أيها الإخوة المؤمنون
حينما ننظر إلى أمراض أمتنا الخطيرة والمؤلمة والمؤثرة نجد أنها تعود في معظمها إلى التربية، تربية الأمة على العقيدة الإسلامية الصحيحة، وعلى قيم الدين الحنيف، وعلى ما يريده الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة.
ومن أهم العناصر التربوية، تربية الإنسان على العزة الإسلامية، إذ العزة لها أوجه ومعان كثيرة، فمنها المية الجاهلية، والعصبية القومية، والاعتزاز بالنفس والكبر والطغيان، وهي ليست من الإسلام في شيء، قال تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ}، ومن معاني العزة العظمة، وقد أسند سحرة فرعون انتصارهم إلى عظمة فرعون، فباؤوا بالفشل والخسران المبين، قال تعالى:{ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}، ومن معاني العزة الاعتزاز بما يملك الإنسان من الأموال والأولاد، دون أن يملك العنصر الأساسي للعزة، وهو العقيدة والقيم والأخلاق.
كل تلك الأوجه غير مقصودة في الإسلام، وليس لها وزن في نظر الإسلام، وإنما العزة في الإسلام أن يملك الإنسان منتهى الاطمئنان والرضا والأمان والاعتقاد بأن الله تعالى بيده الأمر كله، وأن الحياة والموت، والجاه والمال كله بيد مالك الملك سبحانه.
العزة في الإسلام ليست كبرياء ولا ظلماً ولا طغياناً ولا عدواناً، وإنما هو استقرار في النفس واطمئنان وثقة بما عند الله تعالى، وعدم التنازل عن أي مبدأ أو حق لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللأمة، وعدم التذلل للأعداء والكفرة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}.
العزة الإسلامية يبتعد فيها الإنسان عن الذل والهوان، وعن طلب العزة من غير الله تعالى، ومن طلبها من غير الله تعالى فهو آثم مخطئ لم يذق طعم الإيمان، إذ تتجلى حلاوة الإيمان في إسناد كل أمر إلى الله تعالى، وفي كل شأن.
والمؤمن عزيز النفس وثيق الصلة بالله تعالى يرى المذلة لغير الله تعالى كفراً، ويجود بنفسه في سبيل الحفاظ على عزته وكرامته، قال الشاعر:
إذا أظمأتك أكف اللئام |
كفتك القناعة شبعا وريا |
وكن رجلا رجله في الثرى |
وهامة همته فوق الثريا |
فإن إراقة ماء الحياة |
دون إراقة ماء المحيا |
فمن الذل والهوان أن يطلب المرء العزة من غير الله تعالى، وأن يعتز بغير المؤمنين، كما يفعله معظم الطغاة، إذ يخضعون لغير الله تعالى، يبتغون عندهم العزة، ويضحون في سبيل ذلك بالغالي والنفيس، والخضوع لا يليق إلا بالله تعالى، وقد قال السلف الصالح: سجدة بحق لله تعالى تغنيك عن ألف سجدة لغير الله تعالى"، فالمؤمن لا يسجد ولا يركع ولا يخضع إلا لله تعالى، وفي ذلك ارتباط وثيق وتقوية لصلته بالله تعالى.
وقد رأيت أحد الطغاة كان قد كتب على أحد أبواب قصر من قصوره قوله تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فما هي إلا شهور قليلة حتى نزع الله تعالى عنه المُلك ودخل الناس إلى قصوره، وكنت ممن دخل ذلك القصر، وصليت بالناس إماماً، وتلوت هذه الآية في صلاتي، هكذا هي الدنيا، فبين طرفة عين وانتباهتها يحول الله من حال إلى حال.
الإنسان المؤمن يعتقد جازماً بأن الله تعالى وحده مالك الملك وواهبه، والمُلك يشمل القوة والسلطة وما يمكن أن يملك من مال ومادة.
ولقد ذكر الله تعالى لنا قصة إغواء إبليس لأبينا آدم عليه السلام على سبيل العبرة والاتعاظ، وقد أغراه إبليس بالخلد والمُلك، ولما انصاع لنصحه خسر الخلد ونعيم الجنة، وكذلك أغوت شياطين الإنس والجن بعض بني جلدتنا من الذين يؤثرون الانفراد بالمُلك، ويحبون الجاه، ويشتهون السلطة، فتنازلوا عن كل القيم، وقدموا قرابين عظيمة في سبيل الوصول إلى ما يشتهون، ولكن هيهات هيهات وما يوعدون، وأسأل الله تعالى أن يحول بينهم وبين ما يشتهون.، وفي ذلك خسارة لهم في دينهم ودنياهم إلا إن تابوا وأصلحوا، وأخلصوا دينهم لله تعالى.
أي عزة ترتجى من عدو لا يقيم لنا وزناً؟ ولا يأبه بالعرب جميعاً، وبخاصة بالذين يستذلون بين أيديهم، ويهرعون إلى مرضاتهم، ويهرقون في سبيل إرضائهم أغلى ما يملكون؟
بل إن العدو حين يرى صغارهم وهوانهم على أنفسهم يعتبر نفسه صاحب حق، وولي ثروتهم، وأحقَ بها وأهلها، فيأخذ ما يشاء بلا ثمن.
يجب على المسلم أن يربي أولاده على العزة بالله تعالى والاعتزاز بدينه، إذ الاعتزاز بالله تعالى يفجر لدى الإنسان شعور ملكية كل شيء، وإن كانت يداه صفراً من كل شيء، كيف لا يكون لديه هذه الشعور، وقلبه مرتبط بمن يملك كل شيء؟ فلا يخاف ولا يذل والله تعالى حسبه ومولاه.
إن العزة الإسلامية لا تعني أن يكون هناك كبرياء أو تطاول أو ظلم، وإنما المؤمن في الوقت الذي تعتريه العزة يكون ذليلاً مع إخوته المؤمنين، قال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، والمراد بالكافرين هنا هم المحاربون، الذين يناصبوننا العداوة والبغضاء، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، فقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
العزة هو الإيمان القوي في الداخل، ولا يكفي أن يكون سراً بين الإنسان وبين ربه تعالى فقط، بل لا بد أن تسري آثاره وانعكاساته على تصرفاته وأقواله وأفعاله، فلا يعمل شيئاً إلا ضمن مرضاة الله تعالى، ولا يهبط إلى المستويات التي تنغص عليه صفو إيمانه، أو تنحط به عن مدارج السالكين، فلا يذل ولا يستكين لجاه ولا لذي سلطان، ولا لمال ولا لمناصب، بل يعتمد على الله تعالى ويباشر الأخذ بالأسباب.
لثد أحصيت كلمة " العزيز " في القرآن الكريم فوجدته قد ذكرت 99 مرة، اقترنت في معظمها مع كلمتي" الرحيم، والحكيم"، فالمؤمن إذا كان عزيزاً رحيماً حكيماً حلت جميع مشاكله، ولم تبق للأمة مشكلة تستعصي على الحل.
الخطبة الثانية:
من أسباب عدم العزة لبعض المسلمين هو التنازل عن أعظم قضية إسلامية، وهي قضية القدس، والذي نفسي بيده، لا أستصيغ لا شرعاً ولا عقلاً ولا إنسانية ولا قومية أن يتآمر العربي المسلم على القدس، ويشارك ويدفع المال من أجل تمرير ما يسمى بصفقة القرن، وأهم معالم هذه الصفقة هو الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وهذا مخالف لجميع القوانين، وقد تم ذلك ونحن نائمون، ثم تسلسلت بنود صفقة القرن، حيث القانون الذي يعتبر أخطر من الاحتلال نفسه ما أصدره الكنيست بجعل يهودية دولة إسرائيل، وهذا يعني أن لا حق لغير اليهود في العيش في المناطق التي يسيطر عليه الاحتلال.
وشعوراً بآلام الأمة فقد اجتمعنا ما نقرب من نحو 500 عالم من علماء الأمة الإسلامية، معظمهم من غير العرب، اجتمعنا تحت عباءة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقد أصلنا وفصلنا خطورة ما ينتهجه الاحتلال في القدس وفي فلسطين، وبينا أن السبب الرئيس في ذلك راجع إلى التفرقة، حيث بدأت منذ 120 سنة، حين تآمر العدو على الخلافة العثمانية، ومزقوها إلى دول تحت مسميات القومية والاشتراكية وسواهما من دواعي التفرق والتشرذم.
وتواصل هذا الشرخ حتى وصل إلى آخر ما كان متحداً وموحداً تحت ما يسمى بمجلس التعاون الخليجي، ومزقوا هذا التعاون وفرقوه قبل صفقة القرن، ولم يكن ذلك اعتباطاً، حتى من يحاصر دولة قطر لا يملك مبرراً لذلك، إذ لا يملك إلا التنفيذ.
شمل هذا الحصار البر والبر والجو، وقد بينا في اجتماعنا خطورة ذلك، ولم يقف الحصار عند هذا الحد، بل تجاوز حتى مسَّ الشعائر الدينية، بوضع العراقيل أمام حجاج بيت الله الحرام.
ليست العزة اليوم لله ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم، أصبح بعض بني قومنا ينشد العزة في محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويقف مع العدو نداً لأمته وقضاياها المصيرية، وأصبحت العزة لشياطين الإنس والجن الذين يخدمون مشاريع الأعداء.
اللهم أصلح أحوالنا.
الجمعة 3 / 8 / 2018