بسم الله الرحمن الرحيم
ايها الاخوة المؤمنون
أكرمكم الله سبحانه وتعالى وأكرمنا جميعا بأن بلغنا الى هذا الشهر الفضيل، ونسال الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لصيامه وقيام ليله، وأن نلقى الله سبحانه وتعالى على الرضا، وأن يجعلنا من عتقاء هذا الشهر الفضيل، وان يجعلنا جميعا من المرحومين ومن الذين غفر الله لهم في هذا الشهر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الشهر شهر خير وبركة، وأن يجعل أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتقا من النيران.
هذا الشهر الكريم الذي بين الله سبحانه وتعالى فضائله، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مكارمه، فقال سبحانه وتعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ) وحينما يكون الشهر بهذه العظمة، ويكون فيه القران الكريم قد نزل وهو كتاب الهداية والرحمة والشفاء والخير للأمة الاسلامية بل للناس أجمعين ،فإذاً من باب إداء الشكر أن يصوم الانسان هذا الشهر (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
وبين الرسول صلى الله عليه وسلم فضائل هذا الشهر في أحاديث كثيرة تدل على عظمة هذا الشهر، بأنه شهر تفتح فيه ابواب السماء، وتفتح فيه كذلك أبواب الجنة، كما أنه في هذا الشهر تغلق فيه أبواب جهنم، وتصفد فيه الشياطين، وتسلسل مردة الجن حتى يبقى المسلمون بمنأى وعن بعد من مؤثرات خارجية عن نفسهم، وبالتالي تبقى نفوسهم هي التي تحركهم نحو الخير أو نحو الشر، فلا يبقي أي عذر بأن الشيطان فعل كذا أو كذا لاسيما في هذا الشهر رغم أن دور الشيطان ينحصر في الوسوسة حتى خارج رمضان.
وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نؤدي الصوم على حقيقته وأقول الصوم على حقيقته لأن هناك فرقا بين الصوم الذي يصومه الانسان عادة دون أن يؤثر فيه وبين الصوم الذي يتابع الانسان فيه بكل دقة ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وتتأثر نفسه وروحه وعقله وبدنه وجوارحه بهذا الصوم، فالصوم والشهر الذي نصوم فيه مدرسة شاملة، دورة تدريبية كاملة، هذه الدورة التدريبية يراد منها أن يتخرج منها المسلم وهو قد وصل الى أعلى الدرجات التي بينه الله سبحانه وتعالى من مقاصد الصوم، فلم يشرع الله سبحانه وتعالى الصوم لأجل الجوع والعطش، وانما شرعه الله سبحانه وتعالى لأجل تحقيق التقوى حيث قال سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) لماذا يا رب؟ أجاب الله سبحانه وتعالى عن ذلك فقال (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) والتقوى كما شرحها الرسول صلى الله عليه وسلم هي في النفوس والصدور، بأن تصفى النفوس وتصفى القلوب وتطهر من الرذائل والمعاصي والآثام ومن الحقد والحسد، حتى تصبح طاهرة، حتى تصبح هذه القلوب سليمة، وبدون سلامة القلب لن يكون سلامة لعاقبة الانسان (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، فالصوم يريد الوصول الى هذا القلب السليم، وأن يصل الانسان الى منطقة التقوى ودرجة التقوى، وحينما تكون قد وصلت الى هذه الدرجة قد اصبحت من أولياء الله (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) من هم أولياء الله؟ الذين آمنوا وكانوا يتقون.
اذاً يريد الله سبحانه وتعالى بكم ولكم أن تصلوا خلال صيامكم، ومن خلال دخولكم الى هذه الدورة التدريبية الشهرية، أن تصلوا الى هذه المرحلة ، لماذا؟ لأنكم تمتنعون عن المباحات، تمتنعون عن الأكل والشرب، تمتنعون عن الجماع والمعاشرة الجنسية المباحة، تمتنعون عن كل ما منعه الله سبحانه وتعالى لكم وهو مباح طوال ثلاثين يوما، فأنت اذا عودت نفسك على ترك المباحات فكيف لا تترك المحرمات، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في وضع هذا الميزان الدقيق وهذا المعيار السليم وهو “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ”
لذلك شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا اليوم أول الايام، وهذا بركة ثانية حيث يجب أن نبدأ صيامنا بهذه النية، بهذا الروح وبهذا السمو بحيث نصل خلال هذا الشهر الى ان تسمو أرواحنا وتطهر قلوبنا وتطمأن نفوسنا وتصبح قلوبنا زكية طاهرة، لا تفكر الا في الخير، ولا تفكر الا في مصلحة الأمة “لعلكم تتقون” وكلمة لعل في القران الكريم حينما تكون منسوبة الى الله سبحانه وتعالى ليست للترجي، وإنما للتحقق والتحقيق، أي ان الغرض الاساسية من فرضية هذا الصيام هو أن تصل بكم الى هذه المرحلة مرحلة التقوى وهي القمة.
إن مراحل الاسلام ثلاث، الاسلام الظاهري، ثم الايمان الحقيقي، ثم بعد ذلك مرحلة الاحسان كما في حديث جبريل، وهو قد جاء في صورة المعلم لهذه الأمة قال “أخبرني عن الاحسان” والاحسان هو التقوى، والاحسان ربما اشمل من التقوى ولكن الجزء الاساسي فيه هو التقوى، اذا الاحسان هو التقوى والاتقان والابداع في كل شئ ولكن جوهره يدور حول التقوى، لذلك فسره النبي صلى الله عليه وسلم الاحسان – وهو قمة ما يصل اليه الانسان بعد الايمان – الاحسان “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فأنه يراك”. والعبودية هنا شاملة للشعائر كالصلاة والصيام، وكذلك شاملة لكل عمل صالح تعمله أنت في متجرك ومصنعك وسوقك وبيتك وفي كل مكان، فأنت تعبد الله سبحانه وتعالى وتستشعر رقابة الله سبحانه وتعالى، فأنت على درجتين: قمة الدرجتين أن تصل حينما تعبد الله وتصلي وتصنع وتعمل أن تعبد الله كأنك تراه ، فإذا وصلت الى هذه الدرجة فلا ترتكب المحرمات وأنك ترى الله، وكيف كأنك ترى الله وقلبك ليس خاشعا وقلبك مشغول بأمور الدنيا وغير ذلك، وكيف كأنك ترى الله وأنت لا تكون مخلصا ومتقنا وتغش الناس وتكذب وتعمل المنكرات.
فإذا لم تصل الى هذه المرحلة كأنك تستشعر رقابة الله، فهناك مرحلة ثانية لا ثالثة لهما وهي ” فأن لم تكن تران فإنه يراك” ،ولا بد ان تؤمن بأن الله يراك ولا يخفى عليه شئ (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) لذلك لا يمكن أن تخفى من الله خافية ، فأنت لا تسطيع إن كنت صادقا ومحسنا وقد بلغت هذه المرحلة أن تعمل المنكرات، كما كان سيدنا يوسف حينما تزينت له المرأة وهي امرأة العزيز وغلقت الابواب وقالت هيت لك، ومباشرة قال يوسف معاذ الله (لولا ن رأى برهان ربه ) والبرهان هو هذه الحجة القائمة في الصدور والنفوس وهي التقوى التي يراد منها الصيام.
فإذا وصل الانسان الى هذه المرحلة وهي أهم مقصد من مقاصد الصيام، حينئذ تترتب على هذا المقصد مجموعة من السلوكيات، وهذه السلوكيات بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث يقول فيه ويرويه عن ربه ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ، الصوم لي وأنا أجزي به)، الصوم له خصوصية لأنه مرتبطة بالداخل وليس مرتبطا بالظاهر وانما هو بينك وبين ربك لا يعلم به الا الله، ولذلك ترتب عليه هذه الحقيقة، وهو اذا كان هذا الصوم صحيحا وحقيقيا يترتب عليه هذه التقوى، وثم تترتب على هذه التقوى سلوكيات ذكر في نفس الحيث المتفق عليه ” وإن أمرء سابه أو شاتمه وفي رواية أو قاتله فليقل إن صائم، إني صائم” وفي رواية أخرى “إني امرء صائم”
ثم يقول في حديث قدسي “ولخلوف فم الصائم أطيب من ريح المسك” ثم يقول ” للصائم فرحتان فرحة عندما يفطر وفرحة حين يلقى ربه “
ونسأل الله أن لا ينظر الى صيامنا بما يريد الله سبحانه وتعالى وإنما ينظر الى صيامنا برحمته وعفوه ومغفرته وإلا لن ننجو، لن ننجو بأعمالنا، ولكن ننجو بإعتمادنا على الله، وبحسن يقيننا بالله، بأن الله لن يضيع أجرنا مهما كنا مقصرين ما دمنا نحن واقفين أمام أبوابه، فلن يطردنا الله سبحانه وتعالى، وهذا هو ملنا أملنا حينما نتضرع مهما كنا عصاة، مهما كنا مقصرين، ومهما كان صيامنا، ولكن أملنا بالله أنه حينما نتضرع الى الله فإن الله لن يردنا ” قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”
علينا أن نكون دائما بين الخوف والرجاء، ما نغتر كثيرا بهذه الامور، وأنما علينا بذل كل الجهد بأن نحسن من صيامنا ولاسيما في مجال النفوس.
نحن المسلمين اليوم مع أن الله أمرنا أن يكون صيامنا بهذا المستوى من السمو، نرى أن المسلمين في هذا الشهر أكثر الاناس إثارة للغضب والمشاكل، وحتى المشاكل بين الزوج والزوجة، وحتى نسبة الطلاق تزداد في شهر رمضان، على عكس ما يريده الله سبحانه وتعالى من أن يكون هذا الشهر شهرا روحانيا، وإنما نحن ننشغل بدل هذا الجانب الروحي الذي هو المطلوب والمقصود، ننشغل بجانب المظاهر من الأكل والشرب والحلويات، واكثر من ذلك وأخطر من ذلك الجلوس امام التلفاز وأمام المسلسلات التي فيها العري وفيها المخالفات الشرعية الواضحة. فما نفعله من الصيام يبطله هذه الأعمال، واقول دائما إن الشياطين الجن هم يصفدون ويسلسلون ويمنعون، ولكن الشياطين الانس قد قاموا بدورهم خاصة في عصرنا الحاضر . ففي العصور السابقة لما لم تكن هناك المسلسلات والافلام الخليعة كان الناس في راحة منهم، كانوا في راحة من الشياطين الجن والانس إلا من خلال بعض الامور الشخصية، أما اليوم فنحن في داخل كل بيوتنا من خلال التلفاز والانترنت وغير ذلك، أمام مخاطر كبيرة جدا قد لا يكون ذلك مؤديا الى إبطال صومنا بل الى الاكثار من ذنوبنا، وهؤلاء الشياطين الانس يعملون نيابة عن الشياطين الجن طوال أحد عشر شهراً لصنع المسلسلات والمسابقات التي فيها من المخالفات الشرعية لا تعد ولا تحصى، وكل ذلك وكأن هذا الشهر ليس شهر تقوى ليس شهرا روحانيا.
أمتنا اليوم أحوج ما تكون الى الاخوة وصفاء النفوس، لذا اوصيكم واحذركم بأن تحاولوا ضبط هذه الأمور، لأن الصيام هو منع عن المباحات فكيف نحن لا نمتنع عن المحرمات.
والركن الاول للصوم هو النية في كل ليلة، أو طوال الشهر، وليس المقصود النية باللفظ، فبمجرد أك قصدت أنك تصوم ومخلصا لله فقد نويت، واذا كررت النية عند الافطار فهذا امر طيب، فلا يكون الانسان في ريبة بل يحاول دائما استحضار أنك تصوم لله سبحانه وتعالى
والركن الثاني هو الامتناع عن الأكل والشرب والجماع وغير ذلك مما حرمه الله سبحانه وتعالى.
أما مبطلات الصوم ، وحقيقة أنا لا أخاف من مبطلات الصوم الذي ذكره الفقهاء وهو الأكل والشرب والجماع وغير ذلك، إنما الذي اخاف منه هو المبطل الآخر الذي اشار اليه الرسول صلى الله عليه وسلم ” من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ) وهو المحرمات مطلقا، من ارتكب في هذا الشهر وهو صائم من الكذب أو الغيبة او قول الزور فهذا ثواب صومه بالتأكيد باطل حتى لو لم يبطل صومه أي لا يجب عليه القضاء .
الخطبة الثانية
علينا في هذا الشهر أن نلتزم بالضوابط الشرعية وأداب الصيام وواجباته التي من أهمها الاخلاص لله سبحانه وتعالى، وإحضار رقابة الله سبحانه وتعالى، وكذلك علينا بعض الالتزام بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم من تعجيل الفطور، وكذلك تأخير السحور ولا ينبغي أن نترك السحور، والسحور يتحقق حتى ولو بشربة ماء قبل آذان الفجر، والرسول أمرنا فقال “تسحروا فإن في السحور بركة “.
وكذلك علينا بالادعية حين الافطار لأن للصائم دعوة مستاجبة حينما يفطر، وأن لا ننسى هذا الدعاء لأهلنا وأنفسنا ولأخواننا المضطهدين، وكذلك المواظبة على الصلوات في الجماعة وخاصة صلاة الفجر، فمن صلى صلاة العشاء والفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله. وكذلك حضور جلسات العلم والمدارسة في المساجد فإن جلسة ساعة للعلم والفهم والتذكر افضل من ستين ركعة من السُنّة.
وعليكم بالجود والصدقات فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جوادا طوال السنة، ولكنه كان أجود في رمضان كالريح المرسلة. ولا تنسوا اخوانكم المضطهدين في سوريا ودعمكم بالدعاء ومن صدقاتكم، ونحن لا نشك ونحسن اليقين بالله تعالى بأن هذه الثورة تنجح قريباً، ولا تتجاوز شهر رمضان إلا وقد انتصر الثوار في سوريا ليكون عيدنا أعياداً ، فهذه سنة الله تعالى في الظلمة المتجبرين المتكبرين، يمهلهم ولا يهملهم، فقد صب عليهم العذاب على اربعة سابقين من قبل وسقطوا ولم يبلغوا رمضان ونقسم من الله تعالى أن يبرنا في باقي أعوان النظام وأن يفعل بهم كما قال تعالى في قوم عاد وفرعون وثمود {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}
وقد جعل الله سبحانه وتعالى لهذه الامة، في هذا الشهر، مجموعة كبيرة من الانتصارات على الاعداء، ، اكثر من 86 غزوة وانتصارا وفتحا، تحققت في رمضان، بدءا من غزوة البدر الكبرى التي كانت فرقانا بين الحق والباطل، ثم فتح مكة، ثم بعد ذلك جاءت الانتصارات الاسلامية على مر تاريخنا الاسلامي .