لاشك أن الوقف إما أن يكون لصالح شخص وذريته ، أو نحو ذلك مما يسمى في الفقه الإسلامي بالوقف الأهلي ، أو الذرى ، فهذا له طابعه الخاص وتكون إدارته في إطار الشخص الموقوف عليه ، أو ذريته فيما بعد حسب تفصيل لا يهم موضوع البحث .


 وأما أن يكون الوقف على جهة خيرية مثل الوقف على المساجد،أو المدارس،أو الفقراء أو المساكين،أو الأرامل،أو اليتامى أو لمدرسة خاصة،أو لمؤسسة علمية خاصة بدراسة علم معين،أو ابتكار معين .


 وهذا النوع الثاني هو الذي نـتحدث عنه ، حيث يرد سؤال : هل هذه الجهات لو اجتمعت كلها أو بعضها تحت إشراف مؤسسة يكون لكل واحدة منها ذمة مستقلة ، وتعمل على أساس شخصيتها المستقلة ، فلا يجوز التداخل بين حقوقها والتـزاماتها وبين حقوق والتـزامات جهة أخرى أم أنها ينظر إلى كلّ هذه الجهات كذمة واحدة ، وحينئذٍ يحمل بعضها عن بعض ؟


للجواب عن ذلك نقول : إن الأصل والمبدأ العام والقاعدة الأساسية هو الحفاظ على خصوصية كل وقف وكل جهة وإن كانت تحت إشراف إدارة واحدة ، وذلك لضرورة مراعاة أن يكون ريع الوقف لنفس الجهة التي وقف عليها الواقف ، قال البهوتي : ( ويتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة )  .وكذلك الأمر في حالة الالتـزامات ، والتعمير والبناء وذلك من خلال ترتيب هذه الجهات كصناديق خاصة لها ذمتها المالية المستقلة بقدر الإمكان .


  هذا هو الأصل ما دام ذلك ممكناً ولم يكن هناك ما يعارضه ويدل عليه الأدلة المعتبرة على ضرورة الحفاظ على الوفاء بالعقود والشروط إلاّ الشروط التي تكون مخالفة للكتاب والسنة ، أو لا تحقق الغرض المنشود من الوقف ، قال القرافي : ( ويجب اتباع شروط الوقف …، لأنه ماله ، ولم يأذن في صرفه إلاّ على وجه مخصوص ، والأصل في الأموال العصمة … )  .


اعلى الصفحة


 


 قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والمقصود إجراء الوقف على الشروط التي يقصدها الواقف ، ولهذا قال الفقهاء : إن نصوصه كنصوص الشارع يعني في الفهم والدلالة فيفهم مقصود ذلك من وجوه متعددة كما يفهم مقصود الشارع )  .


 ومع هذا الأصل العام فإن الذي يظهر راجحاً هو جواز التصرف في جميع الأموال المرصودة لجهة واحدة ، كالمساجد مثلاً حيث لا بدّ أن ينظر إلى جميع موقوفات المساجد الواقعة تحت إدارة الوقف كذمة واحدة حسب المصلحة الراجحة ، ولكن مع تقديم مصالح الموقوف عليه من وقفه الخاص به على غيره ، وإذا فضل ، أو اقتضت المصلحة غير ذلك صرف منه إلى بقية الموقوف عليه من نفس الجهة وهكذا الأمر في الوقف على جهة الفقراء ، أو المدارس ، أو نحوها .


 


 ولكن يرد سؤال آخر وهو: هل يمكن أن ينظر إلى جهات الخير كلها كأنها جهة واحدة يصرف من ريعها على الجميع حسب أولوية المصالح ؟


 فقد أفتى فقهاء المالكية بذلك حيث جاء في نوازل العلمي : ( الأحباس كلها ـ إذا كانت لله ـ بعضها من بعض ، وذلك مقتضى فتوى أبي محمد العبدوسي ) ، كما نقل فتاوى بهذا الشأن للبرزلي وابن ماجشون وغيرهما ، وجاء فيهما أيضاً : ( قال اصبغ ، وابن ماجشون : إن ما يقصد به وجه الله يجوز أن ينـتفع ببعضه من بعض ، وروى أصبغ عن أبي القاسم مثل ذلك في مقبرة قد عفت فيبني قوم عليها مسجداً : لم أرَ به بأساً ، قال : وكذلك ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعض ، وقد رأى بعض المتأخرين : أن هذا القول أرجح في النظر ، لأن استنفاد الزائد في سبيل الخير أنفع للمحبس ، وأنمى لأجره … )  .


 وقال أبو محمد العبدوسي في الجواب عن جمع أحباس فاس : ( يجوز جمعها ، وجعلها نقطة واحدة وشيئاً واحداً لا تعدد فيه ، وأن تجمع مستفادات ذلك كله ، ويقام منه ضروري كل مسجد من تلك المستفادات المجتمعة … )  .


 


  وأفتى بعض علماء الحنابلة بجواز عمارة وقف من ريع وقف آخر على جهته ، قال ابن مفلح : (ويصرف ثمنه ـ أي الموقوف في حالة بيعه ـ في مثله ) كذا في المحرر ، والوجيز ، والفروع ، وزاد : ( أو بعض مثله ، قاله أحمد لأنه أقرب إلى غرض الواقف ) ثم قال : ( وظاهر الخرقى أنه لا يتعين المثل ، واقتصر عليه في المغني ، والشرح ، إذ القصد النفع ، لكن يتعين صرف المنفعة في المصلحة التي كانت الأَولى أن تصرف إليها ، لأن تغيير المصرف مع إمكان المحافظة عليه لا يجوز ، وكذلك الفرس إذا لم يصلح للغزو بيع واشترى بثمنه ما يصلح للجهاد ، وعنه رواية أخرى : يصرفه على الدواب الحبس ، وما فضل من حصره وزيته جاز صرفه إلى مسجد آخر ، والصدقة به على فقراء المسلمين … واختاره الشيخ تقي الدين ، وقال أيضاً : وفي سائر المصالح ، وبناء مساكن لمستحق ريعه القائم بمصلحته .. ) .


 فهذه الفتاوى لعلماء المذهبين تجيز النظر إلى جميع الجهات نظرة واحدة قائمة على ذمة واحدة حسب المصالح المعتبرة ، والذي يظهر رجحانه هو أن يكون ذلك في دائرة الاستثناء ويبقى الأصل العام في رعاية كل وقف بذاته إلاّ لمصلحة راجحة ، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية من أن يربط التصرف في أموال الوقف بالمصالح الراجحة أكثر من غيرها حيث قال ـ بعد جواز تغيير الوقف وبيعه ـ : ( فَـتُـتبع مصلحة الوقف ، ويدار مع المصلحة حيث كانت ، وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين ـ كعمر وعثمان ـ أنهما غّيرا صورة الوقف للمصلحة ، بل فعل عمر ما هو أبلغ من ذلك حيث حول مسجد الكوفة القديم فصار سوق التمارين وبنى لهم مسجداً آخر في مكان آخر والله أعلم ) .


 


الخلاصة :


    تطرق البحث إلى تعريف الاستثمار ، وحكمه الشرعي بالنسبة للفرد ، والأمة حيث انتهى إلى أنه واجب كفائي على الأمة للأدلة المعتبرة .


 ثم تطرق البحث إلى بيان العلاقة بين الوقف والاستثمار ، ثم ذكر أهم طرق استثمار الوقف قديماً وحديثاً وهي : 


الطريقة الأُولى : الإجارة التي تعتبر أهم الأدوات الاستثمارية للوقف قديماً حتى ربط بينها وبين الوقف ، ثم تطرق إلى بعض خصوصية لإجارة الوقف من حيث المدة ، وأجر المثل وعدم لزوم الإجارة في حالتي زيادة المدة ، وعدم أجر المثل ، ومن هذه الخصوصية أيضاً المزايدة في إجارة الوقف ، والإجارة بأجرتين ، والحكر أو حق القرار ، وحكمه ومدته وانتهاؤه على تفصيل بين الفقهاء ، ومنها المرصد .


الطريقة الثانية المزارعة ، والثالثة المساقاة ، والرابعة المضاربة ، والخامسة المشاركة العادية والمشاركة المنتهية بالتمليك بصوره المعاصرة ، والسادسة الاستصناع ، والسابعة المرابحات ، والثامنة إصدار سندات المقارضة وصكوك الاستثمار الخاصة بالإجارة ، أو بغيرها ، ثم انتهى البحث إلى بيان الشروط العامة لاستثمار أموال الوقف .


 وختم البحث الموضوع ببيان أثر الشخصية الاعتبارية للوقف على تطويره وتنميته ، وهل لأنواع الوقف كلها عند توافرها ذمة واحدة ، أو ذمم مستقلة خاصة بكل نوع ؟ أجاب عنها البحث بوضوح . وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين  والصلاة والسلام على رسوله الأمين  وعلى آله وصحبه أجمعين .


 اعلى الصفحة