أيها الإخوة المؤمنون

إذا تدبرنا آيات القرآن الكريم لوجدنا تركز على كلمة عظيمة تعتبر الأساس في منهج الحياة، وتولي بها العناية القصوى، وتشرحها بشكل دقيق مفصل محكم، وترتب على الابتعاد عنها آثاراً وخيمة في الدنيا والآخرة، كما يجعلها أحد الأسباب الرئيسة في الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.

وقد جعلها الله تعالى من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبرها من أعظم مهامه صلى الله عليه وسلم، حتى يربي الأمة عليها، ويهيئها لتكون خير أمة أخرجت للناس بما تحمل من معاني الهداية والرشاد والسداد، ولتكون هي الأمة المحققة للعدل وتطبيقاته، وتكون الأمة التي يرجى خيرها، فتكون شاهدة على الأمم.

تلكم الكلمة هي "الرشد"، و قد طلب الله تعالى من نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطلب هذه الصفة ويتحلى بها، وأن يتحلى بكل صفة تقربه من دائرة الرشد، فقال تعالى: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}[1].

إن الرشد هو الإسلام، واتباع تعاليمه وتطبيق أحكامه، وهو الاستسلام المطلق لله رب العالمين، { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا }[2].

الرشد نوعان؛ رشد دنيوي، ورشد أخروي، فأما الرشد الدنيوي فهو يتجلى في إصلاح النفس والتفكير في المستقبل والأخذ بالأسباب والاستفادة من الحكمة والدراسات والتحليل، وهذا مطلب إسلامي، إذ إسلامنا دين ودولة وسياسة وتحليل وخير وبركة وقوة، وليس مجرد أمر عادي.

إن الأمم من حولنا تأخذ بالرشد الدنيوي فقط، إذ ليس لها في مجال الآخرة شيء يذكر، أما الأمة الإسلامية فعليها أن تأخذ بالرشد الدنيوي حتى تحقق السيادة المرجوة من خيرها وإرشادها للأمم قاطبة، كما هي مطالبة بالأخذ بالرشد الأخروي الذي ينجو بها من أهوال الأخرة، ويجعلها في مأمن من غضب الله تعالى وسخطه.

وإن من الرشد أن يكون الإنسان في اعتدال ووسط في كل أمر، مع قوة الإيمان والأخذ بالأسباب التي تحقق كرامة الدنيا، من ترك للمنكرات، وهجر للسيئات، والأخذ بزينة الدنيا التي تكون مطية للآخرة التي هي خير وأبقى، قال تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}[3].

بذلك يكون المؤمن قد حقق معنى كلمة الرشد، وعمل بمحتواها، وسار على نهجها، ففاز في الدينا، وسيحظى بالسعادة في الآخرة.

ولأهمية الرشد ومكانته في الدين، بل لميزة الرشد السامية العالية، امتن الله تعالى بها على أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}[4]،وفي ذلك أهمية لا تخفى على الأريب.

ولقد ذكر الله تعالى لنا في كتابه من القصص والعبر ما يأخذ بأيدينا إلى الاتصاف بهذه الصفة الحكيمة العظيمة، حكى القرآن الكريم قصة نبي الله موسى عليه السلام، رسول من أولي العزم من الرسل، مع العبد الصالح الذي آتاه الله الرشد، في ثلاث مواقف، وهي:

  1. خرق السفينة، حيث لم يكد أصحابها يضعون عن كاهلهم عناء العلم عند الآخرين، ولم يفرحوا بعملهم الخاص الذي سيأكلون منه قوت يومهم، ما يجعلهم في غنى وكفاف، ولم يكادوا يمسحوا عن جبينهم عرق العناء في تصميم السفينة والانتهاء من بنائها، وما أن بدأ علمهم حتى آتاهم موسى مع الخضر، يريدان الانتقال إلى الجانب الآخر، فرفض أصحاب السفينة أخذ الأجرة منهما، لما يعلمان من مكانة الخضر في التقوى والصلاح، وإكراماً له ولتلميذه موسى.

فقام الخضر بخرق السفينة وأحدث فيها عيباً ظاهراً بيناً لا يفوت على أصحابه الغرض منها، ولا يطمع فيها من تسول نفسه في الاستيلاء عليها.

واعترض سيدنا موسى على هذا التصرف، إذ لا تجوز مكافأة أصحاب السفينة بهذه المكافأة، وبخاصة أنهم لم يطلبوا منهما أجرة النقل.

  1. قتل الغلام، وهذا أمر أنكر من الأول، إذ الغلام يلهو مع خلانه في ساح الطريق، فيأخذه الخضر ممثلاً القدر الإلهي، ويقتله، استغرب موسى، وامتلكته الدهشة، وقال للخضر: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}[5].
  2. جدار يريد أن ينقض، بعد أن رفض أهل القرية استضافتهما، ولم يقدموا لهما شيئاً من مأكل أو مشرب ليسدا بهما رمقهما، ويستريحا به من عناء السفر، وقعت عين الخضر على جدار آيل للسقوط، فأسرع إلى إصلاحه، وطلب من تلميذه موسى المعونة، ولم يطلب من أهل الجدار أجرة يشتريان به ما يقيم أَوَدَهما، وسيطرت الدهشة على موسى، وقال معاتباً: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}[6].

وبعد هذه المواعيد الثلاثة التي لم يستطع موسى عليه السلام معها صبراً، فسَّر المعلم الخضر له الحقيقة التي دعته إلى تلك التصرفات، وهي تتلى في سورة الكهف، السورة التي سن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتها في يوم الجمعة وليلتها.

يستفاد من هذه القصص الآتي:

  1. أن الله تعالى لا يعمل للعبد المؤمن المعتمد على الله تعالى إلا الخير، وعلى العبد المؤن أن ينظر في عواقب الأمور ومآلاتها، وأن لا يستعجل الشيء قبل أوانه، وعلى المسلم الرشيد أن لا يقدم على فعلٍ إلا بعد دراسة العواقب والنتائج والآثار والأدوات، وهذا ما يسمى في لغة العرف المعاصر بالتحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهو يقوم على مجموعة من المقدمات والمناقشات والدراسات، وهذا ما يفعله معنا الغرب تماماً حيث يدرسون نفسياتنا، وإمكاناتنا وقابليتنا لقبول المستعمر، ويدرسون تفكيرنا، ويستفيدون من كل تصرفاتنا، وقد اطلعت بنفسي على مجموعة من الدراسات في مكتبة الكونغرس تدور حول الحرب العراقية الإيرانية، وقد تمت تلك الدراسات قبل نشوب تلك الحرب بما يقارب 30 سنة، وضعوا لها 27 سناريو، وأدوات وأسباب ونتائج وآثار.
  2. تدل هذه القصص وأخواتها من القصص القرآني على وجب الدراسات وتقريب الأشياء بعد الاعتماد على الكتاب والسنة، ووجوب الاستفادة من تاريخ الأمم وعظاتها، وقد وبخ الله تعالى بني إسرائيل، حيث لم يستعملوا العقل السليم في التفكير الصحيح للاستفادة من قصصها، ولم يرجعوا إلى الله تعالى وكتابه لاستنباط تلك العبر، { أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}[7].
  3. على الفرد أن يفكر في مستقبل أولاده وأسرته، وأبناء دولته وأمته، إذ لا يجوز للقائم على الأمر أن يصرف كل مدخرات الأسرة أو الدولة لجيل واحد، بل عليه أن يفكر في الأجيال اللاحقة، ولا يجوز للدولة أن تضع كل ثرواتها الباطنية والظاهرية لرفاهية جيل واحد، إذ تلك الخيرات لكل الأجيال.
  4. صلاح الآباء أكبر أمن للأبناء، وكذلك فساد الآباء فإنه يمتد إلى الأبناء، وهذا ما يستفاد من قوله تعالى: { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}[8] حتى ذكر بعض المفسرين أنه كان الجد السابع، فأصلحوا حالكم مع الله تعالى يضمن لكم صلاح أبنائكم معكم.

ولقد ضرب الله تعالى لنا أمثلة لمن تاه عن الرشاد، وأورد قومه موارد الهلاك في الدنيا والآخرة، ومن ذلك قصة فرعون مع بني إسرائيل من خلال اضطراب فركه وتردده بين أمرين متناقضين؛ الأمر الأول: ما أريكم إلا ما أرى، والأمر الثاني: وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.

الأمر الأول: الاعتماد على الأنانية المفرطة لا يؤدي إلا إلى الدكتاتورية والاستبداد، ولو كان قد حصل على أكبر الدرجات العلمية في علم الفلسفة والحكمة.

فالحاكم الراشد هو الذي يعتمد على بطانة راشدة صالحة، تذكره بالله تعالى، وتهتم بأمر الأمة، والحاكم الفاسد هو المعتمد على بطانة سيئة لا يهمها إلا نفسها.

وقد فضح الله تعالى فرعون في ادعائه الرشاد، حيق قال: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}[9]، كل شؤونه لا علاقة لها بالرشد، في الدنيا أورد قومه الهلاك، وأضلهم وما هدى، وفي الآخرة {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}[10].

فالرشيد الحقيقي هو الذي يصلح حال دنياه ما يهيئوه للنجاة في الآخرة.

الخطبة الثانية:

هذا هو الرشاد الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معلماً لتكون الأمة خير أمة أخرجت للناس، ولو نظرنا إلى واقع أمتنا وقارنه بالآيات والذكر الحكيم لوجدنا أننا نستحق ما ينهال علينا من المصائب التي تدع الحليم فينا حيران؛ لأننا لم نحقق الرشد الذي ركز الله عليه، ولا ندفع عن أنفسنا ولا عن أمتنا الضرر، ولا نفكر، وإنما نتخبط خبط عشواء، وهذا حال معظم من يتولى أمرنا، وحال معظم القائمين على أمر هذه الأمة.

فما مصائبنا إلا وخزات مذكرة بالعودة إلى الله تعالى، من خلال العقل السليم والكتاب السجل الذي يحتوي على أحوال الأمم السابقة، والسنة المطهرة المسيرة التطبيقية لتعاليم القرآن الكريم.

إن ما يحدث في عالمنا العربي والإسلامي يندي جبين الإنسانية، العالم يقف منها موقف المتفرج الفرح، ولو حدث ما يحدث لأمتنا لحيوان لرأين العالم قائماً لا يهدأ حتى ينتصر لذلك الحيوان.

أمتنا مشغولة غافلة عما يكيد العدو لها، بل يسعى بعض أبناء جلدتنا في هلاك ودمار أمتنا العربية والإسلامية إرضاء للعدو الذي يتربص بنا الدوائر، والبعض الآخر ينفق في سبيل ذلك الأموال التي تعجز عنها العد.

فأين نحن من الرشاد؟

وأين الرشاد منها؟

اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً.

أهم ما ترشد إليه الخطبة:

  1. الرشاد سبب الفلاح.
  2. من مهام الأنبياء والرسل إرشاد أقوامهم.
  3. الأنانية المفرطة طريق الاستبداد والدكتاتورية.
  4. الراشد الحق من يصلح حال دنياه لينجو في الآخرة.
  5. وجوب الاستفادة من عبر وعظات الأمم السابقة التي ذكره القرآن الكريم.

23 / 3 / 2018م

 

 

 

 


[1] سورة الكهف، الآية24

[2] سورة الجن، الآية14

[3] سورة الحجرات، الآية 7

[4] سورة الأنبياء، الآية 51

[5] سورة الكهف، الآية74

[6] سورة الكهف ،الآية77

[7] سورة التوبة، الآية126

[8] سورة الكف، الآية82

[9] سورة هود، الآية 97

[10] سورة هود، الآية98