بسم الله الرَّحمن الرَّحيم



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، عبده  ورسوله محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سنته إلى يوم الدين .


وبعد :


فقد شرَّف الله عبده ورسوله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بحمل رسالته إلى الناس ليهديهم إلى صراطه المستقيم ، (( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله ))   ، فكلفه ببيان القرآن الكريم ودين الله بياناً وافياً ، فقام ( صلى الله عليه وسلم ) بأداء مهمته خير قيام ، فبين لهم الحلال والحرام ، والفرائض والواجبات والمندوبات ، وسار السلف الصالح على طريقته وسنته ففازوا وسعدوا في الدنيا والآخرة ، فكانوا يعتبرون طاعة الرسول طاعة الله (( ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ))    وأحكامه التي تصدر منه أحكام الله تعالى ، انطلاقاً من أن الحكم الشرعي من خصائص الألوهية والربوبية ، (( إن الحكم إلا لله ))   ، ومن هنا فما يصدر منه سواء كان قرآناً ، أو سنة ً فهو بيان لهذا الدين القيم ، وحقاً كان علماؤنا الأصوليون على حق ووعي حينما حصروا معنى الحكم في ” خطاب الله  المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء ً أو تخييراً ، أو وضْعاً ”    ، ثم جعلوا القرآن والسنة بياناً لهذا الحكم ، كما جعلوا الاجتهاد المتوفر فيه شروطه محاولة مقبولة للوصول إلى هذا الحكم ، ولذلك قد يصيب وقد يخطئ .


إذن فما الدين في الواقع إلا بيان لحكم الله تعالى وصراطه المستقيم الذي يريد إرشاد الناس إليه ، لكن لا يمكن الوصول إلى هذا الدين إلا عن طريق الرسول الهادي ، ومن هنا فأي محاولة للنيل من سنته وطريقته إن هي إلا مؤامرة على هذا الدين ، وتحطيم له .


ومن هنا فقد كان أعداء الإسلام أذكياء جداً حينما وجهوا سهامهم إلى السنة المشرفة ، وركزوا على الجانب التشريعي منها ، وذلك لأن إبعاد السنة يعني إبعاد البيان عن المبيَّن ــ وهو القرآن الكريم ــ وبالتالي عدم فهم الإسلام على حقيقته ، بل البعد عن الطريقة التي ارتضاها رب العالمين لرسوله وعباده ، ولأن في النيل من الجانب التشريعي من السنة نيلا ً من هدفها ، والغاية منها ، فالهدف من القرآن والسنة بيان الشريعة والطريقة التي ارتضاها الله ، وبيان أحكامه ، فلم ينزل القرآن ولا السنة إلا لذلك ، وحتى قصصها وما فيها من ذكر لطبيعة الكون وغير ذلك كل ذلك لأجل الاتعاظ وأخذ الأحكام منه ، ولذلك يقول الله تعالى بعد ذكر قصص الأنبياء (( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ))   . وإذا دققنا النظر في جميع الشبهات التي أثيرت حول السنة بدءاً من القرن الثاني الهجري إلى يومنا هذا نرى أن جميعها تنصب على هذا الجانب ، فالفِرَقُ الضالة التي شككت في السنة وفي كيفية الوصول إلينا وكذلك المستشرقون ومن تبعهم الذين يحاولون بشتى الوسائل للوصول إلى نتيجة خطيرة ، وهي أن السنة إنتاج بشري لا يمت إلى الوحي بصلة ، وحينئذ لا تكون تشريعاً ، فمثلا ً نرى ( جولد تسيهر )   وغيره من المستشرقين ومن نهل من منهلهم   يركزون على جانبين أساسيين هما : بشرية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإبعاد الرسالة والنبوة عنه ، هذا من جانب ، ومن الجانب الثاني : التشكيك في نسبة هذه الأحاديث إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإقامة الشبه والأوهام على أنها : إن هي إلا إفرازات الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الإسلامي في عهوده الأولى ، وأن ما فيها مما ثبت نسبته إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شيء نادر وقليل وهو قد اختلط بهذه الكثرة ، وبالتالي فلا يمكن فصله وتمييزه ، وقد ابتعد هذا المستشرق اليهودي عن كل منهج علمي مقبول في مقدماته ونتائجه فلم يرجع إلى طبيعة هذا الدين الذي جعل اتباع الرسول فرضاً ، وأنه قدوة وأسوة في أفعاله وأقواله وما ذلك إلا لأنه كان قرآناً يمشي ، وأنه مأمور باتباع الوحي ، كما أنه من ناحية ثانية تناسى المنهج الدقيق الذي اتبعه علماء الجرح والتعديل ونقاد الحديث في انتقاء الأحاديث ، ذلك المنهج الذي قال عنه الأعداء : ” فليفتخر المسلمون بعلوم حديثهم ما شاؤوا ” .


ومن جانب ثالث حصر ( جولد تسيهر ) السنة النبوية المطهرة في دائرة الأخبار التأريخية المتصلة بالدين ــ بمفهومه الضيق الخاص بالصلاة والصوم والأخلاقيات ونحوها ــ فعلى هذا استنتج أن الأخبار التي تنظم الحياة الاجتماعية والسياسية من إنتاج الأجيال اللاحقة ، وبالتالي فهي موضوعة وليس لها قيمة تشريعية .


فقد تناسى طبيعة هذا الدين القائم على الشمولية والكمال ، ورعاية شؤون الدنيا والدين ، وشؤون العقيدة والسلوك ، والاجتماع والاقتصاد والسياسة وكل أمور الحياة والممات (( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ))    .


كما أنه لم يعتمد على مؤلفات العلماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين في تعريف الحديث والسنة ، وعدم فصلهم بين الأخبار الخاصة بالدين ، والأخبار المتعلقة بشؤون الحياة العامة ، حيث صبغوا منهجهم الدقيق على كل الأحاديث المنسوبة إلى النبي( صلى الله عليه وسلم ) وشددوا في أحاديث الأحكام .


ما ذكرته مثالٌ ينبئ عن دهاء أعداء الإسلام في تركيزهم الشديد على إبعاد السنة ،وعنايتهم الخاصة بإبعاد الجانب التشريعي منها بأية وسيلة من الوسائل ، بحيث قد يستعملون كلمة حق ولكنهم يريدون بها الباطل ، مثل : القرآن هو تبيان لكل شيء ولذلك وحده يكفي ، ولكنهم نسوا أن القرآن نفسه لا يمكن أخذ التشريع الكامل منه إلا من خلال السنة ، وتناسوا أنه هو الذي أرشدنا إلى : (( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ))   ، ثم إن هؤلاء في الوقت الذي يقولون هذا القول تراهم في مكان آخر وفي مناسبة أخرى يريدون التشكيك في القرآن نفسه ، وإيهام الناس بوجود التناقض بين القرآن المكي والمدني للوصول إلى سلب نسبته إلى الله تعالى ، وإسناده إلى محمد البشر الذي تتطور أفكاره مع مرور الزمن   ، ومع ذلك حينما يرجع المنصف إلى القرآن لوجده متناسقاً (( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ))    .


وإذا كان هؤلاء الأعداء هذا دأبهم ، وتلك شيمتهم لأن الحقد قد أكل قلوبهم حينما يرون أن أعظم وثيقة محفوظة على ظهر العالم هو القرآن الكريم ، وأن أدق منهج علمي في انتقاء الأخبار هو منهج المحدثين ، فالذي يهز الإنسان ويؤلم القلب ويوجع النفس هو أن بعضاً من مثقفينا يحاولون بشتى الوسائل النيل من السنة المشرفة ، ويركزون على الجانب البشري للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيبعدونه عن التشــريع والتأسي والاقتداء ، ويرددون هذا القول المأثور : ” أنتم أعلم بشؤون دنياكم ”   متجاهلين أن هذا لا يمس الجانب التشريعي القائم على الحل والحرمة ــ كما سنوضحه إن شاء الله ــ .


ومن هذا المنطلق شغلني هذا الجانب منذ فترة من الزمن لكي أقوم بجهد متواضع بهذا الصدد لأوضح مفهوم التشريع ووظيفة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الميدان ، والاستدلال على أن السنة كلها مقررة من عند الله تعالى ، وأن الرسول إذا اجتهد فإن اجتهاده لا يقر على خطأ ، إذن فهو معصوم بعصمة الله إياه ، ثم أوضح ضوابط التشريع من السنة وما جرى فيها من خلاف مبيناً اللبس والخلط اللذين وقع فيهما كثير من الكاتبين المعاصرين ، وملقياً الأضواء على الشبهات والاعتراضات التي وردت بهذا الخصوص .


ثم بعد إثبات أن السنة مثل القرآن في التشريع ، نعرج إلى ضوابط الاستنباط منها على ضوء ما ذكره سلفنا الصالح ، وعلماء الأصول ، حيث أعطوا هذا الجانب كثيراً من العناية لكنهم لم يفردوا كيفية الاستنباط من السنة وضوابطه ببحوث مستقلة ، وإن كانوا قد ذكروا بعض الجوانب الخاصة بالسنة المشرفة ، فأردتُ أن أضم إلى موضوع البحث عن التشريع من السنة هذه الضوابط الأصولية ليكون الموضوع متكاملا ً بإذن الله تعالى .


والله أسأل أن يجعلنا من متبعي سنة نبيه ومحييها وأن يحشرنا تحت لوائه إنه سميع قريب مجيب .


 اعلى الصفحة