، ولكنه مع الأسف الشديد لم يكمل بقية الرواية التي تدل على خلاف دعواه ، حيث روى البخاري في صحيحه عن عمر قال :” ما لنا وللرمل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله ، ثم قال :” شيء صنعه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلا نحب أن نتركه ”   .


فقد بين عمر أن الحكمة من الرمل هي إراءة المشركين قوة الصحابة ومع أن المشركين قد هلكوا فمعنى ذلك أن الحكمة قد انتهت ، ولكن عمر بملكته الفقهية أدرك أن المنصوص لا ينظر فيه إلى بقاء الحكمة ، مثل السفر سواء وجدت المشقة أم لا فأحكامه باقية ، ولذلك عمر أوضح ما دام الرسول فعله فنحن لا نحب أن نتركه .


فهذه الرواية الصحيحة عن عمر تدل على أنه يرى أن كل ما صدر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهو التشريع حتى وإن أدرك عمر أن حكمته لم تبق فيه ، يقول الحافظ ابن حجر :” ومحصله أن عمر كان همَّ بترك الرمل في الطواف لأنه عرف سببه قد انقضى … ثم رجع عن ذلك لاحتمال أن تكون له حكمة ما اطلع عليها فرأى أن الاتباع أولى من طريق المعنى ، وأيضاً أن فاعل ذلك إذا فعله تذكر السبب الباعث على ذلك فيتذكر نعمة الله على إعزاز الإسلام وأهله ”   .


والرمل أساساً لم يكن ملزماً ولكنه كان من مناسك الحج يقول الطبري :” إن تاركه ليس تاركاً لعمل ، بل لهيئة مخصوصة فكان كرفع الصوت بالتلبية ، فمن لبّى خافضاً صوته لم يكن تاركاً للتلبية بل لصفتها ولا شيء عليه ” ، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء   .


وبالإضافة إلى بقاء سنية الرمل فإن عمل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا يؤخذ منه عدة أحكام قال الحافظ ابن حجر :” ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهاباً لهم ، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم ، وفيه جواز المعاريض بالفعل ، كما يجوز بالقول ، وربما كانت بالفعل أولى ”   .


فعلى هذا حتى لو قلنا بأن فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الرمل كان خاصاً لهذه الحكمة ، وبالتالي لا تبقى سنيته ــ كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء بناء على القرائن الدالة على توقيته ــ فإن هذا القول لا يمكن تعميمه على غيره مما لم تدل القرائن على توقيته ، بالإضافة إلى أن فعله الرمل قد أخذت منه هذه الأحكام السابقة . إذن كيف ينبغي لنا أن نبعده عن نطاق التشريع .


حادي عشر : قال :” وقد حمل كثير من الأحكام عليه كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) :” من قتل قتيلا ً فله سلبه ” . ونلاحظ عليه عدة أمور<